تراود أبناء اليسار أسئلة تتعلق بمجمعيات القياس أي الحدود الفاصلة بين أركان الجدلية المجتمعية والمعبر عنها بالموقع من القوس السياسي، يميناً ووسطاً ويساراً. فلكل خيار سياسي أنصار ومريدون، سواء انتمى إلى منظومة ايديولوجية معلنة، أو اهتدى واقعاً بتعاليم ومدارس وسار على منهجها، لأن الهوية الفكرية تلازم دوماً وعضوياً الممارسة السياسية وتسبغ عليها علامات التعريف، والكل حامل بطاقة وجواز سفر في غمار الحراك والمنافسة. قد يبدو اللون صريحاً وواضحاًعلى طرفي المعادلة، وباهتاً في المنطقة الرمادية الفاصلة حيث ترتدي الانتقائية ثوب البراغماتية والتجريبية، إنما في نهاية المطاف، ثمة محدّدات أكيدة لا يخلو منها علم السياسة تفضح التستر والتغليف، وتعيد الأمور إلى نصابها. تكمن الاشكالية في المضامين، وقلّما تجد مفتاحها في الأوصاف. فالمسألة ليست في ما ينسب فريق أو فصيل لنفسه من صفات او يختار عنواناً لتشكيله، اذ ان كل حقبة تاريخية عرفت ميلاً إلى اعتماد رائج السمات، والاحتماء وراء كنية مضللة كسباً للسباق في مضمار استمالة أوسع القواعد والجمهور. هكذا نادت النازية بالاشتراكية الوطنية والفاشية بالنظام الجديد، تجاوباًَ شكلياً مع روح العصر آنذاك. وعلى غراره، ارجعت أحزاب شمولية علَّة وجودها وغايتها إلى انبعاث الأمة في بلدان تابعة، وصادرت رسالة التحرر الوطني. كذلك تهافتت تنظيمات تقليدية محافظة على التجلبب بالديموقراطية تعبيراً عن المعافاة بعد الحرب العالمية الثانية، ولبست صيغ الانقلابات في اميركا اللاتينية، على اختلاف القائمين بها من مُغامرين وطغم عسكرية، قناع الثورة الدستورية. وعلى مقربة زمنية من حاضرنا، مع انفراد الولاياتالمتحدة بالأحادية القطبية وشيوع موجة العولمة بحلتها المعاصرة، باتت الليبرالية غلافاً وذريعة للتملّص من الاصلاح وإخفاء ترهل البنى وضعف المؤسسات الديموقراطية. أصابَ انهيار الاتحاد السوفياتي اليسار في الصميم، عالمياً، وان بتفاوت على صعيد تكاوينه وتلاوينه تبعاً للأمميات والعائلات. طاولت التداعيات جميع أهله أياً تكن مواقعهم واصطفافاتهم السابقة، وطرحت على كل أتباع المنهج الاشتراكي إعادة قراءة الواقع في ضوء المتغيرات البنيوية وانحسار المنافسة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، من ضمن مراجعة نقدية شاملة تجرؤ على الاعتراف بحجم المصاب ووقع الزلزال. ومن النافل أن الفكر المُؤسِّس الذي نهض على مقولة التقدم الثابت للبشرية وسط التعرّجات كفيل بالابقاء على بوصلة فاعِلة لتوجيه المسار وتلمّس المعايير التي تصوِّب التقويم وتمهِّد لبلورة القضايا العقدية التي ترسم وجهة التقدم. تستدعي المراجعة ورشة عليها الاعتناء والنهوض بمهمة مزدوجة تتناول ما أهملتهُ التجربة الاشتراكية السابقة وأفضى الى جملة من الأخطاء والتشوّهات التي ضربت الخلاصة المثالية وأفقدتها الرونق التاريخي والسِّمة الطليعية، من جهة، وكيفية مقاربة الواقع الحالي المعولم بالنقد وبطروحات بديلة واعدة من منطلق الايمان بحتمية التطور وقدرة البشرية على ابتكار أدوات المضي إلى الأمام، المعرفية والفكرية وتلك المؤطِّرة للحراك الاجتماعي من جهة ثانية. إن شرط ذلك الوفاء والالتزام بالمنهج العلمي المؤسس والعودة إلى جذوره، أي إعمال الجدلية في صلب البحث وإنزالها على حقيقتها وسيلة لفهم الواقع واستشراف سُبُل تخطيه والعبور الى الامام بالأفضل الممكن والمُحفّز. لم يعد يخفى أنّ الاشتراكية السوفياتية ابتعدت، عقب انتصار ثورة أكتوبر بسنوات قليلة، عن مسالك الديموقراطية وصادرت حرمة الفرد بتذويب دوره وارادته الحرة في اطار جنوح مُغالٍ وجامد نحو نزعة الجماعية، انتهى بعبادة القائد في الحقبة الستالينية التي أورث الخلاص منها سيطرة الحزب بنواتهِ وهيئاتِهِ القيادية حصراً، وعلى مرّ السنين، فقد قالب الاشتراكية المحققة معالم أساسية من الأنسنة، والعديد من عوامل تفوقه النظري المفترض على الرأسمالية، ما أفقد المجتمع مناعته وأفرغ جعبة آماله المعقودة على بناء عالم جديد. فثمة حقيقة ينبغي اعلانها بلا أسباب تخفيفية ولا محاولات تبرير أو تورية بالاضاءة الجزئية على المكتسبات والانجازات وهي أن تصفية الاستلاب أو الألينَة بصيغة الاستغلال الرأسمالي لم تؤد الى تحرير المقهور مادياً واجتماعياً قياساً بنظيره في الغرب، والى استعادة الانسان مكافأته كأغلى رأسمال، بل أثقلت عليه بقيود من صنع ماكينة دولتية قزَّمَتْ شخصيته وعطَّلت طاقته على المبادرة وحلم التألق وتحقيق الذات، فيما سلخت عن مكتسباتِهِ المؤكدة في مجالات العلم والرعاية والأمن طابع الكفاية وعنصري الرضى والشعور بالحماية والمساواة. وفي مجال يتصل عضوياً بالحقل النظري، ويُقوِّضُ رُكناً أساسياً من دعائم المدرسة الماركسية، تبين بالممارسة قصور مقولة كبح الرأسمالية لتطور وسائل الانتاج ووقوفها عائقاً تاريخياً أمام تعاظم قدرات البشرية أي إيقاف عجلة التحوّلات العميقة بفعل الثورة العلمية وبعجز الرأسمالية عن استيعاب وترجمة مفاعيلها. كما فشل الوعد/ الرهان بتوقع كسب المنافسة الاقتصادية مع النظام الرأسمالي وتجاوز المستوى الذي بلغه في الميادين والقطاعات الأكثر تقنية وحداثة، بناءً على قياس"مُؤسطر"واستنتاج مضخم قائم على السباق السوفياتي الناجح في الفضاء والصناعات العسكرية، وهي إنجازات باهرة تمَّت على حساب مجمل الاقتصاد السوفياتي والرخاء الاجتماعي، ولم تفلح في تعميم ثمارها ودفع سائر مرافق الاقتصاد نحو مزيد من الانتاجية والجودة وإدخال التقنيات الحديثة إلى بنية الاقتصاد. تقادمت المنشآت الصناعية الكبرى وبقي سوء توزيع السلع والمنتجات آفة مزمنة، زادَ من تفاقمها فساد مُستتر تفشى في القطاع التعاوني، مما أقعد المواطن في إطار عيش مادي مُنمَّط يفتقر الى الجاذبية ومحاسن النوعية، وجعله في لهفة لتلقف الآتي من الغرب، صُوراً وعناوين مقارنة للحياة اليومية ومستوى الرخاء، في حين خنقت التدابير الأمنية والأجهزة توقه السلافي الأصيل إلى روحانية مُغيَّبَة استمرت دفينة في الوجدان الشعبي وعصية على الاقتلاع رغم الكلام الوردي عن الانسان السوفياتي الجديد من دون نسيان شعوب آسيا التي أظهرتها الدعاية مُنصهرة متآلفة، بينما حافظت بمعظم شرائحها على النسق التقليدي والرابط الديني والمرجعية القومية على هامش الحداثة المدينية والمعاصرة. أطاحت الأحداث بالبناء السياسي المُوحَّد كقصر من ورق بسرعة مذهلة، واندثرت قواعد هندسة فاقت سبعين عاماً، جارفةً معها منظومة الاشتراكية القيمية البريئة أصلاً من تهم الشمولية والجمود العقائدي والغربة عن الأنسنة وعدالة التاريخ. وللأمانة، فان المبادىء السامية وقعت فريسة معيارية النظام الخاطئة وهاجس الحفاظ على مناعة الدولة دولة العمال والفلاحين المهدِّدَة من الاعداء على حساب الحريات الفردية والمبادرة والطوعية والثقة بالمجتمع على قاعدة الخيار والمفاضلة. ولكثرة الصعوبات من اجتياحات وحروب وارهاصات، رُفع مفهوم السلطة إلى مستوى القداسة، واحتلّ الفكر الكنسي المحنَّط والمقلوب مساحة الجدلية والمراجعة، جاعلاً من العفوية مكمن خطر، ومن الجماعة مصدر قلق ومن المجتمع الحيّ الخلاَّق ظهيراً صامتاً ومنفذاً للتعليمات. لكن عورات تجربة قاسية لم تتمكن من محو المضيء القادم من رحم الفكر الاشتراكي الذي تجسد في أكثر من ميدان وانجاز وابداع ومكسب، حيث لم تحجبه أو تعتوره البيروقراطية وغلب عليه الأمني الضيق. ولئن تكاثرت وتعددت الأخطاء الجسيمة على خلفية تطبيق الاشتراكية في بلد شاسع اوتوقراطي لم يحظَ بادئاً، ولا عبر حربين، أهلية وكونية مُدمِّرة، بما يُؤهله بنيوياً لخوض التجربة وانضاجها في ظروف ملائمة، استطاعت المرجعية الاشتراكية المؤسسة غرس مبادىء وغايات غير مسبوقة تاريخياً، كان من حصادها الوثوق بمعطيات العلم والعقلانية والواقعية عموماً وإشاعة روح السلم والتضامن الأممي والسعي لإزالة الفوارق الطبقية غير الموفق على صعيد قلة من الطبقة الجديدة ورفع راية المساواة، وتنمية المشاعر الوطنية كما تشهد عليه وقائع الحرب العالمية وقدر محترم من العناية بالجمالية وتكريم الإبداع، ورسالة الألفة واحترام ثقافات الشعوب والعمل لتعايش الحضارات، وتلمس الحاجة البيئية وتزخيم التقديمات الاجتماعية في العالم والمساواة بين الجنسين وخاصة تلك المسحة الرائدة في العناية بالطفولة وعمل المرأة وحرية الجسد. إنّ بإمكان التقدمي المعاصر ملء جعبته برزمة نماذج من قماشة أصيلة جرحها الايغال الشمولي ونجت من الانحراف والخلل في التطبيق. فقدت المبادىء الاشتراكية الدفع وبعضاً من قوة المثال، لكنها لم تصدأ وما زالت مصدر ايحاء ودليلاً إلى مواقف وخيارات من صلب الحداثة والمعاصرة، شريطة المحافظة على قاعدة الواقعية الذهبية والعزوف عن تغليب الذاتي على الموضوعي واستحضار الاسطوري عوض القائم المعاش. وذلك يدعو تلقائياً إلى طلاق ذهنية المعسكرين والكف عن البناء على معادلات الحرب الباردة ومواجهة العولمة على حقيقتها لا على صورتها المؤدلجة والأحكام المسبقة التي تجعل من مفاعيلها كتلة شرور. والأهم مقاربة وقراءة المستجدات، وأخصها الأحادية القطبية الراهنة، بمنطق الجدلية الذي يحمل التفاؤل بعدم نهاية التاريخ، وبانفتاح الأفق أمام البشرية بفعل صيرورة حتمية ذات محرك اجتماعي يستمد طاقته من الثورة العلمية الهائلة وابتكارات العقل وانخراط مجموعة عريضة من الشعوب في تحديد معالم المستقبل ودخولها حلبة المنافسة في الميادين كافة. إن الموقف التقدمي في عالم اليوم، كما وبالأمس، رهنٌ بمواءمة النقد والانحياز الى المستقبلي الواعد أي نبذ الماضوي وعدم التعويل على ساكنيه لاستيلاد واقع أفضل، لمجرد مشاغلتهم"للامبريالية"بالعنف والارهاب وعدائهم المعلن لها، لأن دوافعهم من حقل العصبية والحقد على الحداثة، ومرجعيتهم تنفر من معايير الحاضر والميراث الحضاري المتراكم، باعتبار التاريخ ركام مظالم ومساوىء ينبغي تدمير هيكله والعودة الى العصر الذهبي السحيق. ثمة قضايا معاصرة، وجميعها اشكاليات أفرزها المسار باتت تتصدر سلم الأولويات والاهتمام في هذه الحقبة بمثابة المحددات لتكاوين التقدمي وانشغالاته، من بيئة وتبدل مناخي وضوابط البحث العلمي الأخلاقية وتصحّر وأطر حماية الحريات واحترام كيان الأفراد ومحاربة الأمراض الوبائية وتصفية جيوب العنصرية وحوار الحضارات، وجميع ما يمس كرامة الانسان من بطالة وتمييز فئوي وعمري ونهب ثروات في القرية الكونية المشتركة. ولصون هذه المهمات حاضنة موثوقة عنوانها الديموقراطية بالمعنى العريض الشامل أرادته الاشتراكية نهاية للاستغلال وإعادة اعتبار للضعفاء وحقهم في تقرير المصير، وأغنتهُ بمضامين اجتماعية نصاباً للتاريخ. تبدَّلَ العالم وتكيَّفت معه الرأسمالية في مناخٍ تحت تأثير المُناهضة الاشتراكية ونضالات العمال والشعوب المقهورة، عاندت وما زالت في الجوهر وعاء الاقتصاد العالمي وظاهرة في حقبة تاريخية قابلة للزوال. غير أن مجريات العولمة لا تشير الى أفول قريب أو بلوغ نظامها حافة الانهيار، ويبقى ميقات أجلها متروكاً لاجتماع عوامل التاريخ. غير أن الديموقراطية الحقة تفرد متسعاً هائلاً للقائلين بالتغيير والعاملين من أجله، تؤازرهم القفزة العلمية وشيوع ثقافة الحياة والمساواة. وإذا كان قانون التطور يفيد بتعذر إيقاف عجلة التاريخ - وهو دليل التقدمي بامتياز - فإنّه، في الوقت ذاته، ينهى عن استعجال ولادة الجديد قيصرياً والمغامرة غير المحسوبة النتائج. فليس كلّ لمَّاع ذهباً، وما من شعارات غيَّرت وجه التاريخ. وحيثُ لم تجدِ الطوباوية، على براءتها، في تحقيق الحلم، فان ما يطرح اليوم من مقولات سوداوية تتوسّل العنف المنهجي وتراهن على حملة السلاح بمعزل عن نوازعهم العصبوية ودوافعهم الأصوليّة، يُغالط قضية التحرّر التي يصبو إليها لأنها ليست إلاّ غلافاً لمراد نقيض في الأصل، ولرؤى حبلى بكوارث الاستبداد تعدُّ للعقل والاخاء سجوناً وتزدري بالمدنيّة والمصالح الحقيقية للناس. * كاتب لبناني