يكاد الفيلم الإيطالي "مخرج حفل الزفاف" المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان دمشق السينمائي الدولي، يختصر حكاية السينما في أكثر من مكان من العالم، وربما يختصر بعضاً من حكاية مهرجان دمشق نفسه. وهو هنا في هذا المقام يختصر طريقة النظر إلى المواضيع السينمائية بتغيير زاوية النظر إليها في عالم متبدل ويتجدد في كل ثانية. ليس في الأمر أحجية من أي نوع. إذ يبدو مهرجان دمشق في دورته الخامسة عشرة هذه وكأنه يعيد اكتشاف نفسه من خلال تبديل زاوية النظر، على رغم أنه قطع شوطاً كبيراً في عدد تنظيم دوراته عبر كل عامين مرة، وهاهو يصبح سنوياً قبل أن تستقر أحواله مع هذه الدورة على محاولة إيجاد هوية يمكن القول عنها إنها تشكل بحثاً عن هوية مضادة. هذا إذا ما أخذنا في الاعتبار من الآن فصاعداً أنه سيغدو مهرجاناً"مفارقاً"لبعض المهرجانات العربية التي بدأت تنتشر في الآونة الأخيرة وقد أخذت على عاتقها مهمة تصريف شؤون"البزنس"السينمائي، بدل الانشغال بصناعة خصوصية تحدد ملامحها وهويتها في عالم متقلب ومتبدل على نحو خطير، يزعزع الكثير من القناعات والمسلمات في الوقت نفسه. مخرج حفل الافتتاح ظهر المخرج والممثل السوري ماهر صليبي مخرجا لحفل الافتتاح للمرة الثانية على التوالي. وهو شاء بخياراته الفنية أن يعكس قراءة أهل المهرجان للشعار المرفوع بعنوان"بعيون السينما نرى". فقد بدت اللوحات الفنية وكأنها تختصر رسائل المهرجان الى أصحاب الشأن في كل الاتجاهات، وهي استعادت كباراً راحلين من أمثال انطونيوني وبرغمان ومارلين ديتريتش مع مقاطع من أفلامهم، واستعاد حتى سينمات سطعت شموسها الجميلة ذات يوم، وربما أفلت بحسابات العالم المتقلب اليوم، فهي سينمات قطاع عام بالدرجة الأولى مثل احتفالية السينما الجزائرية مؤسسة السينما المصرية. وكأنها تود القول إن بعض أجمل ما قدمته السينما العربية كان من اختصاص أهل القطاع العام الذي رسم لها هويتها وحافظ عليها من الاندثار. بالطبع لا تعكس هذه الاحتفالات نوعاً من الترحم على الماضي الآفل الجميل، فهذه بعض أفلام أصبحت لها حظوة كلاسيكية تصنع الهوية والخصوصية، ولكنها لا تمنع من توجيه رسائل الى نجم كبير من نجوم القطاع الخاص السوري ان كان عبر تكريم دريد لحام أو استعادة أفلامه مع نهاد قلعي، وهي الأفلام التي شكلت في يوم من الأيام عماد الإنتاج الخاص في سورية. من هنا يمكن القول إنه يمكن للباحث السينمائي أن ينظر الى رسائل المهرجان المبطنة بوصفها عنوان المرحلة المقبلة، خصوصاً أن أروقة المؤسسة العامة للسينما السورية تتداول خبراً مفاده أن المؤسسة ستتسلم في العام المقبل عشر كاميرات رقمية جديدة ستزيد من دون شك حجم الإنتاج السينمائي السوري، وستزيد بالتالي من حجم الثقة في سويته الفنية. يعكس حفل الافتتاح إذاً تصوراً عن السينما التي يريد مهرجان دمشق أن يرسخ من خلالها هويته، فالدورة الخامسة عشرة لن تكون كسابقاتها، كما يرى مدير المهرجان محمد الأحمد في حوار معه، فهو سيلقي بأعباء جديدة على الدولة المضيفة، إذ ستغدو زيادة حجم الإنتاج عنوان المرحلة المقبلة ومن أولى مهامه. وإذا كان الحضور في حفل الافتتاح قد صفق مطولا للنجمة الفرنسية من أصل برازيلي فرانسواز بريون وهي عضو لجنة تحكيم الأفلام الروائية الطويلة حين قالت إنها ستدعو مدير مهرجان كان"ليتعلم كيف يمكن أن يكون حفل الافتتاح"، فهذا لأنها في الوقت نفسه كانت تسهم في شكل أو بآخر بالإشارة الى الهوية التي يصبو اليها المهرجان من خلال بحثه عن البساطة والاتزان في الافتتاح واختيار الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية، وهي أفلام تتصف بالإنتاج غير المكلف والذي لا يخضع للمنظومة الهوليوودية بالعرف السائد. فيلمان سوريان يجيء الفيلم السوري"الهوية"للمخرج غسان شميط، وهو ثالث أفلامه الروائية الطويلة ليضعنا مجدداً أمام"خلية"القضايا الكبرى وان كان عبر قصة خافتة نسبيا، إذ تعود قضيتا فلسطين والجولان لتحتلا واجهة اهتمامات السينما السورية، ولكن على خلفية قصة فيها الكثير من الجدة والابتكار، وان كان المخرج قد أضاع بعض بريقها في اختياره للأمكنة التي دارت فيها أحداث قصته. هذا الكلام قد يبدو غريباً بعض الشيء إذ وجد البعض - وهذه من خاصيات شميط نفسه - أنه قد برع من قبل باختيار أمكنة أفلامه الى درجة أنها تقاسم شخصياته البطولة. لكن المكان هنا تسلط بطريقته على مجريات القصة فأفسد بعض الجدة فيها ووضع الشخصية الرئيسة في الفيلم في قالب الراوي الذي يقف على الرواية محايداً وليس من خلال تطور شخصيته في نسج الرواية نفسها. بالطبع هذه ليست دعوة لتدور الأحداث في مكان آخر، ولكنها دعوة تتناسب مع الشحنة العاطفية الجميلة التي تحملها القصة نفسها. يحكي فيلم"الهوية"قصة الشاب عهد، المقيم في شمالي فلسطين والذي تقمص روحاً أخرى لشاب آخر اسمه فواز كان قد انتحر بسبب قصة حب عارمة عاشها مع صبية من أهل قريته ولكنها زوجت لابن عمها. هذا الشاب يعيش في إحدى قرى الجولان السوري المحتل. وتبدأ القصة من اللحظة التي تنفتح فيها الكاميرا على كتلة من الطين بين يدي عهد وهو يعجنها ليصنع منها إناء معلناً أمام أمه وأبيه أن أبا فواز الذي يعلن مكبر الصوت في القرية عن"وفاته"هو أبوه في الواقع ويقرر الذهاب في وفد العزاء مع بعض شيوخ القرية. على العكس من الهوية يجيء فيلم"خارج التغطية"لعبداللطيف عبدالحميد، فهو يشكل غوصاً في مدينة دمشق، ويشتغل على جمالياتها المخبوءة في سابقة ستحسب له على أية حال، وكأنه يريد أن ينصفها بصرياً بعد أن" انتهكت"تلفزيونيا درجة الاملال والتسطيح. يقدم المخرج هنا قصة قاسية وصادمة عن رجل يكاد يضّيع صمود عشرة أعوام على رغم أنه حر، لكنه أسير زواج تقليدي. فعامر فايز قزق الذي يعمل في الحلويات وسائق تكسي ومعلم لغة عربية ? دروس خصوصية ?، يعيش مع زوجته سلمى وابنه زهير، ولكنه في الوقت نفسه يعمل على تلبية طلبات زوجة أعز أصدقائه المعتقل لعشر سنوات، فهو يسهر على طلبات الزوجة وابنتها الصغيرة من دون ملل، ولكنه أسير بيت وزوجة تقليدية، وكأنه مغيب بطريقة أخرى. وهو يخنق رغباته تجاه زوجة صديقه ندى صبا مبارك، وتكاد رغباته بالتحرر من سجنه الخارجي تجعله ينقاد وراء نزوة مجنونة بالدس على صديقه من أجل الاستمرار بحبسه على رغم أنه قضى عشرة أعوام يبحث عن واسطة لإطلاق سراحه. "خارج التغطية"وإذ يغير قليلاً أو كثيراً في صورة دمشق التلفزيونية، فإنه يقدم لنا نجمة صبا مبارك بدور سيذكره الجمهور السوري طويلاً. "شيطنة" نادين لبكي "سكر بنات"للمخرجة اللبنانية نادين لبكي لقي اقبالاً كبيراً من الجمهور السوري، وهو إقبال من نوع الشغف بالشيء، وربما يكون شغفاً من النوع المركب الذي تنطلق منه المادة الرئيسة التي تصنع منه مادة بسيطة سينشأ الفيلم عليها، إذ تبدو هذه المادة السكر المحمى هنا وكأنها تكتشف للمرة الأولى ويعاد إفشاء سرها فقط في فيلم نادين لبكي على رغم أنها معروفة لدى نساء منطقتنا العربية وتستخدم من قبلهن منذ زمن طويل. هذه المادة التي أصبحت سحرية في الفيلم وان كانت تبدو"منفرة"خصوصاً أنها ترتبط ببعض أسرار المرأة الخاصة، تصبح هنا مادة للشغف نفسه. بالطبع ليس الموضوع موضوع مزيج الليمون والسكر الذي تصنع منه هذه المادة، لا ليس الأمر كذلك، ولكن الموضوع له علاقة بالمادة التي تزيل الفروق بين المرأة والمرأة بغض النظر عن أي فروقات مجتمعية أو دينية أو طبقية، فهي هنا المرأة تصبح نظيفة ومتساوية وبعيدة من التناقضات التي تعيشها وتحملها وهي في طريقها الى صالون الحلاقة النسائية في مدينة بيروت."سكر بنات"يحوي في داخله بعضاً من شيطنة نادين لبكي البصرية، فهي أضفت بحضورها داخل فيلمها كممثلة سحراً يقابل التعرف على تلك المادة الطيبة المذاق والتي تكتشف لأول مرة من أجل أن تواصل لبكي إفشاء أسرار الحب الذي يمكنه أن يحفظ جميع البشر. نعم مادة"العقيدة"كما يقال لها في بعض بلاد الشام لا تشبه ذاتها، فهي قبل فيلم نادين لبكي ليست هي نفسها بعد مشاهدة الفيلم، الذي يحكي يوميات أربع صبايا عاملات في صالون للتجميل. يمكن قول أشياء كثيرة عن مهرجان دمشق الذي يختتم فعالياته غداً السبت، فهو يؤسس لهوية جديدة على نحو مفارق، ويحتضن أفلاماً غير مكلفة لتتسابق في رحابه، بل هي متقشفة انتاجياً، ويمكنها أن تذهب الى المهرجانات ودور العرض في نفس الوقت. بهذا المعنى إذا كان فيلم"مخرج حفل الزفاف"الذي يحكي قصة بسيطة عن عمل فيلم داخل فيلم وهذا أمر مشروع سينمائياً، فإن مهرجان دمشق في دورته الجديدة يصنع لنفسه هوية جديدة من قلب دورات استمرت على مدى سنوات طويلة.