«الإحصاء»: 1.8% معدل انتشار الإعاقة من إجمالي السكان في السعودية    الجمعية العليمة السعودية للصحة العامة ساف تشارك في مؤتمر يوم الابحاث    علامة HONOR تعلن عن رعايتها لمسابقة إجادة اللغة الصينية بعنوان "جسر اللغة الصينية" في المملكة العربية السعودية    ملتقى النص المعاصر: احتفالية شعرية وفنية تُضيء سماء نابل    سفير إندونيسيا لدى المملكة: "مبادرة طريق مكة" نموذج من عناية المملكة بضيوف الرحمن    وزير الصحة الماليزي: نراقب عن كثب وضع جائحة كورونا في سنغافورة    مستشفى دله النخيل ينهي معاناة عشريني يعاني من خلع متكرر للكتف وكسر معقد في المفصل الأخرمي الترقوي    الديوان الملكي: تقرر أن يجري خادم الحرمين فحوصات طبية في العيادات الملكية في قصر السلام بجدة    رياح مثيرة للأتربة والغبار على أجزاء من الشرقية والرياض    بيريرا: التعاون فريق منظم ويملك لاعبين لديهم جودة    وادي "الفطيحة" أجواء الطبيعة الخلابة بجازان    موسيماني: ما زالت لدينا فرصة للبقاء في "روشن"    الأوكراني أوزيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع في الرياض    ولي العهد يستقبل مستشار الأمن القومي الأمريكي    شهداء ومصابون في قصف لقوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة    رفضت بيع كليتها لشراء زوجها دراجة.. فطلقها !    خبير سيبراني: تفعيل الدفاع الإلكتروني المتقدم يقي من مخاطر الهجوم    مقتل 3 فلسطينيين على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على رفح    لقب الدوري الإنجليزي بين أفضلية السيتي وحلم أرسنال    صقور السلة الزرقاء يتوجون بالذهب    السفارة السعودية في تشيلي تنظم حلقات نقاش بعنوان "تمكين المرأة السعودية في ظل رؤية المملكة 2030"    خادم الحرمين يأمر بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    تنظيم جديد لتخصيص الطاقة للمستهلكين    330 شاحنة إغاثية إلى اليمن وبيوت متنقلة للاجئين السوريين    اشتباك بالأيدي يُفشل انتخاب رئيس البرلمان العراقي    البرق يضيء سماء الباحة ويرسم لوحات بديعة    الماء (2)    جدول الضرب    «التعليم»: حسم 15 درجة من «المتحرشين» و«المبتزين» وإحالتهم للجهات الأمنية    قرى «حجن» تعيش العزلة وتعاني ضعف الخدمات    اطلع على مشاريع التطوير لراحة الحجاج.. نائب أمير منطقة مكة المكرمة يتفقد المشاعر المقدسة    زيارات الخير    محتالة تحصل على إعانات بآلاف الدولارات    المقبل رفع الشكر للقيادة.. المملكة رئيساً للمجلس التنفيذي ل "الألكسو"    27 جائزة للمنتخب السعودي للعلوم والهندسة في آيسف    انطلاق المؤتمر الأول للتميز في التمريض الثلاثاء    طبخ ومسرح    مواقف مشرّفة    عبر التكنولوجيا المعززة بالذكاء الاصطناعي.. نقل إجراءات مبادرة طريق مكة إلى عالم الرقمية    للسنة الثانية.. "مبادرة طريق مكة" في مطار إسطنبول الدولي تواصل تقديم الخدمات بتقنيات حديثة    سمو ولي العهد يستقبل الأمراء والمواطنين    «تيك توك» تزيد مدة الفيديو لساعة كاملة    تحدي البطاطس الحارة يقتل طفلاً أمريكياً    دعاهم إلى تناول السوائل وفقاً لنصائح الطبيب.. استشاري: على مرض الكلى تجنّب أشعة الشمس في الحج    مختصون ينصحون الحجاج.. الكمامة حماية من الأمراض وحفاظ على الصحة    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    كيان عدواني غاصب .. فرضه الاستعمار !    الهلال يحبط النصر..    كيلا يبقى تركي السديري مجرد ذكرى    وزير التعليم: تفوّق طلابنا في «آيسف 2024» يؤسس لمرحلة مستقبلية عنوانها التميّز    الخبز على طاولة باخ وجياني    أهمية إنشاء الهيئة السعودية للمياه !    الرئاسة العامة تستكمل جاهزيتها لخدمة حجاج بيت الله الحرام هذا العام ١٤٤٥ه    قائد فذٌ و وطن عظيم    رئيس جمهورية موريتانيا يغادر جدة    بتوجيه الملك.. ولي العهد يزور «الشرقية».. قوة وتلاحم وحرص على التطوير والتنمية    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مقالات للحياة" . حكايات البحر الأبيض المتوسط
نشر في الحياة يوم 19 - 06 - 2013

ترك المؤرخ نقولا زيادة 1907 - 2006 في مكتبته في بيروت ملفاً كتب عليه:"مقالات للحياة". هذه المقالات غير المنشورة ننشرها هنا تباعاً:
تعود المرة الأولى التي شاهدت فيها البحر الأبيض المتوسط الى عام 1923. كنت يومها طالباً في دار المعلمين في القدس. جاءت قطعة بحرية عسكرية بريطانية الى فلسطين ورابطت أمام حيفا ثم أمام يافا. دعينا طلاب دار المعلمين لزيارة السفينة. ذهبنا من القدس الى يافا بالقطار وركبنا قوارب صغيرة، للمرة الأولى في حياتي، واجتزنا جزءاً من هذا البحر الطيب حتى وصلنا القطعة الحربية.
أظن أنها كانت غواصة لكني لست متأكداً. أخذنا وأُرينا المواقع المختلفة في السفينة العسكرية الحربية واستمتعنا بشيء جديد لم يكن قد مر على بالي. دعينا الى الغداء فتغدينا وعدنا في الوقت المناسب الى القدس. الملاحظة الوحيدة التي أذكرها كانت ملاحظة من وجيه يشاوي وهو نابلسي، وقال هذا الذي سأنقله باللهجة النابلسية:"أنا ما كنتش حاسب البحر هيك، كنت أظن شوية ميه هون، شوية تراب هناك، هون جبل، هون تلة، هون بحيرة، أتريه هذا البحر كبير".
لكن بين عامي 1925 وپ1935 أتيح لي أن أتعرّف على هذا البحر الكبير في جزء صغير منه. كنت يومها أعلّم في عكا، وقبل بدء التعليم في عكا قمت بزيارة لشاطئ البحر المتوسط بدءاً من صيدا فبيروت فجبيل فطرابلس فجبلة فاللاذقية فالاسكندرون. كانت الرحلة على الأقدام ولذلك كان التعرّف جيداً. في الجهة الجنوبية تعرفة على غزة ويافا وعتليت وحيفا وأنا كنت أقيم في عكا. كنت خلالها أدرس وأقرأ الشيء الكثير عن هذا البحر الكبير. إنه يقع بين قارة أوروبا في الشمال وقارة أفريقيا في الجنوب وله منفذ على آسيا يمتد من حدود تركيا وسورية في الشمال الى بورسيد والإسكندرية في الجنوب. كنت قد عرفت الكثير في هذه السنوات من تاريخ الحوض الشرقي للبحر المتوسط وهو يبدو أنه قصير بالنسبة للسواحل الشمالية أو الجنوبية لكن امتداده يشمل أرض الرافدين وسورية ومصر. الآن كل أنواع الأساطير التي ورثها الناس جيلاً عن جيل وكابراً عن كابر قد ظهرت في أماكن بعيدة في حوض البحر الأبيض المتوسط. كانت قوية عنيفة، كائنات هذه الأساطير تقتل تنتقم في ما بينها كما يقتتل الناس. وكانت من الناحية الثانية ناعمة لطيفة رقيقة تمتلئ نفسها بالحب والسحر والجمال والغناء والموسيقى. يكفي من الناحية الأدبية أن"إلياذة"هوميروس كُتبت عن حادث في شاطئ البحر الأبيض المتوسط هو أن أميراً من آسيا الصغرى خطف أميرة من اليونان فجاءت الجيوش والجحافل كلها لتستعيد البنت. لست أدري متى بدأت هذه الأسطورة ولكن لما أنشدها الشاعر الأعمى هوميروس كان ذلك في القرن العاشر قبل الميلاد ولما دوّنت في القرن الثامن قبل الميلاد كانت مجلداً ضخماً فيه كل شيء. وصف سحر شعب حب غرام انتقام بلغة يونانية."الإلياذة"بحد ذاتها ليست اختراعاً يونانياً كاملاً، الفكرة من هناك لكن التفاصيل شرقية. وما أكثر ما أخذ الناس من هذه الأساطير الشرقية. خُلّد ذكر المتوسط أيضاً في"الأوذيسة"التي هي عودة البطل عوليس الى بلاد اليونان ومروره بأماكن مختلفة فيها الخطر وفيها الحب وفيها المرح وفيها الغناء. وهذه ي الأوذيسة شقيقة الإلياذة. لكن لا الإلياذة ولا الأوذيسة هما السجلان الوحيدان للأساطير. فهناك أساطير بابل التي دوّنت في الألف الثاني قبل الميلاد لكنها تعود من حيث نشأتها الى الألف الرابع قبل الميلاد والتي منها خَلْق العالم والطوفان وما الى ذلك. وهناك الأساطير المصرية التي كانت تتناول قضية موت الإله وقيامته وتدور حولها قصص وأساطير. وهناك قصص وأساطير التي تشير الى نشأة الشعوب ونشأة الحكومات. هذه كلها امتزجت في شرق البحر المتوسط لتعطي العالم كنزاً فنياً أدبياً دوّن بالكتابة المسمارية في سومر بين النهرين وبالكتابة الهيروغليفية في مصر. ودوّن بأشكال مختلفة من الكتابات.
حروف بيبلوس
ما أكثر ما بدا من الصناعات في هذه المنطقة من البحر المتوسط الحوض الشرقي. لكن الإنجاز الكبير الذي تم في هذه المنطقة والذي كان نعمة على البشرية هو انه بين 1500 ق.م. وپ1000 كانت ثمة محاولات لتخفيف عبء الكتابة المسمارية المقطعية والهيروغليفية التصويرية التي يتوجب على المرء أن يتعلم عشرات الأشكال كي يتمكن من أن يكتب جملة أو اثنتين. في هذه الفترة كانت محاولات لإنجاز شيء أخف. وقد جرى ذلك في النهاية في مدينة نسميها جبيل والاسم اليوناني بيبلوس هي في لبنان الى الشمال من بيروت. فالألف ياء التي هي حروف لا صور ولا مقاطع ظهرت في هذه المنطقة وبدت بشكلها الناصع في جبيل ولأن اسم المدينة اليوناني هو بيبلوس أصبح الكتاب يسمى نسبة اليها ووصل الأمر الى حد أن الكتاب المقدس سمي باللغات الأجنبية الأوروبية بايبل بيبل الخ... لأنه نُسب الى بيبلوس.
بعد ذلك كانت الكتابة أيسر وتدوين الأمور أهون ولذلك أصبحت عندنا أساطير مكتوبة بشكل جديد ووثائق تجارية ووثائق إدارية وقرارات ملكية كلها تُكتب بالحرف ومن جبيل من بيبلوس انطلقت الحروف الى اليونان وسواها ورسمت على أشكال مختلفة على ما هو عليه الأمر الآن.
هذه المنطقة هذه الأساطير هذا التاريخ كنت أعرفه أو تعرفت اليه في الفترة الممتدة من 1925 الى 1935 قراءة، زيارة أماكن حفريات في فلسطين، زيارة بدء حفر جبيل على يد الأستاذ مونتيه سنة 1924 ونحن زرناها في سنة 1925. لكن بعد أن حصلت على بعثة قضيت فيها أربع سنوات في جامعة لندن وعدت لأعمل في القدس كان مجال التعرف الى الأجزاء الداخلية عندي أوسع. فذهبت جنوباً في مصر الى أسوان وزرت الإسكندرية. في يوم السفر الى لندن عام 1935 زرت بورسعيد. وبعد عودتي من إنكلترا للمرة الثانية واستقراري في بيروت في الجامعة الأميركية أستاذاً في قسم التاريخ بدأت زياراتي الى الشمال الأفريقي تتكرر كما زرت بعض المناطق الأخرى. زرت اليونان وبعض مناطق ايطاليا واسبانيا وفرنسا في الشمال. لكن زياراتي في الجزء الجنوبي من حوض البحر المتوسط أي الشمال الأفريقي كانت متعدد وطويلة بحيث أستطيع أن أقول بأنني أعرف هذه المنطقة الممتدة من حدود مصر الى المغرب العربي بما فيه المغرب نفسه معرفة جيدة عبر زيارات واقامات طويلة وتنقلات في الداخل. وكان أبعد ما وصلت اليه حيث اقتربت من الصحراء كان واحة مرزوق وهي تقع في جنوب الصحراء الليبية على نحو ألف كلم من طرابلس.
في الجزء الشمالي من البحر المتوسط كانت معرفتي معرفة سياحية علمية. شملت الأندلس إسبانيا وفرنسا وجزءاً من إيطاليا. وزيارتان الى اليونان وهناك ثلاث زيارات الى تركيا. فأنا كما يقولون طبّقت البحر الأبيض المتوسط. لكن معرفتي المباشرة في مناطقه الجنوبية أكثر بكثير من سواها.
هذا البحر الذي رويت حكايتي معه على نحو كثير من السرعة والاختصار، هو بحر عظيم، تاريخ النصف الغربي من العالم الذي نعرفه، بدءاً من أرض الرافدين والصحراء السورية وما اليها ومصر وبلاد اليونان هي البلاد التي أعطت العالم حضارتها الأولى. القصة، الأسطورة بالقصة بالشعر بالفن بالنحت في القتال في المعارك في الروايات وفي فن دقيق يمثل الزهرة الرقيقة والظبي الأنيق والإنسان الذي يشبه الملاك وپ... وفي هذه المنطقة بدأ الأدب والشعر على اختلاف ما يحتويان من معانٍ وقصص وأساطير بحيث أنه كان هناك فعلاً حضارات مختلفة بدأت في الشرق القديم. ثم جاء دور اليونان فخدموا الفكر والفلسفة والفن الأنيق والشعر الرقيق والقصة الخفيفة والقصة غير الخفيفة. جاء الرومان وكانوا أهل قتال وادارة وفن كبير فيه من الواقعية أكثر من الفن اليوناني لأن الأباطرة أرادوا أن يخلّدوا ذكرهم ولذلك فإنهم أقاموا التماثيل وبنوا الهياكل.
دروب التجارة
لكن بين هذا وذاك كانت هناك مدينة في لبنان تسمى صيدا خرجت منها أميرة في القرن الثامن قبل الميلاد وأنشأت محطة للبنانيين في قرطاج على مقربة من تونس الحالية. فقرطاج كبرت وازداد عدد سكانها بانتقال عدد كبير من أهل البلد الأصلي اليها ثم كانت لها مواقع تجارية عبر الشمال الأفريقي حتى وصلت الى إسبانيا.
اليونان لما ضاقت بهم أراضيهم اتجهوا جنوباً فأنشأوا لهم ما سموه مستعمرات يونانية في الشمال الأفريقي.
البحر المتوسط هذا كان مجالاً للخلق وطريقاً للانتقال وموضعاً للتلاقي ومكاناً للتلاحم بين سكانه فأنتج هذه الحضارات القديمة: الحضارة المصرية حضارة بابل، الحضارة الشامية وحضارة اليونان وحضارة الرومان الى أن سقطت الإمبراطورية الرومانية وعمت الفوضى في أنحاء البحر المتوسط باستثناء الشرق لأن الدولة البيزنطية تولت الأمر وظلت قائمة الى عام 1435 للميلاد.
لكن الحركة الجديدة التي بزغت في القرن السابع الميلادي في الحجاز لم تلبث أن ضمت الشام بكامله والأرض الممتدة منه الى الهند ثم الأرض الممتدة منه الى الأندلس الى سلطانها. هنا بدأ دين جديد وأفكار جديدة وادارة جديدة ولغة جديدة ومن ثم حضارة لم يعرف العالم مثلها قبلاً من حيث تشعبها وتنوعها ومآتيها ومنجزاتها.
هذه الشعوب التي أنتجت الحضارة العربية الإسلامية، على النحو الذي أشرنا اليه دون التفاصيل، بعد أن سلمت الأمانة لمن أفاد منها واستفاد قبعت هادئة مطمئنة الى أنها قامت بدورها. لكن البحر المتوسط لم يتوقف لأن دولة زالت أو دولة قامت كان هو يغلي كان هو يُنتج كان هو يقوم بالعمل ويجمع ويقرب ويفرق والنتيجة كانت أن هذه المناطق التي تحيط به كانت سبيل العالم الى الانتشار. والى ذلك ان الدول التي قامت حوله أو على بعد منه في أوروبا كانت لها علاقة به لأنه كان طريق التجارة من انكلترا وما اليها الى المشرق حتى القرن الخامس عشر السبيل الوحيد.
صحيح كان هناك فسحة جبل طارق التي تصل ماء المتوسط بالماء الذي بعده. لكن هذه ظلت بعيدة الى القرن الخامس عشر. لما اكتشفت السبل للوصول من أوروبا الى الهند عن طريق جنوب أفريقيا وخفت الطلبات التجارية في منطقة المتوسط أصاب المنطقة كثير من الفقر والحرمان. لكن المسألة لم تدم أكثر من سبعين سنة لأن بعض البضائع كانت تتلف في الطريق الطويل، فضلاً عن أن نقلها عن طريق المحيط الهندي كان يكلّف كثيراً فارتفعت أسعارها فضلاً عن أن البرتغال احتكرت وزادت الأسعار. فعاد التاجر الإيطالي، وهو أبرع التجار في ذلك الوقت، الى تدبير طريقة يتصل بها بحكام المنطقة المماليك والذين جاؤوا بعد المماليك وهم العثمانيون ويعقد معاهدات منفردة تسمح له بأن تكون له أسواق في موانئ المتوسط لتتلقى البضاعة التي تنقل رأساً من الهند الى المتوسط فعادت التجارة اليه بكل ما فيها من نشاط.
أنا لم أقصد أن أكتب تاريخاً للمتوسط، لكنني أردت أن أذكّر الناس بهذا البحر الذي نسيه كثر لأن المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ وما قام حوله من دول جديدة أبعد النور عن البحر المتوسط بعض الوقت. لكن هذا البحر تظل له أهميته انما بعد كل النهضات العلمية التي قامت فيه من أيام الفينيقيين الى أيام النهضة. كل هذه آثارها موجودة لا في موانئ البحر المتوسط فحسب، ولكن في مدن العالم الكبير.
انه بحر عظيم يستحق أن تكتب عنه مجلدات. أنا أعرف في اللغة العربية أن الأستاذ محمد رفعت كتب كتاباً عن البحر المتوسط وأشار فيه الى بعض هذه الأمور لكن الأمر يحتاج بالنسبة الينا القيام ببحوث كثيرة. أما بالنسبة للغات الأوروبية فقد مرت بي لائحة فيها نحو ثلاثة وعشرين اسماً لكتب عن البحر المتوسط باللغة الانكليزية فقط. وهناك غيرها الكثير الكثير.
لكن نحن شعوب البحر المتوسط الشرقية مِلْنَا قليلاً الى الكسل فأصبحنا ننقل ما يقال عنا بدل أن نعرّف أنفسنا الى العالم. لكن الوقت لم يفت والمجال متسع وليقم العرب أفراداً وجماعات، ولا أقول دولاً لأن الدول لا أمل فيها، أفراداً وجماعات بما يكفل بأن يقفزوا قفزة لازمة لينتقلوا من تفكير القرن الرابع عشر الميلادي/ القرن الثامن الهجري الى القرن الحادي والعشرين.
فأنا واثق من أن البحر المتوسط لن يُعدم الناس المهتمين به، ولكن الهمّة لا تزال تحتاج الى موتور محرك داخلي. أما الموتور الخارجي فلا ينفع الا للذين صنعوه.
على أن البحر المتوسط لم ينته دوره من قبل بعض الدول القديمة. لقد عرف نوعاً من الوحدة والانتظام والعمل والتجارة والحلم والعلم والحضارة في أيام العرب. فالحضارة العربية الإسلامية التي نشأت في حوضه الشرقي وانتشرت الى حوضه الغربي الأندلس كانت في ما يتعلق بالعلم والفكر وما اليهما من الوسائل والطرق والسبل من خير ما وصلت اليه البشرية في تاريخها الى ذلك الوقت. فحتى القرن السابع - الثالث عشر كانت الحضارة العربية الإسلامية لا يستفيد منها أبناؤها فحسب ولكنها كانت ترفد الغرب بالكثير من المؤلفات التي نُقلت في الطب والهندسة والحساب والرياضيات والمنطق. فقد نُقل في الأندلس وحدها ما يقارب من ثلاثمئة كتاب ونقل في صقلية قرابة مئة كتاب. ونُقل كتابان أيضاً في بلاد الشام أثناء الحروب الصليبية. فضلاً عن الكتب فهناك وسائل العيش التي انتقلت من العرب الى الغرب، وسائل العيش من حيث مادة المعيشة، انتقال أنواع كثيرة من البقول والخضار الى ضواحي البحر الأبيض المتوسط والى الأجزاء التي تتحملها التربة والمناخ في أوروبا مثل الكرمة التي انتشرت من آسيا الصغرى الى إيطاليا وإسبانيا. ولكنها لم تجد لها تربة ولا مناخاً الى الشرق من منبتها الأصلي في حوض البحر الأبيض المتوسط الشرقي.
يضاف الى ذلك أنه بعد سقوط الدولة الأموية في الأندلس وقيام مراكز كبيرة مهمة في أوروبا منها التجاري الذي كان له سلطة دولة مثل البندقية، التي كانت تعقد معاهدات تجارية مع المماليك من الند الى الند لأن القضية قضية فائدة وأرباح، ثم بدأت الدول الأوروبية تنضج حول البحر الأبيض المتوسط. فرنسا كانت من الدول الأولى. هذه فرنسا كانت لها أطماع في البحر الأبيض المتوسط. فمثلاً فرنسا احتلت الجزائر في 1831 واحتلت تونس بعدها واحتلت إيطاليا ليبيا سنة 1910 على ان احتلال المناطق المختلفة في حوض البحر الأبيض المتوسط لم يقتصر على دول البحر نفسه. فبريطانيا جاءت من الشمال وكان مجيئها في أول الأمر في أيام الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر الى الثامن عشر متاجرة، كان لها وكلاء دائمون في استنابول وفي غيرها من مدن شمال أفريقيا والشرق، وكانت تهتم بالمغرب اهتماماً كبيراً لأنه بلد الثروات. ومياه البحر المتوسط لم تتحرك فيها سفن مسالمة فحسب. أكثر ما دار من وقائع حربية كبيرة في وسط البحر المتوسط وفي موائنه وفي شواطئه. ليس ثمة مجال للتحدث عنها. افتتحت الطريق بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي بدءاً من القرن الخامس عشر ونشطت التجارة في السابع عشر والثامن عشر ولكن هذا لم يُفقد البحر المتوسط أهميته فلم تكد الولايات المتحدة تقف على رجليها دولة مستقلة في أواخر القرن الثامن عشر حتى بدأت تُعنى بالبحر الأبيض المتوسط وشواطئه منذ مطلع القرن التالي.
البحر المتوسط لم يفقد أهميته وكل ما اكتشف هنا كله زاد من أهمية البحر الأبيض المتوسط وقيمته زيادة كبيرة ولا يزال. ما أكثر المعارك التي دارت في شواطئه وسواحله وما أكثر المعاهدات والاتفاقات التي أبرمت بين الدول الكبرى لتثبيت مصالحها على حساب مصالح الجماعات الصغيرة في حوض البحر المتوسط.
حوض البحر المتوسط لم يكن مسرحاً للحرب فحسب، لكن الرينيسانس النهضة الإيطالية لم تكن بعيدة كثيراً عن شواطئ البحر في إيطاليا أولاً ثم فرنسا بعد ذلك. الاختراعات الكبيرة تم بعضها من أجل الاستفادة من مياه البحر المتوسط جارة وحرباً. في العصور الحديث قامت نهضات علمية مختلفة في حوض البحر المتوسط. الرحّالة الذين زاروا هذا البحر من بلاد الإنكليز وفرنسا والمانيا وايطاليا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر وقبل ذلك بقليل وبعد ذلك بكثير ودوّنوا رحلاتهم ورسموا مشاهد بشرية وأثرية ومناطقية والجمعيات التي قامت باكتشافات البحوث الاركيولوجية في أنحاء البحر المتوسط كثيرة. فنبشت عن آثاره وحلّت رموز كتاباته القديمة وترجمة آثاره الى لغاتها.
حتى أنك لا تجد شأناً من شؤون تاريخ المنطقة بكاملها والحوض الشرقي على نحو خاص لم يُكتب عنه ولو ان الحفريات الأثرية لم تتوقف. وأخيراً كثر الاهتمام بالحفريات الأثرية البحرية كالإسكندرية مثلاً وسواها من المدن. فهذا البحر بحر خلقه الله ليفيد منه عباده واستفادوا بادئ ذي بدء لكنهم في الفترة الأخيرة كانوا سبيلاً لإفادة سواهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.