ما الذي يهجس به الفنان أمام مشهد الدم والحريق والدمار؟ وأي فن يمكن أن ينتج في ساحة هذا المشهد الذي تمتزج فيه أفعال آلة الموت وأدواته؟ مثل هذه الأسئلة نطرحها إزاء تجربة خاضها الفنانان السوريان طلال معلا وثائر هلال، مع عدد من فناني العالم، في إطار ما يشبه"سمبوزيوم"أقيم في رومانيا ضمن إطار"الملتقى الثامن للفن العالمي المعاصر"، وأنجز خلالها كل من معلا وهلال عملاً فنياً مختلفاً في طبيعته وحضوره. ففي هذا"السمبوزيوم"استطاع معلا وهلال العمل على فن اللحظة الراهنة بذكاء يستغل هذه اللحظة إلى أعلى درجة ممكنة، وليخرجا بها عن برنامج الورشة المقرر ربما، حيث لم تكن لحظة العدوان على لبنان ضمن البرنامج الذي فاجأ به الفنانان مجموع المشاركين بعملين مرتبطين بهذا العدوان الهمجي. هذا مع اختلاف بين العملين في المواد والتقنيات والانتماء أيضاً، إذ ينتمي عمل معلا إلى اللوحة الجدارية، فيما ينتمي عمل هلال إلى العمل الإنشائي أو التركيبي. هذا السمبوزيوم الذي شارك فيه ما يقارب خمسين فناناً من دول العالم، بينهم قلة من الفنانين العرب معلا وهلال ومحمد أبو النجا وحكيم الغزالي، شهد عرضاً غير تقليدي للعمل الذي أنجزه ثائر هلال بعنوان"الرايات البيض"، مستخدماً الورق الأبيض في"تصنيع"ألف راية تمثل عدد الشهداء من المدنيين اللبنانيين الذين سقطوا ضحايا العدوان. وزرعت الرايات في حديقة بين الأشجار الشديدة الخضرة، ضمن متوالية هندسية تقوم على صيغة المربع التي اعتاد هلال الاشتغال عليها في لوحاته بمواد مختلفة. وهنا يبرز المربع الأكبر 60-60= 3600 متر مربع الذي ينطوي على المربعات الفرعية داخل العمل، حيث المفردة الواحدة تتكرر عشرات أو مئات المرات، لتخلق نصاً بصرياً قابلاً للتأويل بدلالات كثيرة. وإذا كان هلال عودنا على لوحاته الجدارية واللونية، بمساحاتها المتنوعة، ومفرداتها وعناصرها التي تختلف من لوحة إلى أخرى، وقد تتشابه هذه المفردات في لوحات معرض واحد مع اختلاف عدد مرات التكرار. فهو هنا اختار اللون الأبيض بدلالاته المتعددة، عبر تكوين رايات تحيل في حد ذاتها إلى واقعة محددة جرت على أرض الواقع وأرض الحرب التي تعرضت للعدوان، ولهذا ربما اختار زرعها في حديقة خضراء، ولم يكن خياره ساحة عامة أو ساحة مبلطة. فزرع الراية في أرض الحديقة يقيم المفارقة والعلاقة الحميمة بين الأبيض والأخضر، وبين دلالات كل منهما في تفاعل هذه الدلالات ومعانيها. مثل هذا العمل - كما يقول ثائر هلال- زائل من الناحية العملية، لكن ما يبقى منه هو أثره الفني في ذاكرة المتلقي الذي يتفاعل معه. يبقى ما يعبر عنه العمل من حدث آني، فكون الحدث آنياً لا يعني أنه زائل، فكثير من الحوادث يمكنها أن تتخلد من خلال الفن، كما يمكن العمل الفني أن يتخلد من خلال الحدث الذي يجسده ويعبر عنه. وبخصوص عمل هلال هذا تحديداً، فهو يمكن أن يشكل امتداداً لتجربة سبق أن نفذها أكثر مرة. "وجها"طلال معلا نأتي إلى عمل طلال معلا المتمثل في وجهين موزعين على لوحتين، يجسدان أسلوبه في الاشتغال على الوجوه، وما تشتمل عليه من قدرات تعبيرية، وما تحمل للمتلقي من مشاعر وأحاسيس مختلفة. في هذين الوجهين المحترقين نلمس عمق مأساة الإنسان اللبناني في تلقيه العدوان الهمجي. وجهان بلون البن المحروق، وبعينين فاغرتين بالبياض والفراغ، اللذين يشيران إلى الرعب ربما، وينقلان هذا الرعب إلى المتلقي، الأمر الذي جعل الفنان يبحث عن وسيلة لتغطيتهما، فوجد ضرورة استخدام رايتين من رايات ثائر هلال بكل ما لذلك من دلالات. ويتحدث طلال معلا عن هذا العمل خصوصاً، وعن السمبوزيوم عموماً، فيضعنا في الأجواء الحميمة والمؤثرة التي سادت القلعة والحديقة حيث العروض والصلوات التي صادفت ذكرى قصف هيروشيما بالقنبلة النووية، ومشاركة الفنانين بالصلاة من أجل هذه الذكرى ومن أجل لبنان أيضا. يقول معلا:"ليس جنونا أن نختبر الفن، في اعتباره ينتمي إلى الإنسان، والاختبار مادة تطويرية يلجأ إليها المبدعون وهم يدندنون عذاباتهم وآلام الآخرين، لتبقى الصورة أو الحدث شاهداً أو وثيقة لا تفهم معنى للزمن، حيث يتوقف كل شيء ليبقى الحدث الأهم مقروءاً في ومضة إبداعية أعنف من البرق الذي يخطف البصر". وحول هذا الاختبار وطبيعته يقول معلا:"الاختبار كان إلى أي مدى يمكن المتلقي المشاركة في بناء المفهوم ذاته الذي يقصده الفنان، وهل فعلاً تحقق اللغة الفنية المشتركة فهما إنسانيا للمفهوم المقصود إنشاؤه باعتباره قلقاً وهمّاً مشتركاً؟". أما الطقس المتمثل في الصلاة من أجل أرواح الضحايا فهو كما يرى معلا:"نوع من"البيرفورمانس"أو العرض الجسدي الذي يشارك فيه الآخرون من دون أن يخططوا لدورهم. وهو تركيب لمشاعر وأحاسيس آنية تجاه حدث كالحرب العدوانية على لبنان، ويشكل الوجهان المحروقان لرجل وامرأة من لبنان مادة بصرية مسجاة على باحة واسعة في المتحف، وجهان بالأسود والأبيض 340- 160 سم، وقد التف حولهما الفنانون باحترام وحزن شديدين وبصمت مطبق لا يكسره سوى نقر على الطبل وكلمات تقال في قصف هيروشيما، حيث كل شيء ينبه إلى الفعل العدواني الذي يستبيح الإنسان على مدى الحروب البشرية. إنه توثيق لفعل عدواني يتجدد في الأمكنة من هيروشيما إلى لبنان، ويقظة الانتباه ودموع وقصائد بالعربية ولغات الفنانين المشاركين... والنتيجة أن رمزاً مشتركاً يشبه الرقص أو الكتابة أو الصلاة تشكل رؤى مشغولة بلغات متنوعة تعبر عما يبهر في الفعل".