صدر هذا الأسبوع أول تقرير لرئيس لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، سيرج براميرتز. وبحسب تطور التحقيق، فإن هذا التقرير طرح الكثير من الأسئلة التي تجاوزتها تفاصيل التقريرين اللذين أصدرهما القاضي الألماني ديتليف ميليس السنة الماضية، إضافة الى التقرير الأولي الذي وضعه الايرلندي بيتر فيتزجيرالد. ومع أن الموقف الرسمي السوري كان متحفظاً وحذراً حيال التعاطي السياسي والإعلامي مع التقارير السابقة، إلا أنه أعرب عن اطمئنانه الى تقرير براميرتز، فوصف خطوطه العامة بأنها"بعيدة عن التسييس وعالية من حيث المهنية". والمعروف أن دمشق انتقدت بشدة الاستنتاجات التي طرحها ميليس في تقريره الأول، معتبرة أنه قفز مباشرة الى توجيه الاتهام اليها قبل أن يجمع المعلومات والأدلة الثبوتية الداعمة لوجهة نظره. لذلك ترددت في التعاون معه، لأنه بحسب ما نشرته الصحف السورية، ركّز في تقريره على احتمال تدبير عملية الاغتيال بين السلطات السورية واللبنانية، ثم استند الى هذا الاحتمال كنتيجة منطقية يصعب دحضها. يقول خبراء القانون إن الفترة التي تولى فيها سيرج براميرتز مسؤولية استكمال التحقيق خلفاً لميليس، وفرت له أجواء لبنانية هادئة، بعكس الأجواء المتوترة الغاضبة التي هيمنت على أعمال لجنة التحقيق الأولى، إضافة الى التكوين المهني الذي اكتسبه من اختباراته كمدع عام فيديرالي، وكمدع عام مساعد في المحكمة الجنائية الدولية في"لاهاي"، فإن الشاب العازب سيرج 44 سنة حرص على تناول التحقيقات الخطرة المرتبطة بالإرهاب والجريمة المنظمة وانتهاكات حقوق الإنسان. وبسبب هذه الخلفية، كلفته الأممالمتحدة بمهمات جنائية تتعلق بالمجازر التي ارتكبت في الكونغو واوغندا واقليم دارفور في السودان. ولقد دفعه تعامله الدائم مع القضاة الدوليين الى اتقان لغات عدة بينها: الانكليزية والفرنسية والهولندية والألمانية والاسبانية. من هنا خصته الصحف البلجيكية بلقب"بوارو"تيمناً بشخصية المحقق"بوارو"الذي يظهر في قصص الكاتبة الشهيرة آغاتا كريستي كمحقق جنائي قادر على اكتشاف الجرائم التي تعجز شرطة سكوتلنديارد عن اكتشافها. ويبدو أن براميرتز طلب التمديد لمهمته سنة إضافية ليقينه بأن"بوارو"البلجيكي سيحل المعضلة الكامنة وراء جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، خصوصاً أن الاحتمالات التي عددها في تقريره تحتمل كل الفرضيات بما فيها: الدوافع السياسية الخارجية، الحوافز الشخصية، العوامل الاقتصادية، والعقائد المتطرفة. ومع صدور قرار الموافقة على تمديد مهمة سيرج براميرتز، استدعت لجنة التحقيق 35 شخصاً للاستماع اليهم بصفة شهود، كانت بينهم شخصيات سياسية مرموقة. كذلك استمع القاضي الياس عيد الى الشاهد مدير عام الاشغال العامة فادي النمّار حول أسباب الاسراع في ردم الحفرة التي أحدثها الانفجار. كل هذا بهدف جمع أكبر كمية من المعلومات حول عملية التفجير من أجل استكشاف مصادر الأوامر الرسمية والنفاذ من خلالها الى دور بعض المسؤولين. ويستنتج من موضوع جمع الأدلة وشهادات المصادر المتاحة، أن رئيس لجنة التحقيق يسعى الى فتح الملف من أوله، لا من حيث وصل ميليس في تقريره الأخير. وهذا ما يفسر استماع القاضي صقر صقر هذا الأسبوع الى افادة جديدة لقائد الحرس الجمهوري السابق العميد مصطفى حمدان. ومع أن المعلومات تشير الى أن القاضي استمع الى حمدان بصفة شاهد في محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة، إلا أن أهمية هذا الشاهد تكمن في روابطه العائلية وليس في نفوذه الشخصي. وفي هذا الإطار طلب رئيس لجنة التحقيق بعض الوثائق الرسمية والإعلامية المتعلقة بالأحزاب العقائدية والطائفية لعله يكتشف الرابط بين مخططي الجريمة وبين أحمد أبو عدس. ومع أن التقرير يستبعد حصول التفجير بواسطة أبو عدس، إلا أن متابعة مهمته الغامضة تبقى أمراً ملحاً. والسبب أن التحقيق يجب أن يعرف صحة ادعاء المسؤولية في رسالة ابو عدس، ومن ثم تحليل الجوانب الدينية والسياسية في الإعلان المصور على الشريط الذي بثته قناة"الجزيرة". ويستدل من التحقيقات التي تضمنها تقرير ميليس عن أحمد أبو عدس، أن دوره لم يكن مهماً في مرحلة التنفيذ بقدر ما كان مهماً في مرحلة التخطيط. ذلك أن عائلته اعترفت بأن ابنها كان بسيطاً الى حد السذاجة، وان تدينه أوقعه في حبائل المتطرفين الذين استدرجوه للقيام بعمل مشين. وتعتقد العائلة بعد اطلاعها على شريط الفيديو، أن أحمد تكلم تحت الإكراه والتهديد، وأن هناك من استغل صورته وحديثه بعد أن قتله وأخفى جثته. ولقد شددت والدته أمام قاضي التحقيق على ضرورة الاهتداء الى الشخص الذي استدرجه باسم"محمد"، وذكرت انه اتصل بأحمد قبل يومين من الانفجار، ليتحدث اليه هاتفياً. وقالت ان ابنها طلب منها ألفي ليرة وادعى انه سيذهب الى طرابلس ثم يرجع قبل غروب الشمس. وفي المساء عاد المدعو"محمد"ليتصل بها ويطمئنها الى صحة أحمد ويؤكد لها انهما سيعودان غداً لأن السيارة معطلة. وقبل ان تستوضح منه عن العطل، اقفل الخط ثم اتصل في اليوم التالي ليخبرها انه كذب عليها عندما ذكر انهما في طرابلس. وقال لها ان احمد سيسافر الى افغانستان لأنه يرغب في الالتحاق ب"القاعدة"في سبيل القيام بمهمة جهادية. وعندما طلبت التحدث الى ابنها أقفل"محمد"الخط. اعترفت عائلة أبو عدس في التحقيق ان أحمد اكتفى باعطاء لمحة بسيطة عن صديقه"محمد"فقال عنه انه شاب يتيم يسكن في المسجد القريب من الجامعة العربية، ولما أشفقت الوالدة عليه وطلبت من نجلها اصطحابه الى المنزل، اعتذر عنه بحجة أنه فقير وخجول. ثم تبين لها لاحقاً انه يرفض الكشف عن شخصيته نظراً للمهمة الخطرة المكلف بتنفيذها. أي مهمة استدراج"أحمد"وتصويره في شريط يهدد الرئيس رفيق الحريري بالقتل باسم"جماعة النصرة والجهاد في بلاد الشام". علماً أن هذا التنظيم ليس موجوداً، وأن أحمد لا يملك أي هوية لبنانية أو وثيقة فلسطينية تمكنه من السفر الى افغانستان أو الى أي بلد آخر. وقالت الوالدة ان ابنها يكره اللون الأسود، وان القميص الذي ظهر فيه على الفيديو، ليس القميص الذي ارتداه عندما غادر المنزل. يقول تقرير القاضي براميرتز انه تم استخراج 44 عينة من بقايا بشرية وجدت في الحفرة قرب"السان جورج". والغرض منها هو فحص الحمض النووي أملاً في معرفة هوية أصحابها. ولقد اثبتت التحاليل المخبرية الجينية التي ارسلت الى سويسرا، ان جثة أحمد أبو عدس لم تتناثر مع سيارة الميتسوبيشي، علماً أن مدير الأمن العام السابق اللواء الركن جميل السيد كان قد صرح ل"الحياة"بأنه من الصعب اكتشاف الحمض النووي لأي جثة تتعرض لانفجار يزيد حجمه على ألف كغ. ومثل هذا الكلام أثار اسئلة معقدة بالنسبة للمحققين: هل كان المخطط يعرف هذه الحقيقة العلمية؟ وهل صحيح أن أحمد شوهد في عاصمة عربية، كما ادعى أحد الشهود؟ وهل بالمستطاع التعرف الى هوية صديقه محمد الذي استخدم"كطعم"لاصطياده بهدف اقحام العنصر الفلسطيني في الجريمة؟ يشير التقرير ايضاً الى"مصرف المدينة"كعامل محفز لارتكاب جريمة اغتيال الحريري، فيما لو ثبت ان الحكومة كانت عازمة على فضح عمليات تبييض الأموال. أي عمليات الاختلاس والرشاوى بواسطة رنا قليلات القابعة في موقع محروس بأموالها المهربة، على حدود البرازيل - كولومبيا. وكتبت مجلة"فورشن"الأميركية منتصف الشهر الماضي تحقيقاً موسعاً حول اختفاء بليون ونصف بليون دولار، بينها 32 مليوناً حولتها قليلات الى جيب شخصية غير لبنانية نافذة. وزعمت المجلة ان مكتب التحقيقات الفيديرالي وضع يده على ملفات تبييض الأموال في المصرف، بما فيها ملف صفقة اسلحة دخلت الى لبنان قيمتها 160 مليون دولار. المهم من كل هذا ان"الحقيقة"التي يبحث عنها اللبنانيون، قد لا تظهر خلال الخريف المقبل، كما يتوقع"بوارو"البلجيكي سيرج براميرتز. وهناك من يقول ان ظهور"الحقيقة"قد يحدث تصدعاً في الجسم السياسي اللبناني أكبر من التصدع الذي أحدثته المتفجرة. لذلك يبقى عامل التأجيل قائماً الى أن تختفي المحظورات، وتظهر"الحقيقة"في وقت لا تؤثر تداعياتها على مصير الشخصيات المتورطة في عملية الاغتيال. والى أن يحين ذلك الوقت يتساءل اللبنانيون عن فترة الاستقرار في بلادهم، وما إذا كانت الأجواء العاصفة في المنطقة ستنعكس بشكل سلبي على فصل الصيف وموسم الاصطياف؟! يؤكد المتتبعون لحركة التيارات الاقليمية والدولية ان حال الهدوء المريب في لبنان مرتبطة بمدى جدية المحادثات الأميركية - الايرانية، وما قد ينتج عنها من تقدم وتعاون أو تصادم وتناحر. وبما ان النتائج المجهولة ستحدد موقف"حزب الله"ونشاطه على جبهة الجنوب، فإن التزامه العميق مبدأ الحوار وميثاق الشرف، سيظل يفرض حاجته الى ساحة داخلية هادئة ومريحة، أي ساحة لا تشغله فيها الخلافات المحلية وتصرفه عن الاهتمام بالاشتراك في حرب محتملة اذا ما انهارت المحادثات المتعلقة بتخصيب اليورانيوم. وهذا ما يفسر صبر"حزب الله"على كل الانتقادات التي يمتصها ويهضمها في سبيل شراء الوقت. وهو وقت مفيد لحلفاء"حزب الله"وحلفاء سورية الذين وظفوا مرحلة الانتظار من أجل تجديد شعبيتهم، انطلاقاً من اعلان تأسيس"اللقاء الوطني اللبناني"أي اللقاء الذي ضم 25 شخصية سياسية معارضة طالبت بتقصير مدة ولاية المجلس واجراء انتخابات نيابية وتأليف حكومة اتحاد وطني بعدها. ومثل هذه الطروحات ظهرت بوضوح في مهرجان"تيار المردة"يوم الأحد الماضي عندما حاول سليمان فرنجية تأكيد شعبيته من خلال مشاركة حوالي مئة ألف نسمة. وكانت مناسبة لإعلان"مانيفستو"يحدد دور المسيحيين في لبنان المستقبل، مقابل الدور الذي طرحه تجمع الأرز. يعترف المراقبون في بيروت ان سورية استثمرت الوقت الضائع ايضاً من أجل تخفيف حملات جماعة 14 آذار ضدها. وربطت عملية استقبال رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة بضرورة فصل ملف التحقيق الدولي عن العلاقات مع سورية. ولقد تجاوب السنيورة مع المبادرة السعودية - المصرية بطريقة ايجابية جداً تمثلت بالبرقية المتعددة الابعاد التي ارسلها الى الرئيس بشار الاسد معزياً بالذكرى السادسة لغياب والده. والملاحظ انه تجاوز في تلك البرقية كل المفردات التي استعملها المتنبي في مدح سيف الدولة على أمل ان يلبي الاسد رغبة الملك عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس حسني مبارك. ويتردد في دمشق ان الضيف المطلوب في سورية هو النائب سعد الحريري وليس وكيله في الحكومة فؤاد السنيورة. والسبب ان زيارته لا تعوض عن زيارة السنيورة فقط، وانما تلغي كل ما حمله ملف التحقيق الدولي من اتهامات ضد سورية، الأمر الذي يلغي فكرة المحكمة الدولية ايضاً... * كاتب وصحافي لبناني