الرابع والعشرون من شهر شباط فبراير المنصرم، كان يوماً استثنائياً في حياة الفنان العراقي يوسف العاني. ففي مثل هذا اليوم من العام 1944، ارتقى خشبة المسرح للمرة الأولى، ولم يبارحها طيلة هذه السنوات، موزعاً اهتمامه بينها وبين السينما والتلفزيون... كاتباً متميزاً، وممثلاً متألق الحضور. يتذكر العاني بداياته ويقول:"كان"مسرح جمعية العلوم"في الثانوية المركزية التي كنت طالباً فيها. بدأت من خلال عمل من تأليفي واخراجي. كانت مسرحية من فصل واحد. استلهمت وقائعها من حادثة حصلت في مقهى الحي الذي كنا نسكن فيه سوق حمادة في الكرخ حيث كان عدد من الزوار يلعبون الورق، ففاجأتهم الشرطة وداهمت المقهى. ومن هذا"الحدث"شكلت موضوع مسرحيتي، مقدماً من خلالها الشخصيات التي كانت حاضرة في المقهى مع صاحب المقهى، وعقدت الصلة بينها من خلال حوار يميل الى الاسلوب"النقدي"، او ما يسمى اليوم الكوميديا الهادفة، كاشفاً عن الحالة التي يعاني منها الفرد العراقي من ضائقة مادية، وفقر، ما يدفع إلى تمضية وقته في ممارسة أمور تافهة". ويستعيد الفنان العاني الإحساس الذي رافقه آنذاك، ويقول:"كان هذا العمل، بالنسبة إلي يومذاك، فتحاً جديداً: أن اكتب"عملاً مسرحياً"، وأن اقف على خشبة المسرح ممثلاً، وأن اواجه جمهوراً يصغي لما أقول، أواجهه بالفعل واستقبل منه رد الفعل... هذا كله لم يكن، بالنسبة إلي في ذلك العمر، بالأمر اليسير، أثراً وتأثيراً.. تلك التجربة علمتني كيف أن عناصر المسرح، من كتابة واخراج وتمثيل، تتلخص في ثقافة لا بّد من معرفتها قبل ان يدخل"هاوي المسرح"الخشبة ليؤدي مهمته في اي عنصر من عناصره". معالجة الخطأ غير أن نقطة البداية تلك لم تكن هي التي حددت مساره المسرحي:"رئيس جمعية العلوم في الثانوية، وكان مدرسنا، طلبني بعد تقديم العرض ليسألني بكل صرامة:"ماذا كنت تعني بهذه"التمثيلية"؟ فأجبته: ما شاهدته في المسرحية كما قدمت. قال:"لكنك اظهرت"الشرطي"فيها مرتشياً، وهذا يعني انك تنقد الحكومة- وهذا ممنوع- يعني انك تعارض ما هو موجود وقائم في الدولة!" ويتابع بحماسة:"تلك الكلمات ظلّت في بالي زمناً.. حتى ادركت بعد حين ان المسرح يمكن ان يكون وسيلة لكشف الخطأ، كما يمكن ان يكون اداة لمعالجته - في ما يمارس من تأثير في المشاهد، وهو يضع المشاهد امام الحقيقة. وكان هذا مدخلاً لبحث طويل اكتشفت معه مقومات المسرح الحقيقي، الفاعل والمؤثر الذي لا يغير، وإنما يسهم في عمليات التغيير... أنا حتى اليوم اكتشف من الحالات ما لم اكن قد اقتربت منه من قبل. عالم المسرح واسع، ولا يمكن لتجربة او عدد من التجارب ان تجعل المسرحي في وضع اكتفاء كامل، فيقول عرفت كل شيء". ويتابع مبتسماً:"تواصلت تجربتي حتى بلغت 43 مسرحية تأليفاً، و58 مسرحية تمثيلاً ، فضلاً عن بعض الإطلالات التلفزيونية، وأخرى سينمائية بلغت 12 فيلماً سينمائياً، ثلاثة منها كنت فيها كاتب السيناريو. وكان أول هذه الأفلام"سعيد أفندي"1957، ثم"ابو هيلة"1960، و"وداعاً يا لبنان" الذي انتج في لبنان أثناء إقامتي هناك العام 1964. وكان آخر فيلم عراقي مثلت فيه هو الفيلم الذي اخرجه المخرج الشاب عدي رشيد العام 2005 تحت عنوان"غير صالح للعرض"والذي نال اكثر من جائزة في بعض مهرجانات السينما، منها الجائزة الاولى في"مهرجان سنغافورة السينمائي". أديت في الفيلم دور رجل عراقي عاصر مراحل سياسية مختلفة من تاريخ العراق الحديث، تبدأ بتولي الملك فيصل الثاني عرش العراق... وتنتهي مع الاحتلال الاميركي العام 2003. وهو، بحسب تقويمي له، الفيلم الأول والوحيد الذي استطاع التقاط الحالة المأسوية التي مرّ بها العراق". ويختتم العاني حديثه مبتسماً:"قبل سنوات، وفي مثل هذه المناسبة، كنت اقول:"من يعرني سنوات عمر جديد... وما زلت أبحث. أما الهدف من ذلك فهو تواصلي مع المسرح والحركة المسرحية الذي لا يمكن ان يتوقف. كلما تقدمت بي سنوات العمر ازددت غنىً منها، واستطعت ان اغني الآخرين بالقدر الذي أستطيع".