ما كانت الذكرى الخمسون للعدوان الثلاثي على مصر في صيف العام 1956 لتحتل هذه الأهمية المتجددة في بريطانيا لولا الدروس المتوازية التي بدأ يناقشها المحللون السياسيون والخبراء الاستراتيجيون مقارنة بما يجري في العراق، وإن اختلف اللاعبون الأساسيون بين مصر 1956 بقيادة جمال عبدالناصر وعراق 2003 في ظل حكم صدام حسين. ومع أن معظم الذين يكتبون عن الورطة الأميركية - البريطانية في العراق هذه الأيام يعتقدون بأن الظروف مختلفة بين العدوان الثلاثي والغزو الذي وقع سنة 2003، إلا أنهم يرون في الوقت نفسه أن النتائج التي ستسفر عنها مغامرة واشنطنولندن الأخيرة ستكون مشابهة في تداعياتها لتلك التي عانت منها كل من فرنساوبريطانيا بعد تآمرهما مع اسرائيل على غزو السويس بحجة حماية هذا الممر المائي الاستراتيجي، بينما كان الهدف في الواقع إسقاط عبدالناصر وضرب حركات التحرر الوطني في طول العالم العربي وعرضه. الصحافي البريطاني مارتن وولاكوت واحد من الذين يغطون أحداث الشرق الأوسط من على صفحات جريدة"الغارديان"، وكان شاباً عندما راقب انهيار السياسة الخارجية البريطانية بعد تورط رئيس الوزراء آنذاك انطوني ايدن في المؤامرة الثلاثية. ومن خلال موقعه الحالي، أخذ يراقب بدقة كيف أن عدم نجاح واشنطنولندن في مغامرتهما العراقية سيؤدي الى تغيير جذري في الرؤى الاستراتيجية للتعامل مع العالم العربي ما بعد العراق. كتاب وولاكوت الجديد"ما بعد السويس"ليس مجرد استعادة للأحداث العلنية والسرية التي أدت الى مشاركة بريطانياوفرنسا واسرائيل في"حرب كاذبة"لحماية قناة السويس، بل هو دراسة تحليلية لمرحلة سقوط السياسة الخارجية البريطانية في الشرق الأوسط وتحولها رديفاً للسياسة الأميركية الصاعدة على حساب القوى الاستعمارية القديمة. وإن كان المؤلف لا يعترف علناً بالنتائج التي أخذت تظهر في أعقاب ورطة العراق الحالية، إلا أن روح الكتاب تهيئ القارئ لانعكاسات قد تكون أكثر سوءاً مما أصاب صورة بريطانيا في العالمين العربي والاسلامي بعد فشل العدوان الثلاثي. الموقف الأميركي الحاسم في صيف العام 1956 أنهى عملياً"الاستعمار القديم"الفرنسي - البريطاني في الشرق الأوسط، لكن ذلك لم يكن لمصلحة شعوب المنطقة وانما جاء في سياق ارتفاع حدة الصراع الدولي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. وأدركت لندن يومها انها ما عادت القوة الأولى في المنطقة بل بات عليها الالتحاق بالسياسة الأميركية بوصفها رأس حربة المعسكر الغربي في صياغته الجديدة للسياسة الاستعمارية. وإذا كان هذا هو الإدراك البريطاني المبكر لطغيان الدور الأميركي الجديد الذي يصفه المؤلف بأنه"القرن الأميركي"مستعيراً هذا التعبير من تيار المحافظين الجدد في دوائر البيت الأبيض، فإن انخراط رئيس الوزراء توني بلير في مشروع جورج بوش لغزو العراق يأتي في السياق العادي للعلاقة الخاصة التي تربط بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. "ما بعد السويس"ليس كتاباً عن نتائج العدوان الثلاثي على مصر خصوصاً بالنسبة الى الدول الغربية المعنية مباشرة، ونقصد بها بريطانياوفرنسا والولايات المتحدة. المؤلف أراد رصد التداعيات على مستوى الشرق الأوسط في محاولة منه لاستكشاف ما ستكون عليه أوضاع المنطقة ما بعد العراق. وفي هذا السياق يتناول المؤلف تطور مفهوم التدخل العسكري لإحداث تغييرات سياسية في بعض الدول وذلك انطلاقاً من مصالح الدول الغربية الكبرى. ومع أن غزو قناة السويس وضع لندن في موقع النقيض للاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، غير أن ذلك كان"نزوة عابرة"لأن البلدين شاركا قبل أقل من ثلاث سنوات من تلك"النزوة"في ما عرف بالمؤامرة الانكلو - أميركية لإسقاط النظام الديموقراطي لرئيس الوزراء الايراني محمد مصدق وإعادة شاه ايران... ومعه حماية المصالح النفطية الغربية. يعتبر المؤلف أن من الصعب تصور وجود شرق أوسط ذي أهمية استراتيجية من دون النفوذ الأميركي الفاعل على أكثر من صعيد، والتدخل العسكري المباشر في افغانستانوالعراق لا بد من أن ننظر اليه انطلاقاً من تلك الحقيقة. غير أن"ورطة العراق"، وما تعنيه من فشل فرض"التغيير الديموقراطي بالقوة في الشرق الأوسط"، لا بد من أن تدعو المخططين الاستراتيجيين الى إعادة النظر في أساليب التعامل مع دول المنطقة، وبالتالي أخذ مصالح القوى الاقليمية في الاعتبار بعيداً من الاعتبارات الايديولوجية التي يروّج لها بعضهم في سياق"حرب الحضارات"وپ"معسكري الشر والخير"... وغيرها. لقد وضع مارتن وولاكوت كتابه عن حرب السويس لعله يستعيد بعض دروس سياسية تكاد القيادات الحالية في لندنوواشنطن تتناساها. فإذا كان التاريخ يعيد نفسه بصورة أو بأخرى، فإن من حظنا أن نعيش حدثين تفصل بينهما خمسون سنة وفي الوقت نفسه نعيش تداعياتهما ونتائجهما المتشابهة. وهنا يصدق القول المشهور مع تبديل في الأسماء فقط: اذا أردت أن تعرف ما سيحدث ما بعد العراق... عليك أن تسترجع الذي حدث ما بعد السويس! After Suez, Martin Woollacott * I.B.Tauris London 2006