أعلنت الحكومة العراقية زيادة حادة وغير مسبوقة في اسعار المنتجات النفطية مباشرة بعد الانتخابات في منتصف كانون الأول ديسمبر ولم تنتظر حتى اعلان نتائجها. وزاد بذلك سعر ليتر الغازولين من 20 الى 100 دينار للعادي، ومن 50 الى 250 ديناراً للتر للغازولين الممتاز. وبالنسبة للنفط الابيض، من 5 الى 10 دينارات لليتر ومن 10 الى 30 ديناراً لزيت الغاز. اما الغاز السائل فقد زاد سعره من 250 الى 500 دينار للقنينة سعة 12.5 كيلو غرام. والواقع ان هذه الاسعار كانت قيد مناقشة منذ مدة وعلى اساس ان تطبق في مطلع السنة الجديدة، لكن عموم العراقيين اندهشوا لهذه الزيادات وهذا التطبيق المبكر، وعبروا عن ذلك برد فعل غير مسبوق، اذ لم يتوحد العراقيون حديثاً على قضية مثلما توحدوا على رفض هذا القرار، حتى ان بعض المحافظات رفضت تطبيق هذه الزيادات. والغريب ان وزير النفط هدد بالاستقالة وكأنه لم يكن مشاركاً في هذه العملية، واستقال امس بسبب هذا الامر وغيره. وفي استطلاع قام به مركز بحوث السوق في جامعة بغداد، رفض 87 في المئة من المشاركين فيه دعم هذا القرار. غير ان الحكومة تبدو مصرة على تطبيقه حتى من دون استشارة الجمعية الوطنية وكما فعلت في قضايا مختلفة ربما تكون أهم. وحاول نائب رئيس الوزراء احمد الجلبي التخفيف من وقع القرار حينما قال بان ذلك تم نتيجة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لخفض دعم اسعار الوقود، ولم ينس القول أن هذا الاتفاق تم مع حكومة اياد علاوي، ولم يسأله احد عن سبب تأخر التطبيق حتى نهاية عهد حكومته، ومباشرة بعد الانتخابات؟ في اعقاب غزو العراق واحتلاله الذي حطم البلد ومؤسساته ومزق نسيجه الاجتماعي، لم يكن من المتوقع ان يأتي صندوق النقد الدولي بهذه السرعة ليتمم هذه الاعمال. ومن المعروف ان الصندوق أثر في سياسات مشابهة في دول أخرى. لكن في حال العراق فإن أقل ما يقال هو ان هذا التأثير متسرع ومخرب، وان صندوق النقد الدولي لا يمكن ان يكون بهذه القسوة في إملاء شروطه على العراق في هذه المرحلة. ولكن سرعان ما حصلت حكومة بغداد على مكافأتها بعد هذه القرارات المجحفة حيث أعلن صندوق النقد الدولي في 23 كانون الاول ديسمبر عن قرض بقيمة 685 مليون دولار للعراق اعترافاً ب"نجاحه في دعم استقرار المؤشرات الاقتصادية الكلية في 2005". ولا نعلم ما يعنيه الأمر بالنسبة الى فقراء العراق الذين لم يستلموا كامل حصتهم التموينيه للشهور الثمانية الماضية. ولا أعلم ماذا سيفعل هذا القرض للعراق. وأقول بتواضع، إنني لست خبيراً في هذا الموضوع. ولكن حساباً سريعاً يبين أن قيمة هذا القرض لا تتجاوز ما يحصل عليه العراق من تصدير النفط بالمستوى المتدني الحالي ولمدة عشرة أيام فقط. وعليه فمن الممكن ان يكون هذا القرض إشارة لدفع الحكومة لزيادة أسعار الوقود بدلاً من دعم واضح للعراق. اذا ماذا ستحقق الحكومة من هذه الزيادات اضافة الى غضب العراقيين؟ ان عائدات هذه الزيادات قد تصل بتقديري الى 950 ترليون دينار في السنة، ستسحب من الاقتصاد العراقي في وقت تتجاوز فيه نسبة البطالة 40 في المئة، و20 في المئة من العراقيين تحت خط الفقر الذي عرّفه الجلبي بأنه يساوي دولاراً واحداً في اليوم للفرد". هذه ارقام حكوميه عرضها وزير العمل والشؤون الاجتماعية، وربما تكون الارقام الحقيقية أسوأ. ولكي تنجو الحكومة من ورطتها، أعلنت انها ستوزع 500 ترليون دينار للعائلات الفقيرة من دون ان تعلن عن آلية شفافة للعائلات في اختيارها. وتدعي الحكومة ان سبب هذه الزيادات هو كون اسعار المنتجات في العراق اقل مما هي عليه في الدول المجاورة، ما يشجع على التهريب. ان انخفاض اسعار المنتجات في العراق قياساً بالدول المجاورة صحيح، لكن السؤال هو اي من الدول المجاورة قد عانى ما عاناه العراق من الحروب والحصار والغزو والاحتلال؟ لذلك فإن استخدام آلية السعر لمنع التهريب ليست إلا كلمة حق يراد بها باطلاً. ان هذا الفارق الكبير في الاسعار قد شجع التهريب الى الدول المجاورة وحتى الى الدول الاقليمية من خلال البحر، وقد يستمر حتى بعد زيادة الاسعار. كنت اقدر التهريب ب 10 في المئة من استهلاك العراق للمنتجات النفطية. ولكن وزيراً في الحكومة اعلن ان التهريب يصل الى 25 في المئة. هذه المأساة تقع في بلد يستورد بين 20 و25 ألف طن يوميا من المشتقات النفطية الخفيفة، والتي قد تصل قيمتها إلى ما لا يقل عن أربعة بلايين دولار في السنة. ولإيقاف التهريب، لابد أولاً من قيام الحكومة بالسيطرة على حدودها وموانئها باستخدام شرطتها وجيشها وحرسها الوطني بدلاً من استخدامهم كمحدلة أمام قوات الاحتلال. ان مصافي النفط العراقية تعمل بما لايزيد عن 50-60 في المئة من طاقتها. وهي تنتج اقل من نصف احتياجات البلاد للمشتقات الخفيفة. والسبيل الى وقف نزيف الموارد الذي يسببه الاستيراد لابد أن يبدأ بتفعيل إنتاج المصافي ومعامل الغاز، التي لم تحظَ باهتمام الحكومة ولا الشركات الأميركية التي تساعدها، وبقيت جميع الأطراف مهتمة فقط باستمرار إنتاج النفط الخام للتصدير. لقد بدت الحكومة، منذ الاحتلال، غير متحمسة للشروع في بناء مصاف جديدة او تطوير المصافي القائمة. ولذا فأن استيراد المنتجات قد يستمر الى سنوات قادمة عديدة. وأعلنت وزارة النفط صراحة"ان الوزارة عجزت عن إيجاد الحلول والبدائل للمشاكل التي تواجهها وتهدد الاقتصاد العراقي بوجه عام"كما ورد في جريدة"الزمان". وكأي خبير نفطي، اجدني متحمساً لعقلنة أسعار الوقود لان ذلك يؤدي الى ترشيد الاستهلاك والاستخدام الأكفأ، اضافة الى زيادة الاستثمار وتجديد المعدات لتقديم خدمات افضل. ولكن للوصول الى هذه الاهداف فإن الاسعار وزياداتها يجب ان تتوازن مع الدخل، وان تكون تدريجية تمكن الاقتصاد من استيعابها دون ان تسبب تضخماً كبيراً، على ان تأخذ السياسة السعرية بحسبانها مجمل العوامل الاجتماعية والاقتصادية. هذه هي"الاقتصادات الكلية المستقرة"التي يبغيها العراقيون ويجب ان يرحب بها صندوق النقد الدولي. ان عقوداً من الاسعار المخفضة لا يمكن تعديلها بين ليلة وضحاها من دون ان تسبب مشاكل كبيرة وغلياناً شعبياً كما حدث في العراق حيث ازدادت اسعار المواد الغذائية واسعار النقل والخدمات في شكل سريع كان يجب توقعه. خبير في وزارة النفط العراقية سابقاً.