لا تزال ديموقراطية بريطانيا، كما تجلت في الانتخابات الأخيرة، نموذجاً للديموقراطيات الأخرى العريقة. وإذ أعلن توني بلير أنه تلقى الرسالة، فإنه لم يخف مرارته من مضمونها الواضح. فحزبه لم ينهزم ليعود الى المعارضة وانما تعرّف الى مدى التآكل الذي أصاب شعبيته، بسبب زعيمه لا لأي سبب آخر. ثم ان الناخب لم يكن ظالماً بل راعى مصلحته محتفظاً بالحكم الذي أمّن له اقتصاداً قوياً، لكنه عاقب رئيس الوزراء لأنه في غمرة حماسه للمغامرات الاميركية اختار أن يتجاهل الرأي العام البريطاني معتبراً انه قادر على تحديد مصلحة البلاد من دون أن يأخذ الاعتراضات في اعتباره. الديموقراطية الجيدة في الداخل لا تعني دائماً سياسة خارجية مراعية للروح الديموقراطية. هذا ما حاول بلير اثباته وأصرّ عليه بعناد على رغم ان جمهوره الذي جعل منه الزعيم الأكثر شعبية ارسل اليه الكثير من التحذيرات. وفي أي حال، ستبقى هذه من المرات القليلة التي يعاقب فيها سياسي ناجح على قرار في السياسة الخارجية اعتبره الشعب غير شرعي. لم يعان الرئيس الاميركي مشكلة حقيقية في حماية نفسه من تداعيات الحرب على العراق، مع انه واجه الاتهامات نفسها التي وجهت الى بلير. الفارق في طبيعة النظام الذي يجعل الرئيس فوق المعاقبات في الولاياتالمتحدة، وهو ما لم يتمكن بلير من التمتع به على رغم ان النظام البريطاني أمّن له الحماية التي أبقته في الحكم حتى الآن من دون أن يقفل الملفات التي لا تزال ترهقه بالنقد وبأقذع الصفات من كذب وتحايل وتلفيق وخداع... الآن فقد زعيم العمال كل أمل في اكتساب صفة"الرئاسية"لادائه الحكومي. وهذا هو الشرط الأول لحزبه كي يتعامل معه بايجابية وهدوء. ومنذ أمس كان على بلير أن يتعرف الى القيود التي يفترض ان يرضخ لها في عمله خلال الولاية الثالثة التي أعطته امتياز"التاريخية". ولعل هذا أول انتصار تاريخي يجعل من صاحبه زعيماً ضعيفاً، وحاكماً تحت الرقابة، وصانع قرار مضطراً لأن يراعي اصول التشاور مع حكومته لا أن يضعها أمام الأمر الواقع. كان بلير استغل زعامته وشعبيته وحزبه وقامر بها جميعاً من أجل أن يذهب الى العراق، فإذا بها ترتد عليه. الأسوأ أن التحالف مع أميركا كان الخط الاستراتيجي الدائم لبريطانيا، وقد راعته الحكومات كافة، محافظة أو عمالية، شرط الاحتفاظ لبريطانيا باستقلالية موقفها وبإمكان أن تكون لها كلمتها. وعلى رغم أن بلير كان أميركياً بالمقدار الذي كانت مارغريت ثاتشر، إلا أن تبعيته الكاملة لواشنطن بدت نوعاً من المبالغة في ذلك"التحالف"، وفي حقبة انقسام دولي حاد وجدت الولاياتالمتحدة نفسها فيها في مواجهة العالم بأسره ولم يكن الى جانبها، أو بالأحرى لم يكن في جيبها، سوى بريطانيا بلير. فحتى التحالفات البديهية والمؤكدة تحتاج الى إدارة جيدة فلا تمنع تمايز الحليف وخصوصيته. وهو ما لم يراعه بلير في التصاقه بحليفه جورج بوش. لم تكن الصحف البريطانية غامضة في تقويمها للنصر الانتخابي الذي حققه بلير. بل كانت بالغة الوضوح في أن الاستحقاق المرتسم أمامه منذ الآن هو التنحي، وكلما عجّل كان ذلك أفضل لحزبه وللبلاد. ومهما حاول بلير أن يناور فإن الروزنامة لن ترحمه. يمكنه أن يبقى في المنصب سنة ونصف السنة كحد أقصى، ولا بد له خلال هذه الفترة من أن يتصرف وفقاً لمصلحة الحزب وبرنامجه، وأن ينسى شخصه وطموحاته وأسلوبه، لأن هذه هي التي أدت الى خسارة الحزب بضع عشرات المقاعد في مجلس العموم. لعل أهم الاشارات التي ارسلتها الانتخابات البريطانية على الصعيد الخارجي انها حددت تقريباً موعداً لانسحاب بريطاني كلي أو جزئي من العراق. لا بد ان يحدث ذلك خلال وجود بلير في رئاسة الحكومة، وقبل ان يتخلى عن موقعه لخلفه غوردون براون، لكي يتمكن الأخير من مخاطبة البريطانيين متحرراً من اللعنة العراقية. أما الاشارة الاخرى المهمة فهي ان أي حرب على النمط الذي شهده العراق لن تكون قراراً سهلاً ليس في برياطنيا فحسب وانما في الولاياتالمتحدة أيضاً. صحيح ان بوش كوفئ بولاية ثانية في البيت الابيض، الا ان وضعية"البطة العرجاء"انتابته منذ الشهورالاولى لهذه الولاية وشعبيته الآن في ادنى مستوياتها لذا يجري البحث عن بعض الصدمات لانعاشها. اما بلير فإن وضعه مرشح للانهيار بسرعة طالما ان الجميع مقتنع الآن ان بقاءه في 10 داونينغ ستريت بات محدوداً.