لا يشغل إنشتاين موقعاً ذا بال في الثقافة العربية المعاصرة، لا إنشتاين ولا غيره. الكلام على ذكرى إنشتاين ونظرية النسبية هو كلام على غائب: على العلم الغائب، على التأمل الفلسفي الغائب كان إنشتاين يصر على أن كل النظريات تأمل، على المنهج التجريبي الغائب. إنشتاين الصهيوني أيضاً غائب. يحضر منه فقط أنه رفض أن يكون رئيساً لدولة اسرائيل حين عرض عليه المنصب عام 1952. الغياب هنا أيضاً عنصر من غياب أوسع: المسألة اليهودية والهولوكوست. إنشتاين داعية السلم غائب كذلك، بدوره يحيل هذا الغياب الى غياب أكبر لحركة سلامية عربية ولتفكير عربي في الحرب والسلم. تترك هذه الغيابات المجال لأشكال مشوهة من الحضور. الموقع الشاغر للعلم يمتلئ بنزعة تقنوية استهلاكية وسحرية، أو بنزعة اكتفائية راضية عن ذاتها أو خصوصية مغلقة على ذاتها. التقنوية الاستهلاكية هي تعامل مع العالم لا يمر بالرأس، ما يقود شيئاً فشيئاً الى ضموره، أما الاكتفائية فيغلب ان تكون تصعيداً لعقدة نقص لا تطاق. الاهتمام المفقود بتاريخ المسألة اليهودية وبإدراك رضة المحرقة التي لا تنسى يستحيل تجاهلاً لمعاناة الغير المعادي وميلاً متكرراً للتقليل من شأنها، أن ينقلب شعوراً بالذنب حيال ما لم نقترف وشعوراً بالنقص حيال اليهودي والاسرائيلي. التفكير الغائب بالحرب والسلام ينقلب استسلاماً أو إرهاباً. وبمجملها تحيل هذه الغيابات الى غياب أشمل: غياب العرب المعاصرين عن الفاعلية التاريخية، ما نسميه الوجود الوكيل أو مخلع الأركان؟ أعني بالوجود الوكيل افتقارنا الى مناهج للتمثيل السياسي والعمري والفني في العالم الحديث، سياسياً نفتقر الى طرائق مختبرة لنفاذ الأفراد الى عالم الدولة والسياسة ومؤسساتها وأجهزتها. معرفياً الوقائع مفقرة من أي سلطة استشارية أو تعديلية حيال النظم الفكرية التي يفترض أنها تمثلها، فنياً لا نشارك في ترميز العالم وتمثله بالصور ولا ننتج أساطير وملاحم جديدة. لسنا مواطنين في جمهورياتنا وممالكنا السياسية ذوات الحزب الواحد أو الأسرة الواحدة، ولا تملك وقائع حياتنا حقوق مواطنة في جمهورية المعرفة التي ارتدت الى نظام عقيدة واحدة، ولا تحوز مخيلاتنا وانفعالاتنا وأحاسيسنا وأوهامنا نفاذاً الى صنع خيال العالم وتمثيله. موجودون في العالم لكن وجودنا غير سيادي وغير أصيل. قد تعكس ايديولوجية الأصالة وكالة وجودنا أو افتقرنا الى الأصالة الوجودية. غير ممثلين في العالم لأننا لا ننتج تمثيل العالم ولا نشارك في تمثيل العالم. فالتمثيل انتاج وليس معطى أولياً أو حقاً بديهياً تمليه العدالة. ومن دون انتاج لتمثيل الذات لا مجال للمشاركة في تمثيل العالم. فالتمثيل المعرفي والخيالي والسياسي هو الذي ينتج الواقع، وليس العكس. الثورة التي حققها الغرب في عصر النهضة ثم في التنوير والثورات السياسية هي ثورة في المعرفة وثورة في المخيلة وثورة سياسية. ليست علماً يتعرف الى الواقع و"يكشف أسراره"بل انتاج لواقع يرسم العلم، أعني انتاجاً لوعي جديد وعقل جديد وتوقعات جديدة وحواس جديدة. الغرب راسخ في العالم وفي التاريخ بفضل هذه الثورة المركبة. وجوده من الدرجة الأولى، فتكاتُه بِكر، علمائه يقرأون اللغة التي كتب بها الله كيان الإنسان بحسب ما عبر الرئيس الأميركي بيل كلينتون عن كشف الشفرة الوراثية الانسانية. انه يشرب من رأس نبع الكائن. وهو لا يشكو من"نسيان الكينونة"إلا لأنه يلمحها وتضيع منه في سياسته وعلمه وفلسفته وفنونه. من يضع معادلة تكافؤ المادة والطاقة، E=MC2،"يلمس"العالم و"يرى"الكينونة، ويصنع عقله هو، ويغير ذاته هو. نحن لم ننس الكينونة لأننا لم نلتق بها. لا تراوغنا غزالة الكينونة في رحلة صيدنا للمعنى وسعينا للعدالة. لسنا بصدد معايرة لحالنا بالغرب، أعني جعل الغرب مقياساً للعالم ومعياراً للكمال، المنهج الأشد تضليلاً ايديولوجياً والأشد اثارة للاكتئاب وعقد النقص. نسعى الى جلاء الأصول والمنابع. نستطيع أن نقول إننا غير ملزمين بالسير على الطريق الذي اختطه الغرب الحديث إذا، وفقط إذا، استطعنا حل مشكلات انتاج الواقع وسكن العالم وتمثيل الناس والوقائع والرموز. الأصول هم منابع الوجود المشتركة وليست مراحل سابقة في تواريخ مختلفة. الموقع الغائب لنظرية النسبية وإنشتاين في ثقافتنا وفكرنا تفصيل في غياب أكبر. وهذا غياب يحتاج الى نظر يفسره ويضعه في مكانه. فالتفسير بالغياب ليس إلا غياباً للتفسير.