يجد الناظر في التركيبة الاجتماعية للبلدان العربية أن عمليات تحول نوعية أجريت منذ عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، حدث مثلها على المستوى العالمي أيضاً وإن بدرجات مختلفة. وكان من أبرز نتائجها انهيار الطبقة الوسطى في الكثير من المجتمعات، وبداية مرحلة جديدة، شهدت تمركزاً وتركزاً جديدين للثروة من جانب، وتركزاً وتمركزاً جديدين للفقر من جانب آخر. وأدى انهيار الطبقة الوسطى الى تراكم الفقراء العرب في أحزمة البؤس المحيطة بالمدن العربية التي باتت تشكل وفق تقرير التنمية البشرية للعام 2000 أكثر من 56 في المئة من تعداد سكان تلك المدن، والى تفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء منذ الثمانينات من القرن الماضي، بسبب تراجع الدولة عن بعض فضاءات القطاع العام، وبسبب الخصخصة وحرية السوق والفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وأصبح الفقر من القضايا الخطيرة، التي تهدد مستقبل البلدان العربية، وتعود اسبابه الى النمو السكاني المرتفع 8.2 في المئة، والى اعتماد الأنظمة العربية بنسبة 70 في المئة على الواردات الغذائية من الولاياتالمتحدة الأميركية والدول الأوروبية. ووصلت الفجوة الغذائية الى 8.14 بليون دولار عام 1989، ونتيجة تراكم الدين العربي فإن إيفاء مستحقاته يستأثر بحصة كبيرة من الناتج القومي الاجمالي. إضافة الى ما يستأثر به الإنفاق العسكري الكبير، وضآلة مشاركة المرأة العربية في الانتاج. وتنقسم البلدان العربية الى ثلاث فئات من حيث الثروة والفقر: الفئة الأولى مجموعة البلدان الغنية، وهي تعتمد على عائدات النفط في شكل أساس، وتشمل بلدان مجلس التعاون الخليجي الى جانب ليبيا، والفئة الثانية مجموعة البلدان المتوسطة الدخل، وتشمل مصر والعراق؟ والأردن وسورية والمغرب وتونس والجزائر، والفئة الثالثة مجوعة البلدان الفقيرة وتشمل السودان واليمن والصومال وجيبوتي وفلسطين. وبحسب ما أشار تقرير التنمية البشرية لعام 2000 فإن الدخل الإجمالي للفرد في العالم العربي بين 280 و290 دولاراً في اليمن والسودان و20200 دولار في الكويت. وعلى رغم ارتفاع مستوى الدخل في بلدان الخليج إلا أن الفقر بمفهومه النسبي وليس بمفهومه المطلق، ظاهرة موجودة فيها. كذلك أشار تقرير التنمية البشرية للعام 2000، الى التضاؤل المستمر لنصيب الفقراء من الدخل القومي العربي قياساً الى دخول الأغنياء، خصوصاً الجدد منهم. وتبيّن الأرقام المعلنة مدى اتساع التفاوت الاجتماعي وحجمه، وضآلة نصيب الفقراء من الدخل في البلدان العربية، وهي تؤكد على انقسام طبقي حاد في البلدان العربية، ولا تدعم ما ذهب اليه بعض الدراسات الاستشراقية الذي حاول تأكيد الانقسامات العرقية والقبلية والطائفية من دون سواها من الانقسامات والتناقضات الموجودة. غير أن من ينظر في واقع البلدان العربية، منذ خمسينات القرن العشرين المنصرم، ويدرس تركيبتها الاجتماعية، ويرصد التحولات الطبقية التي شهدتها، سيعثر لا محالة على انقسامات طبقية حادة، فضلاً عن الانقسامات الاثنية والطائفية والقبلية، وسائر الانقسامات ما قبل المدنية. وفي هذا المجال يعتبر حليم بركات في دراسته"المجتمع العربي المعاصر في القرن العشرين"مركز دراسات الوحدة العربية، 2000 أن فجوة عميقة واسعة ومتزايدة تفصل بين الأغنياء والفقراء في البلدان العربية كافة، سواء بالنسبة الى توزيع ملكية الأراضي والعقارات أو في توزيع الثروة، أو في احتلال مواقع النفوذ والمكانة الاجتماعية. وبذلك تكون البنية الطبقية في المجتمع العربي ككل، بنية هرمية تتشكل قاعدتها الواسعة من الطبقات الدنيا. أما عبدالرزاق الفارس، فيرى في كتابه"الفقر وتوزيع الدخل في العالم العربي"مركز دراسات الوحدة العربية، 2001 ان الفقر ظاهرة عامة في العالم العربي، وهي متركزة في شكلها الواسع والعميق في الأرياف، وأن هذه الظاهرة متلازمة مع الأمية ومع التفاوت الكبير في المداخيل خصوصاً في الأقطار الفقيرة والمتوسطة الدخل. كما تؤكد دراسات أخرى على اللامساواة في البلدان العربية، وعلى البنية الطبقية الهرمية، وبالتالي فإن المأزق الطبقي يشكل تهديداً مهماً لتركيبة البلدان العربية، في ظل غياب الديموقراطية، وفشل برامج التنمية الانسانية. إن تحول معظم الأنظمة العربية في العقدين الأخيرين، في اتجاه سياسة السوق والانفتاح والتبادل الحر وتخليها عن دعم القطاعات العامة الحيوية ودخولها في العولمة عبر الخصخصة ومحاولة الالتحاق بالثورة التكنولوجية من دون استيعاب التحولات العالمية والاستعداد الصحيح لها، أدى الى جملة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، تجسدت في ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع الأسعار وانخفاض القوة الشرائية والبطالة والهجرة واتساع الفوارق بين مختلف الفئات الاجتماعية. وبالتالي فمن الطبيعي أن تكون الطبقة الوسطى ضحية تلك الارهاصات، اذ سرعان ما تدنت مستوياتها الحياتية والمعيشية وفقدت ما كانت قد جنته وادخرته من أموال وممتلكات على محدوديتها، وأصاب الإحباط آمالها وطموحاتها ومستقبل أبنائها. وأدت حال الانهيارات التي لحقت بالطبقة الوسطى الى بحث قطاع واسع من المثقفين عن خيارات فكرية وثقافية ملساء، لا نتوء فيها، لكي تكون قادرة على التسلل من كل المسامات، لتقترب من الموقف السياسي من النظام القائم، ومن الموقف من العولمة ومن المشاريع الأميركية في المنطقة العربية، لكي تكون جاهزة تحت الطلب. كما أدت الى تدمير الحياة السياسية بكل تعبيراتها الحزبية بما فيها أحزاب السلطة نفسها. أي يمكن الحديث عن عمليات نزع ممنهج للسياسة من طرف السلطات العربية، بعد أن اختصرت الدولة الى مستوى السلطة في كل بلد، فانتقل المجتمع من مستوى المجتمع المدني الى مجتمع الرعية، وانتقلت الدولة من قوة تشرف على ادارة التوازن السياسي للمجتمع الى سلطة وضعت نفسها فوق المجتمع، وتعمل على إدارة مصالح نخبها وأزلامها. وسمحت قيم اقتصاد السوق لأفراد قلائل من الطبقة الوسطى بالانضمام الى قائمة محدثي النعمة أو"النوفو ريش"، بعد أن انخرطوا في سياسات الفساد والإفساد، وباتوا من لاعبيها الكبار. لكن في المقابل فإن قيم السوق نفسها دفعت بالغالبية الساحقة من أفراد الطبقة الوسطى الى حافة الفقر والتسوّل، والى القاع المحروم من جميع الحقوق التي تليق بالانسان من حيث هو إنسان. في المقابل، وعلى رغم ذلك، فإن الطبقة الوسطى، ستبقى حاملة لقيم التغيير والتحديث والتقدم، وإن انهيارها لا يعني تلاشي هذه الطبقة بقدر ما يدلل على الخلل الفادح في التراتبية الاجتماعية للبلدان العربية. وهذا سيؤثر على قدرة المجتمع على توليد قوة سياسية منظمة، تعبر عن مصالحه، وتعكس استقلاليته، ودوره الخاص، ورؤيته للمستقبل. ذلك ان الطبقة الوسطى تعد حاضنة للفرد، ومعبّرة عن هويته في مجتمع متعدد الأعراق والثقافات، وتصوغ طبيعة النظام الاجتماعي المفتقر الى حاضن اجتماعي أو ديني، بل اقتصادي اجتماعي كذلك، فضلاً عن أن كل المجتمع يستند الى الطبقة الوسطى كهوية حاضنة للفرد من طريق سيادة القانون والمساواة. كاتب سوري.