حل الموعد المحدد, ووقع ما كان الجميع يتخوف منه. فقد بدأت مصر في تطبيق اتفاقية"التريبس"TRIPPS ، وهي من قوانين"منظمة التجارة العالمية", مما يوجب التقيد بضمان الحماية الكاملة للملكية الفكرية، بما في ذلك حق المؤلف, والعلامة التجارية, وبراءات اختراع الأدوية وغيرها. ويمثل الأمر مشكلة كبيرة في دولة نامية مثل بلاد النيل، جرت فيها العادة على اهمال حماية براءات اختراع الأدوية, أو توفير حماية محدودة لها، كحال الكثير من البلدان النامية. وقبلاً تمتعت براءات اختراع المستحضرات الدوائية بحماية محدودة مصرياً. في مهب ال"تريبس"! وأعدت"المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"اخيراً, دراسة قانونية عنوانها"مسؤولية الحكومة المصرية عن حماية الحق في الصحة في ضوء اتفاقية التريبس"، تهدف الى شرح التأثير المتوقع للاتفاقية على قدرة الحكومة على حماية حق المواطنين في الصحة. وتقارن قواعد الاتفاقية مع ما يوازيها في التشريعات المحلية راهناً. وتعتبر هذه الدراسة الصوت الوحيد الذي ارتفع معارضاً تطبيق الاتفاقية. فقد دأبت صحف محلية عدة على نشر تحقيقات، وعلى مدى أشهر طويلة، تعرض فيها بنود"التريبس"اضافة الى آراء خبراء من وزارة الصحة, وشركات الأدوية الحكومية والخاصة, والاجنبية حول أثر تطبيقها"المستقبلي"، من دون الإشارة الى مساوئها. والمفارقة ان هذا الاهتمام الكبير"اختفى"منذ التطبيق الفعلي للاتفاقية, باستثناء التطمينات الرسمية في شأن عدم ارتفاع اسعار الدواء. ومنذ وقت طويل، الف المصريون ان يكون النفي الرسمي للغلاء اشارة بدء لارتفاع الاسعار! وتوضح الدراسة أن تلك الاتفاقية تحوي جوانب مرنة في ما يخص العمل بالمنتجات التي يحيمها بتسجيل براءة اختراعها. اذ تنص بنودها على ان تلك الحماية يجب أن تسهم في الارتقاء بالابتكارات التكنولوجية، عبر نقل المعرفة التقنية وتوزيعها. وتسمح الاتفاقية للدول بموازنة واجباتها تجاه أصحاب حقوق براءات الاختراع مع التزاماتها في مجال حقوق الانسان. وكذلك تعترف بحق الاعضاء في اتخاذ التدابير التي تراها مناسبة لمنع إساءة استعمال حقوق الملكية الفكرية، بما في ذلك السماح باستثناءات محدودة من قوانين حماية حقوق براءات الاختراع, مع مراعاة عدم الاجحاف بحق المبدعين. وبحسب دراسة"المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، فإن اتفاقية"تريبس"تضع عدداً من العراقيل امام استفادة الدول النامية من تلك المرونة! ومن ابرز تلك العراقيل مد زمن حماية براءات اختراع الأدوية الى 20 عاما،ً أي لمدة أطول مما ينبغي لحق الامتياز. ويؤدي الأمر الى استمرار ارتفاع اسعار الأدوية في تلك المدة، مما يؤثر سلباً في حق الافراد في الحصول على الأدوية الأساسية. كما تتيح هذه السنوات الطويلة لشركات الأدوية ميزة التمتع بأرباح الأدوية الحاصلة على الامتياز لمدة أطول مما يلزم لتغطية كل ابحاث الأدوية وتطويرها. ومن الناحية العملية، استطاعت شركات الأدوية العملاقة استخدام ال"تريبس"في منع كثير من الدول النامية من صنع ادوية"مُقلدة"، بمعنى انها تحتوي العقار نفسه الموجود في ادوية الشركات الكبيرة، ولكن باسم مختلف, وبسعر ارخص بكثير. وهناك مثال صارخ على ذلك. ما حدث في جنوب افريقيا حيث حاولت الحكومة ان تصنع أدوية الايدز, فقاضتها شركات الادوية الغربية. واستغرقت القضية فترة طويلة مات اثناءها الالاف من مرضى الايدز قبل ان تجبر مأساة الايدز الهائلة الشركات على الانسحاب. نقاش تنقصه المعلومات! وتشير الدراسة ايضاً الى النقص الكبير في المعلومات الذي رافق النقاش الاعلامي مصرياً حول اتفاقية"التريبس", لا سيما في ما يختص بالأدوية الأساسية. ومن أوضح مظاهر سوء الفهم، الاعتقاد بأن تسجيل الدواء قبل بداية العام 2005 يعفيه من الخضوع لقوانين الملكية الفكرية بعد هذا التاريخ. ونقلت صحف عدة عن وزير الصحة تعليماته بتسريع عمليات تسجيل الدواء قبل موعد بدء اتفاقية"التريبس". وتنفي الدراسة صحة هذا الاعتقاد بصورة تامة. وتبيّن ان"تريبس"تلزم الحكومة حماية الادوية بدءاً من كانون الثاني يناير 2005 طالما ان حقوق براءة اختراعها ما زالت سارية, وبصرف النظر عن تاريخ تسجيل الدواء! وفي المقابل، تؤكد الدراسة أن معظم الأدوية في السوق المحلية انتهت مدة صلاحية حماية براءة اختراعها, ولا مبرر لارتفاع اسعارها. وكذلك تحذر من رسم صورة وردية، والتقليل من أهمية الأدوية الجديدة. ويوضح الدكتور محمد رؤوف حامد، الاستاذ في علم الأدوية، ان"الأدوية الجديدة ستكون غالية, ومع الزمن ستقل قدرة المواطن على شرائها". وفي سياق مشابه, يفيد الدكتور مصطفى ابراهيم، النقيب السابق لصيادلة القاهرة، بأن أدوية السرطان وامراض القلب ومضادات الفيروسات سترتفع اسعارها في شكل صاروخي"قد يفضل المريض الموت على دفع ثمنها". ويؤكد الدكتور احمد العدوي، الاختصاصي في الادوية، أن الدواء" يعتبر من السلع السريعة التطور. وتخصص الشركات مبالغ كبيرة لتطويره. وستظل الأدوية الجديدة تظهر بمعدلات سريعة, لا سيما بأثر من التطور في مجال العلوم البيولوجية". وتعرض الدراسة لأثر"التريبس"على شركات الأدوية في القطاعين العام والخاص، وأحوال العاملين فيها. وتشدد على ان الاتفاقية مصممة أصلاً لخدمة مصالح شركات الأدوية المتعددة الجنسية. والمرجح ان هذه الشركات ستزيد من فرص احتكارها للأدوية في مصر, وكذلك لإضعاف قدرة الصناعة الدوائية المحلية. وتنتقد الأسلوب الذي انتهجته الحكومة، والمتمثل في الزيادة التدريجية لأسعار الدواء, مع تقديم الدعم الحكومي لبعض انواعه، باعتباره غير كاف لتأمين الادوية للمواطنين بأسعار تتناسب مع مداخيلهم. وتحث الدراسة الحكومة على تقديم ما لديها من معلومات عن"تريبس"الى الرأي العام, وشرح الاستراتيجيات التي ستتبعها للتعامل مع زيادة أسعار الأدوية الأساسية, مطالبة بالمزيد من الشفافية بهذا الخصوص. وتوصي الحكومة بالدخول في مجال صناعة الادوية, اسوة بما تفعل دول مثل الهند والبرازيل مثلاً. وتنحو باللائمة جزئياً على نواب مجلس الشعب البرلمان. وتحثهم على تفعيل آليات الرقابة البرلمانية لمتابعة تنفيذ الحكومة لاتفاقية"التريبس"في شكل لا يؤثر في حق المواطنين في الحصول على الأدوية الأساسية. وتحض نقابتي الاطباء والصيادلة على السير في هذا الاتجاه ايضاً. وتناشد الدول الصناعية المتقدمة والجهات المانحة زيادة دعمها الفني لمصر لمساعدتها في توفير الأدوية الأساسية, لا سيما تلك التي تعالج التهاب الكبد الوبائي "سي".