المعاني التي يخلّفها مفهوم زمن الشعر، تتغير ليس تبعاً للزمن ذاته، بقدر ما ترتبط بطبيعة التجربة. وفي الحال التي يكون فيها المدلول مؤسساً على نظام متوسِّع لا نظام قبض وتغللٍ، تستطيع القراءة، والتي لها زمنها بطبيعة الحال، أن تميز المُحاكي من المحرِّف، الواصف من المتوقِّع. ذلك أن الفرق بيِّنٌ بين هذه المتقابلات. وعليها قامت اختلافات الأمزجة الشعرية من عصر إلى آخر، بل في عصر واحد بعينه. في كتاب الشاعر بول شاوول"بوصلة الدم"، في طبعته الجديدة، من الممكن لمح زمن الشعر حيث تبرز مجموعة الأدوات التي استخدمها شاوول لا ليكون شعره طاقة وصفية تقوم على النسخ والنقل، بل تقوم على ما يمكن تسميته شعرية التوقُّع، تلك التي أمَّنت للشاعر ضمانة شعريته، فلم تعد الحرب موضوعاً مباشراً يؤسس لصدمة لفظية عُرِفَتْ في كثير من تجارب شعراء الحرب أو ما سمّي شعراء المقاومة، وعند الأخيرين تحديداً تبدَّتِ الحربُ نشاطاً إملائياً آمراً. فكيف إذا تذكر القارئُ ? أو لعله يعرف ? أن كتاب الشاعر بول شاوول"بوصلة الدم"طبع للمرة الأولى عام 1977؟ لا تكتفي القراءة بأوصاف تمنح لتمجد سبق الشاعر على غالبية أقرانه، وهو ما يليق به في طبيعة الحال. هذا جانب ذو طبيعة أخلاقية، لا أكثر. بل تكتفي بما يلمس من نظام تعبيري أسست له موهبة الشاعر على خلفية تجربتها ووعيها الشعريين. ففي"بوصلة الدم"، ثمة سيطرة مفهومية بادئة أرادها الشاعر في معنى الاتجاه، وأي اتجاه هو هذا؟ إنه اتجاه الدم، خريطة الفناء والموت. وفي إشارته"اتجاه"يؤمّن لنفسه حق التوقع، ذلك أن ذكاء الخيار التقني الذي افتتح به يسمح بالاستبطان والتوقع أكثر مما يسمح بمحاكاة درامية تنقل الحرب من فعل كوني إلى درس تطبيقي لمسرح واقع. وها هو يرى:"الزبد يزحف إلى الأغصان والنجوم/ التماثيل تنتظر سقوط الصاعقة/ الدم يفلت مجنوناً/ الحرائق تقفز من جدار إلى جدار من لا نهاية إلى لا نهاية". ما زال شاوول في هذا المقطع رائياً متوقعاً يمثل فعل الحرب مناخاً وعالماً شعريين وليس وساطة تسهّل الأنموذج عبر الإفادة من"جماهيريته". وهكذا فهو عندما يتحدث عما يمكن أن تكون الحرب فهي حربه هو، حرب الشاعر إذ رآها بملكية ائتمان خاصة. ولذلك يبرز الانتظار رافداً لفعل التوقع:"هل من خفاش يهوي فجأة على رأس المدينة؟". وبنظرة لا تحتاج الى كثير فحص تتلمس القراءة غنى الأدوات التي قدّمها شاوول عام 1977، وهو الزمن الذي مثل بمعنى ما، وحالات معينة، تضاداً مع الشعر لأنه فرض أنموذج التبشير والحماسة والجديدة!. وبموهبة متقدمة باتجاه ذاتها يدمج شاوول العناصر في سطح لا يقبل كثير مشاركة، وهو ما تمثله مجازية سقوط الخفاش على رأس المدينة، حيث وبنجاح باد يبدو معنى السقوط داخلياً في الكينونة، وليس في الخارج الخارج هوةٌ أسقطت الكثير من شعر الحرب. فمجازية الخفاش لا تفهم إلا بكونها أنموذجاً بدئياً، وليس نشاطاً فيزيائياً مباشراً. سؤال آخر يؤسس له شاوول في كتابه: إلى أي حد تستطيع الذات الشعرية العمل في موضوعها كما لو أنه نشاطٌ تقني خالص؟ غالبية أجوبة الشاعر وفية مع المستوى الفني لموضوعها، حالها حال كل المواهب القوية، إلا أن شاوول يضيف بعداً للتجربة وهي تسعى لا لتنقل الصورة أو تحرّفها، بل لتكون جزءاً منها، ما يذكّر بكلام"آجلايا"للأمير ميشكين في رواية"الأبله"لدوستويفسكي:"أنتَ ظالمٌ لأنك لا تقول إلا الحقيقة". ولكن ما هي الحقيقة التي يعبر عنها شاوول؟"أمد حواسي في اللحظة النارية/ أتدفق على بريق الصوان/ أتموج سنابلَ من الفرح في حقول الكلس/ طفرة عصافير من الحلم تشرق وتتقلص". حوّل الشاعر الشهادة إلى فعل عكسي، تماماً كما لو أن الحلاج وبقية الرموز قاموا بالعمل ذاته. فكيف بنا إذا انتبهنا الى فوران المدلولات في المقطع السالف؟ فهناك تدفق في بريق الصوان، وفرحٌ في حقول الكلس. يا لَهُ من إتقانٍ يمهد للصانع أن يعشق مصنوعه، فكيف بالقراءة؟ بعد أن أنجز الشاعر المهمَّتين : التوقع والشعرية الخالصة، تحرر من عبء ثقيل بالحجم الذي يحمله التوقع وتتطلبه الشعرية الخاصة. فلم يعد هناك من مخرز تحت الإبط بعدما تأسس النص البيغماليوني عاكساً عشق الصانع مصنوعَه. فصار في وسع الشاعر أن يتحدث بحرية الذي أنجز كل أعماله، متابعاً في الترقب والتوقع:"المراحل المقبلة تنذر بأجنحة الدم/ المراحل المقبلة تحبل برعد لا يرحم". في العودة إلى المساحة التي أفردها شاوول، لنفسه، في زمن الشعر، ترجع القراءة الى المقارنة بين شعريات اختطفها موضوعها، كشعريات ما سمي التزاماً أو سواه من شعر مقاوم، في التاريخ ذاته الذي مثل الصدور الأول ل"بوصلة الدم"، وشعريةٍ آثرت الكشف عميقاً في مدلولها ليتحول مشهدياً رائياً عبر أدوات الاستعارة والتخييل والاقتضاب، وهو ما عمل عليه شاوول مؤسساً ليس للفارق وحسب، بل للشعرية. فيهتف كمن يضع موضوعه بين يديه:"نشرّع بوابة الخيال على الدم/ نهيل على الجثث تراباً لحصيد جديد". فهنا مثلاً نلمح البراعة في تأخير المفعول به وهو التراب لتتقدم الجثث صادمةً، عبر قوتها الرمزية، كل معنى سيأتي. ثم ما هو المدلول الطوفاني الهائل الذي يختفي وراء موازاة الخيال بالدم؟ لقد قال ما قال بلا أدنى محاكاة أو نقل. هو ذا الفرق، وتلك هي المساحة. كما سنرى هنا:"عندما تحرق المدينة/ يلمع الموت في الجمر/ يلمع الموت بعد الجمر/ تبقى الشمس السوداء/ تتعرى البسمات الأبدية". إن الزمن الساكن، هذا، والمستمَدُّ من عمودية الموت هو الكامن وراء تعريفات قام بها الشاعر من دون أن يضطر للتفسير والتبرير، فلم تتبد الشمس السوداء ولم تتكشف البسمات الأبدية. إنها إخباراتٌ ذات أساسٍ فجائعي تيسّر للمخبِر الإخبار من دون سياق متفقٍ عليه. ومن أجل هذا الزمن الساكن، أو انطلاقاً منه يكشف شاوول عن المبدأ في خبره:"من يتكلم في هذا السكون المعدني"؟ وجواب الشاعر واضح: إنه السكون، الزمن الواقف، زمن الحرب ورؤيا الموت. واذا كان الاتجاه الذي تنطوي عليه البوصلة، في"بوصلة الدم"، هو الرمز الحامل لموضوع الشاعر، فكيف تبدت الاتجاهات لديه؟ أو لنقل كيف"وزّع"الاتجاه هنا وهناك؟ ألا يحق للرائي أن يفكك موضوعه على خلفية السبق بوضع العلَم في الأرض المتروكة؟ هكذا يحدد الشاعر الأدوار:"للقبيلة بوصلة الدم/ للحلم بوصلة الصبح/ للشعب بوصلة النسيان/ للأجساد بوصلة الرصاص". حيث الاتجاهات كلها مستوحاة من رؤيا الموت باستثناء اتجاه واحد، كما بدا، وهو الحلم، فله"الصبح"."البيغماليونيون"لا يهربون من مصنوعهم، ومصنوع شاوول هو الشعر نفسه، فلمَ لا يمنحه الحلم؟ إن الزمنين اللذين صدر فيهما كتاب شاوول"بوصلة الدم"1977 و2004 هما اللحظتان اللتان عبّرتا عن زمن شعر الشاعر، لحظة اكتسبت شرعية الامتداد والبقاء لأنها مستمدَّة من اقتراحها الشعري الخاص. فلَمْ يختطفها موضوعُها، ولم تستَدن من الموضوع تمويناً من خارجها. هكذا يمكن فهم ما سمي جيلياً شعر الحرب وسواه. غير ذلك يصبح التعبير قيد نفوس لا أكثر."بوصلة الدم"شهادة شعرية - على الشعر قبل غيره - متقنة برعت في جعل الموضوع أداة ومعايير فنية في المقام الأول. وهو سر بقائها، وسر استمراريتها الآيلة أنموذجاً شعرياً مكتمل المواصفات.