لن تقع حرب أهلية في لبنان، لأن المعارضة التي تلقى دعماً شعبياً واسعاً ليست طائفية ولا دموية وانما هي مرشحة لتحقيق انقلاب ديموقراطي هادئ على الوضع الراهن يذكّر بنموذج ما حدث في أوكرانيا الذي حمل الرمز البرتقالي. أهم ما على المعارضة السياسية والشعبية أن تتأكد من عدم الانجرار اليه، هو الوقوع في فخ الاستفزاز لتفقد البصيرة انتقاماً ونقمة وتسقط في تلوين نفسها بأحمر الدم الذي يريد البعض سفكه لغايات سلطوية. فما فجّرته عملية اغتيال رئيس الوزراء السابق الراحل رفيق الحريري وكل من لقي حتفه معه هو الغضب الصامت من وضع مهين يتحمّله اللبنانيون على مرارة إما خوفاً من العقاب او أملاً بجديد في فِكر الحكومتين اللبنانية والسورية. ما اسفرت عنه هو التلاقي والتضامن كأمر واقع، بين الأسرة الدولية المتمثلة بمجلس الامن والدول الكبرى فيه وبالامانة العامة للامم المتحدة وبين تطلعات المعارضة اللبنانية. ولذلك، يجدر بالقيادة السورية في دمشق ان تقرأ الرسالة بوضوح وعقلانية وتبادر هي الى سحب قواتها من لبنان بدلاً من تكرار موقفها التقليدي بأنها مستعدة للانسحاب بطلب رسمي من الحكومة اللبنانية. وبذلك توجه رسالة مختلفة جذرياً الى جميع المعنيين بأنها قررت حقاً مساراً جديداً في علاقاتها الاقليمية والدولية. ويجدر بالحكومة اللبنانية، من جهتها، إدراك ما يحدث محلياً ودولياً بعقلية غير تلك التي رافقت الغرور الناتج عن الانتصارات الامنية الصغيرة والكبيرة. فهي الآن تحت المهجر والمحاسبة، من عمق الداخل ووسع الخارج، لتتحمل المسؤولية إما عن تحويل لبنان الى محمية أمنية، او عن توريطه في حرب أهلية عمداً وبالقوة او عن إطلاق الارهاب منه وعليه تبريراً لاستدعاء وبقاء الحماية والمساعدة السورية. وكل هذا ليس بجميل على لبنان وسيادته ولا هو بمبشّر مفيد لسورية وحكومتها. قد لا يكون هناك اجماع لبناني على ضرورة مغادرة القوات السورية للبنان. انما ليس هناك، بالمقابل، إجماع لبناني على"الحاجة"الى بقاء القوات السورية في لبنان. حجم الموالين للدور السوري ولاستمرار نفوذ دمشق وسيطرتها على لبنان ليس اكبر من حجم المعارضين لهذا الدور والنفوذ والسيطرة. إذن، وبغض النظر عن إذنٍ رسمي من الحكومة اللبنانية او استدعاء لبقاء القوات السورية بقرار من الحكومة السيادية، ان الشرعية الفعلية والعملية للبقاء السوري في لبنان اقتلعتها التطورات على الساحة الشعبية اللبنانية في الأشهر والايام الماضية. لقد لعبت سورية دوراً أمنياً في لبنان، في حقبة معينة من تاريخه، تستحق له كل التقدير والامتنان. وقد يكون بين الشعب السوري من ينتظر بأن الشعب اللبناني يفتقد حس الامتنان على المساهمة السورية في نشل لبنان من حرب أهلية شنيعة وبشعة لعب فيها اللبنانيون أنفسهم أقذر الأدوار. الحق مع الذين يكنّون هذه المشاعر. ومن الضروري عدم فقدان الذاكرة التاريخية لكثير من الجيد والمفيد لأفعال سورية في لبنان. بالموازاة، هناك ذاكرة تاريخية لبنانية تستدعي وتسترجع أدوار اخرى لسورية في لبنان، بالذات مع قياداته، تلوّث صورة المنقذ الراغب في مساعدة الجار على التغلّب والتعافي. هناك سيرة تحمل في طياتها حكايات الاغتيالات وافلات الاجهزة الامنية والاستفادة المالية لأفراد وكيانات. فإذا كان للعلاقة اللبنانية السورية ان تتحول الى علاقة صحيّة بين جارين، يجب ان تنطلق من الاعتراف بواقع الكراهية. الكراهية ليست بين الشعبين كشعبين، وانما بين"الثقافتين"تحت ظروف نموهما السياسي. الكراهية من جانب قطاع من اللبنانيين والسوريين للحكم الاستخباراتي وللحكم الامني في البلدين. والكراهية من جانب الحكم في البلدين لأي ما من شأنه ان يقوّض سلطاته او يهدد صلاحيته القاطعة. انها علاقة كراهية بكل الاحوال. والكراهية تولّد اللاعقلانية والتهوّر وسوء الحسابات. في الماضي، كانت المعادلات التقليدية تنجح على أسس الحذاقة المحلية والشطارة الاقليمية والرهان إما على فراغ دولي او على ثغرات او مفاتيح في العلاقات بين الدول الكبرى. اليوم، انتهت الحرب الباردة. وللتذكير أخطأت سورية حين افترضت نفسها رئيسية في المعادلة الاستراتيجية الاميركية السوفياتية عند موسكو لتجد نفسها مهمّشة وتصاب بالدهشة في الثمانينات. اليوم، وفي عهد المصالح التي تصنع تحالفات بين الصين وروسيا، وبين اميركا وفرنسا، كل الرهانات التقليدية خاسرة. وعلى دمشق الاستماع والتنبّه وبكل دقة. ديبلوماسي اوروبي رفيع المستوى عالم بملفي سورية ولبنان في المعادلات الدولية الاميركية والفرنسية والروسية والصينية والبريطانية وصف ما حدث هذا الاسبوع على النحو الآتي: قال ان قبل اغتيال الرئيس الحريري، ونظراً الى ازدياد تشدد الموقفين الاميركي والفرنسي نحو ردود فعل دمشق والبعض من لبنان نحو القرار 1559، سعت شخصيات دولية بينها مبعوث الامين العام لمراقبة تنفيذ القرار 1559، وراء إقناع واشنطن وباريس بالتريث وعدم التصعيد واعطاء الاسلوب التدريجي فرصة. فالقرار 1559 طالب بانسحاب جميع القوات الاجنبية من لبنان والكف عن التدخل في شؤونه الداخلية وتسريح جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية. والفكرة التي سوّقها الداعون الى التريّث هي التدريجي في الانسحاب وفي عدم التدخل وفي تسريح الميليشيات ونشر الجيش اللبناني في كامل الجنوب. الفكرة كانت قائمة على مبدأ الصبر واعطاء الوقت للاقناع فيما تُتخذ خطوات تدريجية قبل صدور تقرير الامين العام عن تنفيذ 1559 في شهر نيسان ابريل قبل الانتخابات المزمع عقدها في لبنان في شهر ايار مايو. بعد اغتيال رفيق الحريري ومن دون توجيه التهمة الى سورية على الاطلاق من جانب الاسرة الدولية حدث تقويض جذري لتوجه التدريجية والصبر واعطاء الوقت الآن، وحسب الديبلوماسي الاوروبي ليست فرنسا وحدها وانما الاتحاد الاوروبي بأكمله، الى جانب الولاياتالمتحدة، يريد تغيير النظام في كل من سورية ولبنان. بالاهمية ذاتها، ان الولاياتالمتحدة، حسب الديبلوماسي الاوروبي المطلع،"تجد في سورية قزماً عسكرياً مقارنة مع التحدي الآتي من ايران. ولذلك انها ترحّب جداً بما من شأنه ان يحوّل الانظار عن العراق، وعن مواجهته عن ايران ذات الحجم الكبير والقرار الصعب نحوها". وبكلام آخر، ان ما حدث في لبنان والذي تُدان سورية عليه، ليس لأنها ارتكبت جريمة الاغتيال وهي التي تنفيها وتدينها، بل لأن الانطباع دانها، ألحق ضرراً لا عودة عنه لدمشق وقيادتها. فالانطباع، وهو لا يزيد عن مجرد الانطباع، ان كان بحق او بباطل، جعل سورية تسترق"التركيز"من ايران اليها. بذلك، وحسب تقدير ديبلوماسيين عالمين بسياسات واستراتيجيات لدول فاعلة مثل الولاياتالمتحدة"لقد ارتكب السوريون خطأ استراتيجياً ضخماً". حتى وان ثبتت البراءة التامة لسورية من عملية اغتيال الحريري، المباشرة منها وتلك عبر الاجهزة الامنية اللبنانية التابعة لها، لقد فات الأوان. فالتناقضات الاميركية الاوروبية في العراق باتت الآن علاقات تلاقي وتضامن في المواجهة والتحدي في موضوع لبنان. ان موت الحريري وحّد اوروبا واميركا في تحالف نادر في بقعة اسمها لبنان وضد سورية. فإذا كانت دمشق بالامس قلقة من علاقة اميركية فرنسية صاغت القرار 1559 ووضعت ضغوطاً عليها لم تستسغها، عليها اليوم ان تقلق وتقلق جداً من عواقب ما يجري في لبنان وما تقوم به ازائه. "على دمشق ان تخاف وتخاف جداً من اجراءات آتية اليها"قال ديبلوماسي اوروبي اشترط عدم ذكر اسمه، مشدداً على ان هذه ليست حملة المحافظين الجدد الاميركيين ولا هي"طبخة مبيتة"، وانما هي"افراز طبيعي لسوء السياسات وسوء الحسابات". فالعلاقة ما بين القيادة السورية على اعلى المستويات، وبين قيادات المعارضة اللبنانية وصلت الى درجة لم يكن ممكناً اخفاء ما يكتنفها من غضب وكراهية وفقدان الصواب. رفيق الحريري وصل مرتبة من القوة مقابل قوة سورية وكمرشح للمعارضة في لبنان، كان لا بد من كسر شوكتها، حسب الانطباع الذي تركته ردود الفعل السورية. كانت هناك محاولات دولية للتوفيق السلمي، بهدف تخفيف وتيرة الغضب، عبر لقاءات للتفاهم على الاحترام المتبادل، انما سبق هذه الجهود، او استبقها، قتل الحريري، على ايدي مجهولة. كذلك العلاقة مع زعيم ورمز مهم للمعارضة هو وليد جنبلاط. فهي بدورها وصلت درجة فقدان الصواب. فالذين قتلوا الحريري يريدون قتل جنبلاط. قتلوا الحريري لأنهم افترضوا ان لا ميليشيات لديه ولا شعبية فاعلة خارج لبنان كما لجنبلاط. ما فاته هو حساب الشعبية اللبنانية العارمة التي تتعدى الطائفة والميليشيات والتي فجّر صبرها اغتيال الحريري وجعلها قوة فاعلة نحو التغيير الجذري الآتي الى لبنان. فلتخشَ القوى التي قتلت الحريري وتريد قتل جنبلاط آتي اليها وليدبّ الهلع في ضلوعها. لقد طوّقت نفسها محلياً واقليمياً واوروبياً واميركاً ودولياً. انها على وشك الانتهاء. مَن البريء، ومَن ارتكب الجريمة؟ لم يعد هذا بذلك القدر من الاهمية. فالمسألة تعدّت المحاسبة على الحدث حتى وان كان بضخامة فظاعة جريمة قتل الحريري. ما يحدث الآن هو ان اللبنانيين في انتفاضة. انتفاضة صادقة ضد وضع راهن سيئ ومسيء انها ثورة على تقليد الخوف وصرخة في وجه الاذعان. عنوان الخوف والتخويف هو الاجهزة الامنية اللبنانية التي تستمد قوتها من الاجهزة الامنية السورية. وعنوانها الاذعان هو القيادة السياسية السورية التي ارتأت، لسنوات، ان الهيمنة على لبنان من مصلحتها ولصالحها. الآية اختلفت كلياً الآن. فالانتفاضة اللبنانية ليست مستوردة وانما هي من صنع القهر وافرازاته، والقمع وعواقبه، والاملاء واستفزازاته وعبثه. والرسالة بسيطة وواضحة وفي غاية السلمية، اذا فهمها مَن هي موجهة اليهم. خلاصة الرسالة الى سورية هي: شكراً، اذا كان من شكر على الماضي. ووداعاً، لأن الوداع افضل وأسلم الخيارات. ان افضل ما تفعله سورية من اجل لبنان ومن اجلها اليوم هو الانسحاب الفوري من لبنان. الى الحكومة اللبنانية ان الرسالة ايضاً سلمية وإن كانت في غاية الاحتجاج. فحواها: اما المبادرة الى حماية لبنان من استقطاب ومن تشرذم وتفتت وتراهن على قوى التدمير، اللبنانية منها وغير اللبنانية. او المحاسبة الصارمة على مثل هذا التوجه ليس فقط بانقلاب على السلطة وانما ايضاً بمحاسبات ومحاكمات دولية للذين ينوون توريط لبنان مجدداً في حلقة القتل والخروقات الفادحة للقوانين الدولي ولأصول حقوق الانسان. اسم المحاكمات هو: جرائم الحرب. فالذين نجوا منها في حرب لبنان سابقاً لن ينجوا منها في حربٍ يريدون زجّه فيها رغم انفه. فليستفيق اصحاب الرؤى والرؤية التدميرية الاستهلاكية لبلد وشعبه بأي اسم وذريعة وتبرير كان. هذا عصر التدقيق في الانتهاكات وهو عصر المحاكمة. وللتأكيد. هذا يُطبّق على الفاعلين اللبنانيين المحليين مهما اعتبروا انفسهم دُعاة او حُماة القانون والأمن باسم السيادة. فهذا ايضاً عصر تعرية مبدأ السيادة من ثوب المغالاة الامنية باسم الاستقرار. فلبنان وسورية باتا اليوم تحت الرقابة والمراقبة الدولية لعديد من الاسباب، ويخطئ من يفترض ان هذا الاهتمام عابر. واقع الامر ان واشنطن على أهبة الاستعداد لاجراءات فاعلة ضد الحكومتين السورية واللبنانية. الفارق بين الأمس واليوم هو ان هذه الاجراءات كانت بالامس فكرة بعض المحافظين الجدد الاميركيين، لكنها باتت اليوم خيارات اميركية بتشجيع اوروبي وبدعم دولي. هذه الاجراءات تشمل الآتي: عقوبات بقرار دولي، وعزل بإجماع عالمي، وضربات عسكرية بتصيفق محلي واقليمي وعالمي لم يكن وارداً قبل مقتل الحريري.