ترجمة فرنسية لكتاب المفكر هشام شرابي الراحل قبل اسابيع"الجمر والرماد"صدرت حديثاً عن دار لارماتان باريس وأنجزها لوي - جان دوكلو وخصّها بمقدمة الكاتب والسياسي غسان تويني. والكتاب سيرة ذاتية تتناول المرحلة الأخيرة من الأربعينات كما عاشها المؤلف. هنا مقتطفات من مقدمة التويني: "إنه يوم قارس من أيام كانون الاول ديسمبر 7491. ... في اليوم التالي نحن في الطائرة. من النافذة ألقي نظرة أخيرة على يافا، بلدي. يافا مدينة البحر ذات المرفأ. أرى بوضوح"العجمي"والكنيسة الارثوذوكسية البيضاء قرب منزلنا. ويخيل لي أنني أستعيدها مشعة على قمّة"تل العرقتنجي". وما هي الا لحظات حتى اختفت يافا عن ناظري. فما عدت أرى الخط الابيض الذي يرسمه الشاطئ وتمتد خلفه المدينة في الافق البعيد حتى تلامس حدائق الليمون". هذه العبارات البسيطة التي تصف التمزق الذي يحدثه المنفى، وحزن المقتلع من جذوره، كافية لتمييز هشام شرابي عن بقية المثقفين الفلسطينيين - اللبنانيين بالتنبي والقلب -، الذين تركوا أثراً على أجيال ما بعد - اسرائيل. وليد خالدي، وفايز صايغ، وطريف خالدي وادوارد سعيد الموسوعي، وكثيرون آخرون لا يقلّون شهرة زرعوا جميعهم، وان كل على طريقته، نوعاً ما من الوطنية الرمزية. أما شرابي، فلا يمانع من اعلان نفسه أحد أحفاد الرومنطيقية، ومن هنا عنوان الكتاب الذي هو سيرة فكرية"الجمر والرماد"، وهو يذهب الى حد التنديد برمزية أترابه الآخرين. ويقول إن"وضعهم كمثقفين أعماهم لأنه دفعهم الى النظر في الامور من وجهة فكرية صرف". ... هذه صرخة من القلب كأني بها انتفاضة داخل ثورة المثقفين التي ينظر اليها وان خطأ على أنها تمرين نظري. وفي ما يشبه محاولة محاسبة الذات، يتجاهل شرابي أو يكاد، التزامه الشخصي في العمل الحزبي، لا سيما ضمن حزب ايديولوجي بامتياز هو الحزب القومي السوري بزعامة أنطون سعادة، أو ما يطلق عليه الحزب الشعبي السوري. وتجد المعضلة حلها في الاعتراف الطويل لاستاذ الفلسفة الذي على رغم ممارسته التعليم في كبرى الجامعات الاميركية، نجح في أن ينأى بنفسه عن الرمزية. ولا بد من تهنئة الذات بأنه بقي متأثراً بوجودية كيركيغارد. حتى سنوات النضال في كنف حزب قومي واشتراكي تحمل بصمات العذاب الذي يخلّفه التساؤل الدائم والملحّ:"أين كنت... آه يا بلادي؟ أين سماؤك الزرقاء ومناخك العذب وشمسك الدافئة؟". أهو الحنين؟ فلنذهب أبعد من ذلك ولنقل إنها الحاجة الى نقد الذات في شكل مستمر:"لا أكف عن التساؤل ان كنت مخطئاً ... فنظرتي الى نفسي ليست سوى نظرات الآخرين إليّ". والخجل في أسلوب شرابي يمنعه من التركيز أكثر على السبب الذي دفعه الى مغادرة حزبه بعد إعدام أنطون سعادة، الذي كان معاونه المقرب منه. وهو بالكاد يندد بفلسفة العنف التي يرى فيها استنزافاً للسياسة، وكانت تجسدها في السابق مثالية القائد النقية والقاسية، التي وقع في دوامتها بعدما فرضت نفسها عليه وقبل أن يأتي الموت ليلقي بسيفه على عنقه. المنفى الثاني لشرابي خارج الحياة الحزبية لم يكن أقل الماً، وتعذيباً من الاول خارج يافا وفلسطين. فنحن لا نعتاد البعد خصوصاً اذا كان يحمل قوة الانفصال والتمزق. من هنا يمكن أن نفهم الاسقاطات التي يقوم بها أستاذ الفلسفة الشاب في ميادين الحياة الاكاديمية. إنها الحاجة الى اثبات الذات بين عدد لا محدود من الزملاء والكتاب واساتذة الفكر والطلاب وهم كلهم غرباء، ومتميزون وباهرون. هشام شرابي، وبعيداً من كل المنظرين حمل راية الثورة، تلك الثورة التي كانت ويجب أن تبقى قادرة على تغيير العالم العربي، والتي فوّتها المثقفون على أنفسهم. تلك هي العبرة من كتاب فكري متنكر بسيرة ذاتية.