مواعيد مفصلية لها تداعيات وانعكاسات بالغة الأهمية على غير صعيد. فهناك التقرير المنتظر للقاضي الدولي ديتليف ميليس، والمسألة لا تتعدى بعض الساعات القليلة المقبلة باعتبار أن المهلة القانونية الممنوحة له في مجلس الأمن تنتهي في الخامس عشر من كانون الأول ديسمبر الحالي. وهناك إجراء الانتخابات التشريعية في العراق في الموعد نفسه، وما يعول عليه هو أن تشكل نتائجها مدخلاً فعلياً لبدء حل مشاكل العراق المتراكمة والمتفاقمة. ويبقى هناك الحرب على الإرهاب وحرب الإرهاب على محاربيه وما يشهد من فصول يومية دامية والساحة العراقية هي الأكثر خصوبة لمثل هذا النوع من الإرهاب، مقابل إصرار الرئيس جورج دبليو بوش على"الخروج منتصراً"ولا يقبل بأقل من ذلك، في حين أن المعطيات والمعلومات الأخرى تؤكد اتجاه الأحداث عكس ما يشتهيه السيد بوش تماماً فتحول السؤال من: ما هي مكاسب"النصر"؟ إلى: ما هو ثمن"الهزيمة"؟ وكيف ستتم عملية الخروج والإخراج؟ لابد أولاً أن نلاحظ أن مصير لبنان والمنطقة بشكل عام رهن أو رهينة إفادات"حلاق"بيروت - دمشق! وتوظيف أقوال هذا الشاهد الزئبقي ليصبح الحدث ويطغى على الحقيقة ويتحول إلى مسألة"محورية"دخلت في صلب التحقيق الباحث عن خيوط جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ولأن الكتابة السياسية أصبحت جافة ورتيبة بعض الشيء، سنحاول تطعيم هذا التحليل بشيء من الأدب السياسي المتصل مباشرة بالأحداث."وحلاق بيروت"لم تكتمل فصول الأدوار المطلوبة منه بعد، لكن يحضرنا وجه مقارنة بين روايته المتلفزة وروايات أخرى مثل"حلاق بغداد"أو"حلاق أشبيلية"على سبيل المثال. فهل من أوجه شبه بين كل هذه الروايات؟ دعونا نحاول ولو باستعراض موجز. ففي مسرحية الكاتب المصري الطليعي الفريد فرج"حلاق بغداد"يركز على شخصية"أبوالفضول"المزين، الذي يسعى إلى معرفة كل شيء عن الناس وعن أحوالهم وهذا ما يوقعه في مشاكل عديدة.وبالمناسبة رحل الفريد فرج الأسبوع الماضي في أحد مستشفيات لندن بعد معاناة مع المرض. والأمر الآخر الذي يبرزه هو الحرية ومفهومها، فالحرية لا تتجزأ ولا يمكن لإنسان أن يعيش سعيداً في مجتمع تنقصه الحرية. وهو بالمناسبة كتب هذه المسرحية في المعتقل في الستينات من القرن الماضي، وأستطاع أن يهرب مخطوطها خارج معتقل الواحات في مصر. وللشاعر قول ينسجم مع مضمون الرواية: جميع العقائد مثل العقود/ وهذا المزين در السلوك/ فيعلو على كل ذي حكمة/ وتحت يديه رؤوس الملوك. أما رواية"حلاق أشبيلية"للكاتب الفرنسي"بومارشيه"فتركز على المعادلة الآتية:"إذا أردت ردع الآخرين عن التدخل في شؤونك أجعلهم ينشغلون في أمورهم الخاصة". وهكذا يتضح أوجه الشبه الواضحة بين كل هذه الروايات رغم اختلاف الفترة الزمنية التي كتبت فيها. وفي العودة إلى ساحة الأحداث العملية، هناك كلام كثير يرافق"انسحاب"القاضي الدولي ميليس من المسرح مع تقديم تقريره الثالث عشر من الشهر الحالي، وهل لذلك من تأثير مباشر على مسار التحقيق. وقبل الاسترسال في التقرير والتنظير حول ما يمكن أن يتضمنه هذا التقرير، يبقى الانتظار لساعات قليلة لمعرفة بعض الحقائق الواردة في هذا التحقيق والتي يؤمل أن تأتي مقرونة بأدلة دامغة وواضحة الأفضل التي ترد على حملات التشكيك المنظمة التي يقودها أطراف في الداخل والخارج والتي يمكن أن يظهرها هذا التحقيق متورطة في الاغتيال تخطيطاً أو تنفيذاً أو تواطئا: لكن القاضي ميليس يعرف أن الصدقية في تقريره قد"طعنت"بأكثر من شاهد نقض أو تراجع عما اعترف به أمامه، وعليه أن يعود إلى برلين ببعض النجاح أفضل من بعض الفشل. وكثيرون ينتظرون هذا التقرير للبناء عليه. فبعد التحقيق الدولي تأتي عملية البحث في المحكمة الدولية، وهذه إشكالية كبيرة في لبنان اليوم يجب العمل على حصر تداعياتها، ولكل طرف وجهة نظر يجب أخذها في الاعتبار. وعلى سبيل المعلومات بدأت مصادر إسرائيلية التبشير بالنتائج التي سجلها هذا التقرير، ونقتطع من ذلك ما ورد في صحيفة"هآرتس"حيث قالت:"... سيقدم القاضي ميليس تقريره عن جريمة اغتيال الحريري. ومن المحتمل بعدها أن تزداد حدة الخلاف الداخلي اللبناني حول نهج الدولة". وعلى اللبنانيين أن يقرروا ما إذا كانت التوقعات الإسرائيلية ستصدق! أم أنها سيخيبون أمل الشامتين؟ يتزامن مع كل ذلك اكتشاف المقابر الجماعية في لبنان، والتي أتضح أن مختار مجدل عنجر أبلغ دوائر رسمية بها قبل سنتين لكن أحداً لم يحرك ساكناً. فلماذا"يعلن"الآن الكشف عن هذه المقابر التي لا يمكن لأحد أن يقبل بها. وتسارع دمشق - حتى قبل أن يتهمها أحد - إلى التطوع بالإدلاء بمعلومات تفيد بأن هذه المقابر الجماعية تعود إلى حقبة الحرب الأهلية في لبنان. ولأن لبنان لا يملك مختبرات عصرية، فعليه الاعتماد على الخارج للحصول على فحوص الحمض النووي أو ما يسمي ب D.N.A لمعرفة المرحلة التي تعود إليها هذه الأشلاء. ولكن إذا سلمنا جدلاً بأن هذه المقابر تعود إلى الحرب الأهلية في لبنان فإن القوات السورية دخلت إلى لبنان على أساس وقف الاقتتال والحروب بين اللبنانيين وهذا لا يعفيها من مسؤولية. ثم تعقب ذلك معلومات من دمشق عن اشتباك مع مسلمين في حلب والكشف عن"مجموعة كبيرة"من الأسلحة التي دخلت من لبنان! وعليه يستأنف"الحوار اللبناني السوري"على خلفية تبادل جديد من الاتهامات في حين أن لقاء برشلونة بين الرئيس فؤاد السنيورة والوزير فاروق الشرع أعطى انطباعاً متفائلاً بقرب عودة هذه العلاقات إلى طبيعتها . وطالما أن الإعلام المسيس يلعب دوراً بالغ الخطورة في بعثرة قناعات الناس بإطلاق العديد من المعلومات المتناقضة بين بعضها البعض في آن فإن حالة التشويش ستظل قائمة. لكن ما يجري في العراق تبقى له الأولوية من حيث الخطورة والمضاعفات على ما عداه في المنطقة. ولأن مصير العراق هو المهم يجب التركيز على ما يجري في هذه الآونة بالذات. فالرئيس جورج دبليو يتحدث عن"نصر قريب"وأنه لا يقبل بغير ذلك، لكن الحقائق تشير إلى عكس ذلك. فما يحدث الآن يمكن اختصاره باستراتيجية الانسحاب من العراق بالقدر الممكن من الحد من الخسائر. ورغم ما يقال للتعمية و"تلميع الحقائق"كما اتهم بعض زعماء الكونغرس الرئيس الأميركي تبقى التطورات الميدانية على الأرض هي صاحب الكلمة الفصل. وليس طلب بوش من سفيره في العراق زلماي خليل زاد فتح حوار مع طهران إلا بداية الهزيمة بعد كل هذه المكابرة على الذات. وترد إيران ب"غنج سياسي"بأنها غير مهتمة في الوقت الحاضر بمثل هذا الحوار مع الولاياتالمتحدة لكنها تعد بأنها"ستدرس المسألة"؟ أنها استراتيجية النصر... بالانسحاب. وعليه سيبدأ انسحاب القوات الأميركية ومعها البريطانية اعتباراً من مطلع العام الجديد 2006 وفق جدولة معينة هي لكل من واشنطنولندن وبعض المسؤولين في بغداد وليس لمن يطالب بوضع برنامج زمني للانسحاب. والأصوات المطالبة بالانسحاب التدريجي من العراق ترتفع أكثر فأكثر من داخل الأوساط الأميركية. فهذا"معهد الولاياتالمتحدة للسلام"يقدم دراسة تؤكد:"إن إيران نجحت من دون شك بإدخال نفسها بعمق في السياسة العراقية وتستمر بتحد الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي والوكالة الذرية للطاقة". وأعد هذه الدراسة جيفري كمب الذي عمل مديراً بارزاً لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي في إدارة الرئيس رونالد ريغان، والتي يشدد فيها على القول:"... من مصلحة البلدين أميركا وإيران التعاون في جلب الاستقرار في العراق". وحملت الدراسة عنوان"إيرانوالعراق: العلاقة الشيعية والسياسة الناعمة والعامل النووي". وينتهي كمب إلى الاستنتاج الآتي:"من دون علاقات عملية جيدة بين واشنطنوطهرانوبغداد تستمر الشكوك حول استقرار العراق الجديد". وهنالك العديد من القرائن الحسية التي تبرز حدة التورط الذي أوقع فيه الرئيس بوش نفسه باسم الحرب على الإرهاب. وأحد الأسئلة المطروحة هي: هل أن خسائر الإرهاب نفسه أكبر؟ أم أن الحرب على الإرهاب هي الأكثر تكلفة وضحايا؟ إن منازلة بوش - الزرقاوي، كما أسماها بنفسه الرئيس الأميركي هي في مأزق كبير. ومع رفض كل ممارسات أبومصعب الزرقاوي وأعوانه فإن الأخطاء في الحرب على العراق فاق كل أنواع التكتيك أو الاستراتيجية في القضاء على الإرهاب، ويبقى الآن اتخاذ القرار الصعب لوقف تدهور المواجهة عند حد معين. فإذا كانت الإدارة الأميركية سلمت بالأمر الواقع الإيراني في العراق، وهذا ما حذرت منه المملكة العربية السعودية على لسان الأمير سعود الفيصل بأكثر مما يمكن من الوضوح، فهي تسعى الآن للمقايضة على هذا الموقف. والمفارقة التي تصفع: إن أميركا دخلت بقوة إلى العراق وهي ستضطر للخروج أجلاً أم عاجلاً بغير انتصار إن لم يكن بأكثر من هزيمة. فالعناد لا يصنع سياسة، والاكتفاء بالاستماع إلى النفس لا يكفي في مواقع مفصلية من هذا النوع. إذا ما هو منتظر الانسحاب الأميركي التدريجي في العراق تحت غطاءَ"النصر"! وتسليم مهمة الوضع الأمني إلى العراقيين الذين قال أكثر من زعيم منهم أن ما من أحد يعرف أن يضبط الأمن بالعراق غير العراقيين! وهذا هو التحدي الكبير للأمن الوطني العراقي. ونحن في العراق لا يمكن إلا ان نتوقف عند ما سمي ب"محاكمة العصر"، محاكمة صدام حسين وكبار أعوانه. لقد أتضح العديد من المفارقات فمن جهة يريد الحكم الأميركي المدعوم عراقياً وبالعكس أن يظهر من هذه المحاكمة وجه الشفافية والممارسة الحضارية للقول إلى العالم أن صدام حسين لم يقدم أحداً للمحاكمة في عهده، ولم يعط أي مجال لأي متهم بالدفع عن نفسه بل كان الشعار تنفيذ الإعدام ثم توجيه التهمة إليه. لكن من جهة ثانية المبالغة في الأمور تأتي بنتائج عكسية. فتحولت المحاكمة إلى منبر جعل من المرتكب والجلاد هو الضحية. فصدام حسين ما زال يمسك بالمبادرة فهو الذي يقرر مسار المحكمة إلى حد بعيد ويحاضر ويزايد باسم الوطنية والدين والقيم والأخلاق برفيعة. فبدا صدام كأنه ما زال يحكم ويتحكم بالقرار من زنزانته. تحية للقاضي رزكار محمد أمين على صبره وطول أناته لكن البعض يعتقد أنه أفرط في الشفافية وفي الرقة وهذا يطرح الرسالة الملتبسة التي أريد من هذه المحاكمة بهذا الشكل. وظهور صدام حسين بهذا الشكل من التحدي يؤجج المشاعر لدي الكثيرين الذين كانوا ضحية نظامه ومن تبقى من عائلاتهم وأصدقائهم، ولا يمكن أن ينتقل العراق بهذه الصورة المفاجئة من حكم شمولي لم يعترف يوماً بحقوق الإنسان إلى حكم يستوعب الجلاد ويمنحه كل فرص الدفاع عن نفسه بما فيها الاعتراض على عدالة هذه المحاكمة! ألم نقل بأن صدام حسين هو الرئيس الأكثر تكلفة في العالم بما فعله خلال حكمه وبما يتابع فعله وهو في الزنزانة، والمطلوب وقف هذه المسرحية المتلفزة وتكفي هذه الجرعة من العدالة والحرية والديموقراطية، لأن المأزق الحقيقي في العالم العربي تخصيصاً، وفي دول العالم الثالث عموماً هو الابتلاء بحكام يفرضون عليه كل شيء غير إنساني إلا حظوة المحظوظين والشعب هو الذي يدفع على الدوام الفاتورة الغالية. هل المطلوب تأكيد النظرية القائلة بأن صدام حسين هو الأزمة في العراق سواءَ خلال حكمه أو خلال محاكمته؟ ومن حق كثيرين أن يسألوا: هل أن محاكمة صدام شفافية مفرطة وسكر زيادة أم هي خطة؟ لقد دخلت الولاياتالمتحدة والحليفة بريطانيا إلى العراق بالحجة المعروفة وهي القضاءَ على أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها نظام صدام حسين، فإذا بها تكتشف أن لا وجود لأسلحة الدمار الشامل، بل أن صدام نفسه هو الدمار الشامل للعراق ولأبعد من العراق. أما أزمة الأيام الآتية فربما تكون تفاعلات تصريحات الرئيس الإيراني أحمدى نجاد الذي يطالب بنقل إسرائيل إلى النمسا وألمانيا . كاتب لبناني.