د. الخريّف يشارك في اجتماع المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة    المراقبون الجويون.. أعين يقظة لضمان سلامة المسافرين    النائب العام يُقرّ إنشاء مركز برنامج حماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا    إطلاق خدمة إصدار رخص إقامة الأشياب غير الصالحة للشرب    خادم الحرمين يدخل مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة لإجراء فحوصات روتينية    ترشيح "واحة الإعلام" للفوز بجائزة الأمم المتحدة لمشروعات منتدى القمة العالمية لمجتمع المعلومات "WSIS 2024"    الأرصاد: الفرصة ما تزال مهيأة لهطول أمطار رعدية    اللجنة الوطنية للأسماء الجغرافية تعقد اجتماعها التاسع في الجيومكانية    جامعة الفيصل تضخ 200 خريجاً وخريجة للقطاع الهندسي    المجمع الفقهي الإسلامي يصدر قرارات وبيانات في عددٍ من القضايا والمستجدات في ختام دورته ال 23 clock-icon الثلاثاء 1445/10/14    "سيبرانيو المستقبل".. تجربة الأمان والحماية الرقمية    حارس العين: حاولت تهدئة اللعب بإضاعة الوقت    «تأشير» ل «عكاظ»: 200 مركز لخدمات التأشيرات في 110 دول    محافظ الزلفي يطلق حملة الدين يسر    «السياحة»: «الممكنات» يخلق استثمارات تتجاوز 42 مليار ريال و120 ألف وظيفة    فائدة جديدة لحقنة مونجارو    علامات ضعف الجهاز المناعي    المطبخ العالمي    أمير تبوك: عهد الملك سلمان زاهر بالنهضة الشاملة    شاهد | أهداف مباراة أرسنال وتشيلسي (5-0)    «خيسوس» يحدد عودة ميتروفيتش في «الدوري أو الكأس»    في انطلاق بطولة المربع الذهبي لكرة السلة.. الأهلي والاتحاد يواجهان النصر والهلال    الهلال يستضيف الفيصلي .. والابتسام يواجه الأهلي .. في ممتاز الطائرة    يوفنتوس يبلغ نهائي كأس إيطاليا بتجاوزه لاتسيو    مبادرة 30x30 تجسد ريادة المملكة العالمية في تحقيق التنمية المستدامة    إنسانية دولة    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يبحثان التعاون والتطورات    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان هاتفيا العلاقات الاستراتيجية بين البلدين    مجلس الوزراء: 200 ألف ريال لأهالي «طابة» المتضررة مزارعهم وبيوتهم التراثية    تفاهم لتعزيز التعاون العدلي بين السعودية وهونغ كونغ    مكافحة إدمان الطلاب للجوال بحصص إضافية    حضور قوي للصناعات السعودية في الأسواق العالمية    أضغاث أحلام    الدرعية تكشف تفاصيل مشروع الزلال    تأثير الحياة على الثقافة والأدب    معادلة سعودية    تكريم الفائزين بجائزة الإبداع في النقل و«اللوجستية»    المملكة تجدد مطالباتها بوقف الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيّين في غزة    إشادة عالمية بإدارة الحشود ( 1 2 )    دورة حياة جديدة    عدوان الاحتلال.. جرائم إبادة جماعية    القوات الجوية تشارك في "علَم الصحراء"    طريقة عمل ديناميت شرمب    طريقة عمل مهلبية الكريمة بالمستكه وماء الورد    5 عوامل خطورة لمتلازمة القولون العصبي    الشرطة تقتل رجلاً مسلحاً في جامعة ألمانية    سورية.. الميدان الحقيقي للصراع الإيراني الإسرائيلي    متى تصبح «شنغن» إلكترونية !    مجلس الشيوخ الأمريكي يمرر حزمة مساعدات أوكرانيا    سعود بن نايف يشدد على تعريف الأجيال بالمقومات التراثية للمملكة    محافظ الأحساء يكرم الفائزين بجوائز "قبس"    أتعبني فراقك يا محمد !    أمير الشرقية يرعى تخريج الدفعة 45 من طلبة جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل    عبدالعزيز بن سعد يناقش مستقبل التنمية والتطوير بحائل    مهمة صعبة لليفربول في (ديربي ميرسيسايد)    أمير الرياض يستقبل عددًا من أصحاب السمو والفضيلة وأهالي المنطقة    أخضر تحت 23 يستعد لأوزباكستان ويستبعد مران    الإعلام والنمطية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عالم الاجتماع الفرنسي في حديث شامل ل"الحياة" . إدغار موران : إنقاذ البشرية قبل فوات الأوان وضرورة احترام الخصوصيات الثقافية
نشر في الحياة يوم 19 - 09 - 2004

في ظلّ ما تشهده الأرض من أزمات حادّة من جرّاء تحالف بربرية الحروب من جهة، وبربرية التعصّب والعنف والاستغلال من جهة ثانية، تتزايد أصوات الكتّاب والمفكّرين الذين يمعنون في التحريض ضدّ الإسلام وتحميله مسؤوليّة ما يجري في العالم، لكن تطالعنا في الوقت ذاته، وإن بنسبة ضئيلة، أصوات تتميّز بنزعتها الإنسانيّة ودعوتها إلى المصالحة بين البشر مهما اختلفت أجناسهم ودياناتهم وثقافاتهم. من هذه الأصوات صوت المفكّر وعالم الاجتماع الفرنسي المعروف إدغار موران Edgar Morin.
وتجدر الاشارة الى ان موران هو رئيس الجامعة الأوروبية ورئيس وكالة الثقافة التي ترعاها اليونيسكو، وهو أحد أكبر المنظّرين لعلم الاجتماع لا سيّما في كتابه "المنهج" La Mژthode.
التقينا إدغار موران في منزله الكائن في منطقة "الماريه" في الدائرة الثالثة في باريس. كانت الحجرة التي جلسنا فيها مليئة بصناديق الكرتون. ولقد أخبرنا أنّ هذه الصناديق تحتوي على جزء من كتبه وأنّها مكدّسة هنا منذ ثلاث سنوات ولم يتسنّ له بعد أن يفرّغها... ومنذ البداية أدركنا أنّ موران يعيش صراعاً كبيراً مع الوقت هو الذي يعمل على الإفادة منه إلى أقصى حدّ إلى درجة أنّه لا يستعمل الهاتف إلاّ في الحالات الضروريّة. فهو، بحسب ما ذكر لنا، لا يحبّ استعمال الهاتف لأنّ فيه ضياعاً للوقت. جئنا إلى موران بأسئلة كثيرة. وكنّا كلّما استمعنا إلى إحدى إجاباته، تضاعفت أسئلتنا وتعدّدت، ذلك أنّ المسائل التي يطرحها شديدة الأهمية وتشكّل مثار جدل مفتوح.
تعتبر أن مصير الكائنات الحية بما فيها شعوب هذه الأرض ماضية نحو الهاوية بفعل ما آل إليه سوء استخدام الإنجازات العلمية والتقنية التي حققتها البشرية خلال القرون الماضية، كانتشار أسلحة الدمار الشامل، وسيادة سلطة المال في العالم، هل تعتقد بأن في إمكان الإنسانية الخروج من هذا المأزق؟ وكيف؟
- إذا تمعنّا جلياً في كل ما يشهده كوكب الأرض من تصادم وحروب ومجاعات وأزمات وكوارث، فإنّنا نجد أنّ كل الاحتمالات المطروحة أمامنا لا تنذر إلاّ بخطورة الوضع. والبشرية مهدّدة بأكملها إذا لم تستدرك، وبسرعة، المخاطر التي تتهدّدها. إذا أخذنا على سبيل المثال الأسلحة النووية نلاحظ أنها آخذة في التضاعف والانتشار، وبالتالي فإنّ مخاطر النزاعات تتضاعف أكثر فأكثر. كنا نظنّ في السنوات السابقة أنه بزوال الاتحاد السوفياتي ستتضاءل مخاطر الحروب والنزاعات، لكن حصل العكس. إضافة إلى ذلك فإنّ كوكبنا مهدد بتزايد الكوارث كتزايد التلوّث البيئي، وارتفاع حرارة الأرض، وخفض ثروة المياه، وتردّي حالة البحار والمحيطات، وزحف الصحراء، والتغيّر المفاجئ للمناخ. كل هذه المسائل تضع الجنس البشري أمام مفترق لا سابق له. وعلى رغم خطورة الوضع، لم تتخذ الدول الكبرى حتى الآن أيّ قرار بهذا الشأن. هذا من جانب، ومن جانب آخر إذا ما التفتنا إلى الجانب الاقتصادي نرى أن النظام الاقتصادي العالمي، أي العولمة، ومنذ التسعينات، هو نظام يهدف إلى إخضاع مجموع الأنظمة الاجتماعية والثقافية في العالم إلى نموذج اقتصادي أوحد أساسه السيطرة المالية. وقد تمكّن هذا النظام من خلق بؤر من الغناء الفاحش في العالم، كما ضاعف، في مناطق أخرى، من جيوب الفقر، وأحياناً يتجاور الغنى والفقر في المناطق نفسها. عموماً، ألجأ إلى تشبيه الأرض بمركبة تقودها أربع محركات مشتركة لا رقابة لها ولا ضوابط تنظّمها. أبرهن من خلال ذلك أنّ العلم الذي أنتج معارف رائعة وتطوّرات تقنية كبيرة وصناعية هائلة، أنتج، في الوقت ذاته، وسائل تدمير هذه الحضارة. هكذا، فإنّ العولمة هي أحد أوجاع الحضارة الغربية ذلك أننا طبّقنا، وفي كل المجالات والميادين، منطق الآلة الاصطناعية التي صنعناها. هذا يعني أننا نطبّق منطق مبدأ الحتمية والميكانيكية في مجتمعات لا يمكن للحاسب الآلي رؤية مشكلات الإنسانية الأخرى من جوع ومرض ومعاناة وأوجاع. محرك العالم اليوم هو الاقتصاد القائم على الربح، حيث تنعدم الضوابط والقواعد الأساسية للمنافسة الاقتصادية، وقد بدأنا نرى ظواهر جديدة تعرفها كبرى الشركات العالمية وتتمثّل في ظواهر الرشوة من الداخل وتحويل الأموال. وما دامت المركبة بدون قائد فإنّ ركّابها يتقاتلون ويتناحرون ولا أحد يعرف إلى أين يمضي العالم، وعلى ماذا نحن مقبلون. لذا يبدو الغموض سيّد الموقف والهاوية أكثر اقتراباً.
كيف تشخّص هذه الوضعية؟
- تشخيصي على مستوى الكرة الأرضية ألخّصه كالتالي: لقد تأسست هياكل لمجتمع عالمي، ولكي يوجد مثل هذا المجتمع العالمي كان لا بد من شبكة اتصالات، وعالمنا اليوم يتوفّر على شبكة متقدمة جداً من مواصلات وإنترنت وتليفون وأقمار صناعية وتلفزيون... لم يسبق للمجتمع البشري أن عرفها من قبل. وكان لا بدّ أيضاً من تأسيس منظومة اقتصادية. فإذا كنّا نعرف أنّ الاقتصاد في المجتمع العادي يكون منظماً ومراقباً، ففي وضعنا اليوم يوجد اقتصاد عالمي غير مقيد وغير مراقب. وما ينقصنا ليست البنية وإنما الهيئة التي تشرف على التحكم بهذه البنية وعلى تسييرها، وأقصد بها مؤسسات شرعية وقانون دولي لقيادة المجتمع. والأمم المتحدة عاجزة وغير قادرة على القيام بأي دور، وقد لمسنا ذلك في أزمة العراق. إلى ذلك، نفتقد لوعٍ مشترك بين الجميع. وحدها بعض المنظمات غير الحكومية العاملة في قطاعات المساعدة الإنسانية تملك هذا الوعي، وعي الانتماء إلى أرض واحدة، أسمّيها "الأرض الأم". إذاً، وعلى رغم وجود قوى ضخمة قادرة على توحيد الشعوب، كالتقدّم العلمي والتطوّر التقني والتكنولوجي، فإنّ سيادة الاقتصاد، أي "بربرية المال" وبهذا الشكل الهمجي الذي نعيشه اليوم، يجعلنا في وضع فوضوي وخطير، مما يؤدي إلى بروز بؤر من المقاومة عند مختلف الثقافات وبأشكالها المتعددة والمتنوعة. وهذا ما نشهده لدى بعض هذه الثقافات ويتمثّل في سعيها نحو الانغلاق على ذاتها وعلى ماضيها. منذ أربعين سنة كانت هناك آمال وتطلعات نحو مستقبل أفضل، كظهور الشيوعية وإعلانها عن عالم قائم على المساواة والأمن، وفي العالم الليبيرالي في الغرب كان ثمة من يقول إن الحلول لا توجد إلا في إقامة مجتمع صناعي متطوّر قوامه الديموقراطية والحرية، وحتى في البلاد العربية فلقد فتح التيار الاشتراكي آفاقاً واعدة لدى الملايين من المواطنين. كل ذلك سقط في أزمة هائلة واليوم لا أحد يستطيع أن يتكهّن بالمستقبل. وكشف التطور الآن عن تناقض مزدوج يولّد الوعي بخسارة المستقبل، وهذا ما يفسّر، في رأيي، انزواء الكثير من الأمم داخل ما هو قومي وديني. إنّنا إزاء وضع يخلق أزمات حادة على كلّ المستويات، وقد يرمي بمصير الإنسانية إلى حافّة الهاوية.
وسط هذا المشهد القاتم، كيف يمكن، في رأيك، العمل على إحياء أمل جديد؟
- ما عرضته منذ قليل هو نظرتي للواقع، وهذا ما يمكن تسميته "بالمحتمل"، لكن من جهة أخرى يبقى ثمة أمل بحدوث ما يسمى بِ"غير المحتمل". وقد عرف التاريخ الإنساني أمثلة عدة من هذا النوع. كما عايشتُ أنا شخصياً مثالين تاريخيين، الأوّل عندما حاولت ألمانية النازية السيطرة على أوروبا، وكان من الممكن أن تدوم هذه الوضعية عشرات السنوات. غير أنّ الوضع سرعان ما تغيّر في غضون أشهر معدودة بفضل المقاومة في موسكو، وكذلك نتيجة قصف اليابان لمدينة "بيرل هاربور" وهذا ما دفع بالولايات المتحدة الأميركية إلى دخول الحرب. وهكذا فلقد أصبح غير الممكن ممكناً في فترة زمنيّة لم تتجاوز الأربعة أشهر. ولنتذكّر عملية انهيار الاتحاد السوفياتي، فالفكرة لم تكن واردة على الإطلاق ولم يكن أحد يتصوّر احتمال حدوثها. وكان لهذا الانهيار انعكاسات إيجابية وأخرى سلبية. لذا فحدوث غير الممكن أو غير المحتمل وارد في التاريخ، والشعور بتفاقم الأخطار يزيد من كثافة الوعي بالمصير المشترك.
تنادي بإصلاح شامل لسياسة التفكير والتربية، وتدعو إلى رؤية جديدة تكون قادرة على تجاوز الأزمات المتعددة التي يواجهها العالم اليوم، كيف تحدّد معالم هذه الرؤية، وكيف يمكن تحقيق الإصلاح وبأيّ وسائل؟
- هناك حاجة ماسّة لإعادة النظر في كل المجالات والقطاعات، وأنا أناضل من أجل إصلاح فكري وتربوي في المجتمع لنكون أكثر انفتاحاً وتفهّماً لمشكلات الأرض. المدرسة اليوم تقوم بتكوين عقول متخصصّة وأحادية الجانب غير قادرة على رؤية المشكلات الأساسية والشاملة، وقد اقترحت ضمن استشارات على المستوى الفرنسي والأوروبي جملة من الأفكار للنهوض بالبرامج التربوية والتعليميّة، من هذه الأفكار استحداث برامج لتكوين مواطنين واعين ليس فقط داخل محيطهم الوطني الضيّق، بل أيضاً في المحيط الأشمل الذي يطاول كوكبنا بأكمله، مواطنين قادرين على تحسّس مشكلات الأرض والانفتاح على كلّ ما يجري في العالم. نحتاج إلى أفراد يتمتّعون بوعي معرفي وفهم إنساني أوسع وأعمق. مع هؤلاء نبدأ صفحة جديدة من التعاطي مع الأنا والآخر، مع واقعنا وأحوالنا. يبقى أنّ فكرة الإصلاح تلاقي، في الوقت الراهن، مقاومة داخلية قوية رافضة لكلّ تغيير. والدخول في أزمة يفتح الباب على كلّ الاحتمالات كتراجع القيم واللجوء إلى الحلول السهلة والأفكار المسبقة والبحث عن الضحية بأيّ ثمن. وأنا لا أملك إجابات جاهزة لتغيير هذا الوضع. وليس في إمكان أحد اليوم تقديم الجواب القاطع، فكل ما نعرفه هو أننا نجهل الاتجاه الذي نحن مقبلون عليه. هاجسي الأساسي هو تغيير الحاضر وإعادة تحديد معاني وقيم حياة مشتركة تكون أكثر تحضّراً وأكثر تمدّناً بين الناس، فكلّ ما يلزمنا اليوم، وهذا أمر في غاية الضرورة، هو بلورة استراتيجية تحول دون حدوث الأسوأ.
قلتَ مراراً إنّ العقلانية الغربية لا يمكنها أن تحلّ جميع مشكلات الأرض، كما أنّ التقوقع والانطواء على الذات لا يساعد على إيجاد الحلّ المناسب، فهل هناك من بديل لهذين الاحتمالين؟
- لا بدّ لنا اليوم من وعي كوني ورؤية مغايرة لما هو سائد، ولا بدّ من إصلاحات شاملة وعميقة وتقديم الحلول الصحيحة لحياتنا المعاصرة، فهناك أزمة قيم حضارية في الغرب. وفي رأيي لا بدّ من رفض مفهوم التنمية السائد والذي نقدّمه كأنموذج ناجح نسعى إلى تطبيقه في كلّ القارات. وهذا خطأ، فلكلّ بلد ولكلّ منطقة خصوصيّتها الثقافية والاجتماعية والحضارية. والنموذج المطروح لا يتناسب مع تلك الخصوصيّات، بل يرمي إلى تحطيم عناصر التنوّع الطبيعي والتوازن المحلّي من أجل إدخال تقنية الربح والرشوة وتهديم قوى التضامن الداخلي. إنّ كلّ ما يشكّل الوجه اللمّاع للحضارة الغربية ينطوي على وجه أسود. فالفردية التي كانت أحد أبرز الانتصارات في الغرب ترافقها اليوم ظواهر تجعل من هذا الفرد كياناً مقنّناً يعيش وحدة مرضية في محيط اختفت فيه روح التضامن والتعاضد الاجتماعي، والتقنية التي حرّرت الإنسان وطاقته المبدعة أصبحت اليوم تُخضع المجتمع للمنطق الكمّي والاستهلاكي الواسع، بل إن الصناعة أصبحت مصدر تلوّث بيئي يهدّد التوازن الطبيعي بأكمله. حتى العلم الذي كنا نظنّه مصدر خير للبشرية، كما كان يقول فلاسفة عصر الأنوار، أصبح يثير مخاوف الإنسانية جمعاء. فالتنمية التي بنيت على محرّك التقنية والاقتصاد لم تحدّ من التخلف الإنساني والفكري في مجتمعاتنا التي نسميها بالمتقدّمة، ولا في بقية المجتمعات الأخرى التي نطلق عليها اسم التقليدية أو النامية. وكل الحلول التي تقترحها حضارتنا الغربية تواجه تحديات كبرى تطرح علامة استفهام على المستقبل برمّته وعلى مصير الكون. أكرّر: ينبغي الاعتماد على سياسة حضارية مدنيّة تأخذ في صميمها الإنسان، فيكون هدفها الارتقاء بالإنسان لحياة أفضل. يرتكز هذا الوجّه على عنصرين أساسين هما جعل المدن أكثر إنسانية ومحاربة تصحّر الأرياف.
هل عرف العالم عبر التاريخ أنموذجاً مماثلاً لهذا الأنموذج الذي تتحدث عنه؟
- إنّ ظاهرة التقدم التقني والعلمي بجميع انعكاساتها هي ظاهرة فريدة لم يسبق لتاريخ البشرية أن عرفها من قبل، لذا أقول إنه عندما يصل أي نظام إلى هذه الدرجة من المشكلات والأزمات التي يعجز هو ذاته عن إيجاد الحلول لها، لا يبق أمامه سوى حلّين لا ثالث لهما: إما رِدّة وتراجع شامل أو ولادة نظام جديد.
تحثّ في كتاباتك على الحبّ والاتحاد والمشاركة لمواجهة أمراض العصر. أليس ذلك نوعاً من المثالية في عالم يهمّش الشعر والحبّ والتعايش؟
- هناك نوعان من الواقعية: الواقعية الصحيحة والواقعيّة غير الصحيحة. الأولى تقول إن الحل هو الآن بالذات. وهذا ما يعيشه الناس في أيامنا الراهنة. أي أنّ كلّ شيء يجب أن يكون آنياً وسريعاً. أما المثالية فهي الأخرى نوعان: الأول يقول إن في إمكاننا العيش بوفاق في عالم يسوده الانسجام ولا وجود فيه للنزاعات والشقاء. وهذا في رأيي يوطوبيا سيّئة لأننا لا يمكن أن نقضي على الشرّ كما أنّ ليس في إمكاننا التخلّص من الموت وإن كان في إمكاننا أحياناً تأخيره. والنوع الثاني من المثالية، وهو المثاليّة الجيدة، يقول إن من الممكن حل الأزمات والمشكلات التي يبدو حلها مستحيلاً اليوم كقضية الأمن على الأرض. كما يمكن توفير الغذاء للجميع على هذا الكوكب... كلّها قضايا يمكن توفير الحلّ لها، لكن بأيّ طريقة ومتى؟ هذا ما يرفض الإجابة عنه عظماء هذا العالم. وكما يوجد التغيير الطبيعي، هناك أيضاً التغيير التاريخي، وما هو مستحيل اليوم قد يلاقي حلاًّ في ظروف أخرى، وهذا ما عرفته البشرية طيلة فترات تطوّرها.
تقول إن كنز الحياة الإنسانية يكمن في تنوّعها، فإلى أي مدى تجد أنّ هذا التنوع مهدّد اليوم؟
- لننظر إلى ما حولنا من تغيّرات الطقس ونفاد ثروة المياه وسيادة منطق الربح والمال بكلّ الوسائل والطرق وسيادة منطق الاستهلاك في كلّ شيء على حساب القيم الإنسانية... كلّ ذلك يهدّد تنوّع البيئات سواء كانت طبيعية أو ثقافية أو اجتماعيّة...
كيف يمكن للعلم أن يُدخل الأخلاق كمبدأ في مساره؟
- نعرف أن العلم المعاصر تكوّن ابتداء من القرن السابع عشر، وكان الشرط لدوامه واستمراره أن ينفصل عن السلطة السياسيّة والدينيّة. وتميّزت المرحلة التي نشأ فيها العلم بسيادة السلطة الدينيّة، ويكفي هنا أن نذكر محاكمة غاليليه. لقد كانت مهمة العلم المعرفة من أجل المعرفة من دون الاهتمام بنتائجه وانعكاساته. استمر الوضع على هذا النحو لقرون طويلة لكنّه تغيّر في القرن العشرين. إنّ تزاوج العلم مع التقنيات والتكنولوجية الحديثة أنتج سلطات جديدة. وأصبح من الضرورة درس العلاقة بين العلم والسلطة. ويبدو اليوم، وضمن السياقات الراهنة، أن الجمع بين الأخلاق والعلم بات أمراً صعباً للغاية. ولا بد إذاً من تدخل سياسة من نوع آخر تكون بعيدة الأفق وذات مصلحة عامّة من أجل فتح آفاق جديدة والخروج من المأزق. كما ينبغي إحداث ثورة داخل العلوم ذاتها، فالعلوم تمّ تأسيسها على قواعد الحتمية القائلة إن أفعال المرء والتغيرات الاجتماعية هي نتيجة عوامل لا سلطة للمرء عليها، وهذه الرؤية للعلم غير قادرة على تصوّر المسؤولية الملقاة على الإنسانية. من هنا فإنّ على العلم أن يحدث تحوّله من الداخل، وهو الأمر الذي نشتغل عليه منذ سنوات طويلة، لكنّنا لا نزال في بداية ثورة علمية لم تكتمل بعد.
تدعو في كتاباتك العالم إلى اعتماد سياسة حضارية في العلاقات الإنسانية، كيف يتم ذلك وسط دوامة العنف الاقتصادي والاجتماعي والتعصب الديني؟
- تعرف الإنسانية اليوم وحتى قبل حوادث سبتمبر تحالف بربريتين تمتدّ الأولى من الأزمنة القديمة وهي التي جلبت معها الحروب والتعصّب والدمار والعبودية والاستغلال، أمّا البربرية الثانية وهي أكثر تجلّدًا فقد انبثقت من الحضارة الصناعية والتقنية الحديثة التي تفرض المنطق الآلي متجاهلة الأفراد بأحاسيسهم وأجسادهم مستغلّة في ذلك كلّ وسائل الدمار والتسلط. وهكذا فإنّ عالمنا تتنازعه هاتين البربريتين وقد اتّحدتا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن نتائج هذا الاتحاد البربري توسّع عمليات الانتقام على مستوى دولي كبديل للعدالة، وتراجع الضمير المدني في كلّ مكان وسيادة العنف. ولقد أصبحت الجرائم عالمية، ألا ترين كيف يندفع العالم أكثر فأكثر نحو الحروب والتدمير... ومثلما عشنا حروب البوسنة والهرسك باسم القومية والدين ها نحن نعيش من جديد حرب العراق كحرب ضد الإرهاب في حين أنّ رئيس الولايات المتحدة الأميركية يخضع في نظرته وتحليله لخطاب كنيسته المتعصّبة. وفي المقابل نجد كيف أنّ استعمال بن لادن لإسلام متطرّف هو استعمال بعيد كلّ البعد عن قيم الدين السميح. عندما يبدأ الناس في الخلط بين ما هو ديني وما هو غير ديني، هنا يكمن التراجع.
ألا تظنّ أن قلّة الاهتمام الدولي في تسوية قضية الشرق الأوسط تسوية عادلة تزيد في الشعور بالكبت لدى العرب وعلى وجه الخصوص لدى الفلسطينيين فنلاحظ سياسة المكيالين من الجانب الأميركي في الوقت الراهن؟
- إن ما يجري في الأراضي المحتلة شيء مرعب ومخيف، لذا تعدّ منطقة الشرق الأوسط، في رأيي، من أخطر المناطق في العالم، والصراع القائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين هو بمثابة سرطان خطير يهدّد بالانتشار والتوسّع في جسم العالم. ويوماً بعد يوم تزداد حدّته بسبب تزايد تدخّلات الجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية وتزايد الهجمات الانتحارية الفلسطينية ممّا يزيد في اتساع دائرة العنف الدموي. كلّنا يعرف ما ينبغي عمله لكن لا أحد يحرّك ساكناً. وعلى رغم أن هناك حلولاً وقوانين دولية ينبغي تطبيقها تظلّ الأمم المتحدة عاجزة عن تطبيق قراراتها وتظلّ المجموعة الأوروبية، في موقفها، في موقع الخجول. أما الولايات المتحدة الأميركية فترفض القيام بهذا الدور. واليوم، وبعد نداء جنيف، يظل الحلّ الوحيد هو العودة إلى حدود 1967 وتقاسم القدس. إذاً، نحن نعرف هذه الحلول التي لا بدّ من أن تُفرض فرضاً عبر المطالبة بقوّة أممية دولية فاصلة بين الجهتين المتصارعتين، وهو اليوم الحلّ الوحيد. ونعرف أيضاً أنّ القوى العظمى في العالم اليوم ترفض التوجّه نحو هذا الاتجاه لأسباب ندركها جميعاً. وحيال هذه السياسة، حيال هذه اللامبالاة، نرى ونشهد ماذا يحلّ بالفلسطينيين في أراضيهم المحتلة.
ما العمل في هذه الحال؟
- لا بدّ من المقاومة الفكرية لكلّ أنواع التهديد، لأننا بدأنا نشهد حالة من الجنون الجماعي المولّد للكراهية والانتحار. ومن الواجب علينا دعم التيار السلمي ومساندته بكل الوسائل.
بالانتقال إلى موضوع آخر يعنيك أيضاً، يعرف الإسلام منذ مدة حملة معادية في الغرب، فهل ستؤدي هذه الوضعية، إذا استمرت، إلى تصادم ثقافي وحضاري؟
- الحملة الشرسة ضدّ الإسلام هي ظاهرة تنطلق من نظرة مبسّطة وعقيدة مانوية، ونحن نعرف تاريخياً أن الإسلام ديانة أكثر تسامحاً من الديانات الأخرى مقارنة بالمسيحية مثلاً، وهذا ما قدّمه الإسلام أثناء وجوده في الأندلس وخلال حكم الإمبراطورية العثمانية. لكن ونتيجة لانعدام الوعي التاريخي، فإنّ غالبية الناس لا تدرك هذه الحقيقة. لذا لا بد من تنوير المجتمع وتثقيف الناس وجعلهم يعرفون أنّ الإسلام ليس دين تطرّف وتعصّب ولا دين إرهاب كما يحاول البعض إلصاقه به. نحن في مرحلة يسود فيها الجهل والتردّي، ولقد أصبحت الكراهية والجنون الجماعي خبزنا اليومي.
في مقال لك نشرته جريدة "لوموند" قلت "إن قضية الحجاب ضُخّمت في شكل يمكن تشبيهه باستعمال مطرقة آلية ضخمة لكسر بيضة"، كيف تنظر إلى قضيّة الحجاب في فرنسا وإلى مضاعفاتها؟
- نعرف أن القانون الجديد حول الحجاب في فرنسا تمّ ربطه بالعلمانية، وقام على أساس من سوء فهم لمفهوم العلمانية أصلاً. ونحن نعرف كيف فُرضت العلمانيّة على الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا في بداية القرن العشرين بعد أن كانت الكنيسة قيّمة على قطاع التربية والتعليم. وكانت وقتها رجعيّة، مساندة للملكية ومضادة لقيم الجمهورية. في وقت لاحق، انتُزع التعليم من سلطة الكنيسة، ومع مرور الوقت، تطوّرت العلمانية، كما تطوّرت الكنيسة هي أيضاً فأصبحت أكثر تحرراً ولم تعد تشكّل الخطر الذي كانت تشكّله في السابق. قراءة الإسلام في فرنسا بدت، مع قضيّة الحجاب، بسيطة وسطحيّة وكانت تستحقّ المزيد من العمق وهذا ما لم يحدث للأسف. فالإسلام، وهو أقليّة في فرنسا، لا يشكّل أي تهديد هنا. والبنات المحجبات، ولا يمثّلن بحسب الإحصاءات إلاّ نسبة ضئيلة جداً، يرتدين الحجاب كخيار، وهناك أخريات يرتدينه لإرضاء الأبوين، وبينهنّ فئة أخيرة تحتمي به من العنف الذكوري. لذا أعتبر هذا القانون بحقّ الحجاب إجراء سخيفاً وغير عقلاني، وبدل أن يشجع الفتيات على البقاء في المحيط العلماني والعلمي، فإنّه بعكس ذلك، يعمل على تهميشهنّ وإقصائهنّ. إنّ الحماقة موجودة أيضاً في السياسة وستكون عواقبها على المجتمع خطيرة. لا وجود لنظرة مستقبلية لدى سياسيينا الذين، باسم إنقاذ الوحدة الفرنسية، قدّموا هذا القانون المضحك الذي سيزيد من التصادم الديني بدلاً من التخفيف من حدّته. ويأتي ذلك في وقت بدأت فيه الخصوصيّة الثقافيّة للمهاجرين من أصول عربيّة وإسلاميّة تشقّ طريقها داخل المجتمع الفرنسي، فليؤخذ ذلك في الاعتبار كما أُخذ في الاعتبار الخصوصيّات الثقافيّة لبعض المجموعات والمناطق من البروتاني وكورسيكا والباسك، وفي هذا التنوّع الذي يتمّ داخل الوحدة، ثراء لفرنسا.
نبذَة
ولد إدغار موران في الثامن من تمّوز يوليو عام 1921 في باريس، وهو يتحدّر من عائلة يهودية كانت تعيش في الأندلس لكنّها اضطرت، بعد الطرد، إلى الهجرة إلى تركيا العثمانية آنذاك. وهو، انطلاقاً من هذا التاريخ المشترك، يقف اليوم إلى جانب دخول تركيا إلى السوق الأوروبية.
عمل موران في مهن كثيرة قبل أن يلتحق بالمركز الوطني للأبحاث العلمية CNRS. اهتمّ موران بموضوع الصورة وبما تنقله الشاشة فكتب عن ثقافة الجماهير. وهو يعتبر أنّ وتيرة حياته الداخلية لا يجدها إلا في الأماكن البعيدة عن باريس: في توسكانا ومكسيكو وبعض مناطق البحر المتوسط.
أمّا هاجس موران الأوّل والأساسي فيظلّ متصلاً بالحياة الإنسانية ومصيرها، حاضراً ومستقبلاً. ومن مؤلّفشاته: "الإنسان والموت" عام 1948، و"في صميم الموضوع" 1963، "الأنموذج الضائع" 1972، "مدخل إلى سياسة الإنسان" 1965، "الأرض - الأم" 1993، "العلوم والوعي" 1998، "المعارف السبع الضرورية للتربية في المستقبل" 2000، "أن نفكّر في أوروبا" 1997، "الكوكب هذه المغامرة المجهولة" 1997 ، و"حبّ، شعر وحكمة" 1997.
إثر مقال نشره في صحيفة "لوموند" الفرنسية، العام الماضي، اتّهمت جمعيات يهودية متطرّفة موران بالعنصرية وبتمجيد الإرهاب ومعاداة السامية، وقاده ذلك أمام المحكمة التي برّأته أخيراً وحكمت على هذه الجمعيات بدفع تعويض له وللصحيفة التي نشرت مقاله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.