يعني القيام بتشكيل حكومة انتقالية في بغداد وتعيين رئيس موقت للعراق تحت اشراف الأممالمتحدة وبمشاركتها، فشل المشروع الأميركي الذي حاول الانفراد بحكم العراق، واعادة بناء هياكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومؤسساته العسكرية والأمنية بالشكل والكيفية التي تخدم المآرب الاميركية وتدعم الاستراتيجية التي تسعى الى فرض الهيمنة الاميركية على العالم. ويأتي الاتفاق على منح حكومة السيد اياد علاوي سيادة كاملة على العراق كغطاء جيد لتسهيل عملية انسحاب قوات الاحتلال الاجنبية من العراق مع الحفاظ على بعض ماء الوجه في كل من واشنطن ولندن. تطرح هذه التطورات أسئلة عدة مهمة: من المسؤول عن الفشل الأميركي في العراق؟ وهل يعني هذا الفشل نصراً عراقياً؟ من المستفيد الرئيسي من هذا الفشل؟ ما هي مسؤوليات الشعب العراقي وقواه السياسية والشعبية في وجه التطورات الأخيرة؟ وكيف تمكن الاستفادة من الواقع الجديد الذي خلقته تلك التطورات وبناء عراق جديد يشارك الجميع في بنائه ويكون ملكاً لهم جميعاً. جاء الفشل الاميركي في العراق نتيجة لفعل ثلاثة عوامل رئيسية: 1- الجهل وسوء التخطيط في واشنطن، والتخبط الإداري الذي تميزت به ادارة الاحتلال في العراق. 2- اتجاه العراقيين الى رفض الاحتلال الاجنبي لبلادهم واتساع نطاق المقاومة التي اتخذت أشكالاً مختلفة واستخدمت أساليب تقليدية وغير تقليدية في تصديها لقوى الاحتلال. 3- تصاعد موجة الانتقادات الدولية لممارسات قوى الاحتلال في العراق، وتبلور رأي عام عالمي معادٍ للحرب ومعارض لاستراتيجية أميركا التي تسعى الى فرض الهيمنة الاميركية على العالم. أثبتت التقارير والاستجوابات والتحقيقات الصحافية المتعددة ان الإعداد الاميركي للحرب على العراق والتخطيط للتعامل مع الشعب العراقي بعد الاحتلال قام على معلومات خاطئة واحياناً مزيفة، وانطلق من عنجهية افترضت ان بإمكانها ان تفعل ما تشاء من دون اعتبار لرأي الآخرين أو كرامتهم أو ثقافتهم. وعلى سبيل المثال، توقع الاميركيون ان تقابلهم الجموع الشعبية العراقية بالورود وتهتف بحياتهم كمحررين، لا محتلين للعراق. كذلك افترض الاميركيون، خصوصاً نائب الرئيس ووزير الدفاع ونائبه، ان العراقيين سيقبلون باحتلال اميركي لمدة طويلة، وذلك على غرار ما حدث في المانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، اذ بعد مرور ما يقارب الستين عاماً على نهاية الحرب لا تزال القواعد الاميركية والجيوش الاميركية موجودة على أراض يابانية والمانية. وفي الواقع، اتجهت وزارة الدفاع الاميركية، حسب الخطة المعتمدة، الى إقامة 114 قاعدة عسكرية في أنحاء مختلفة من العراق كي تكون مقراً لاحتلال شبه دائم، وذلك فور الانتهاء من نشر قواتها في البلاد. وفي داخل العراق، تسببت الاجراءات الادارية وسوء تدريب الجنود وقلة عددهم بالنسبة لحجم العراق في وقوع الكثير من الجرائم، كسرقة المتاحف والفنادق والاعتداء على الغير. كما تسببت في ما بعد في ارتكاب الجرائم في السجون وخارج السجون العراقية، وفي حدوث ردود فعل مناوئة للاحتلال في كل المدن العراقية تقريباً. ومع تصاعد حدة المقاومة واتساع نطاقها، لم تحاول الادارة الاميركية اعادة النظر في خططها ومواقفها والتعامل مع العراقيين كشركاء، بل اتجهت الى تصعيد العمليات العسكرية وارتكاب جرائم جديدة، كما حدث في الفلوجة، واعتبار القوة وسيلة الاتصال والتواصل الوحيدة مع العراقيين. وفي الوقت ذاته، كانت عمليات اعادة البناء والإعمار تسير ببطء شديد، وأعداد العاطلين عن العمل تتزايد وحالات الفقر تتكاثر. من جهة اخرى، اعطى الاحتلال الاجنبي، وفور حدوثه، ميلاداً لمقاومة شعبية لا يعرف أحد حتى اليوم أهدافها أو القوى التي تقف خلفها، أو مصادر تمويلها وتسليحها. وبسبب العلاقة الديناميكية بين المقاومة والتصعيد العسكري لقوى الاحتلال وارتفاع أصوات الرأي العام العالمي، فإن المقاومة لعبت الدور الأهم في إفشال المشروع الاميركي في العراق. اذ بينما فشل التصعيد الاميركي في بغداد والفلوجة وغيرها من المدن العراقية في القضاء على المقاومة، تسبب ذلك التصعيد في زيادة السخط الشعبي ضد قوات الاحتلال من ناحية، والتعاطف مع قوى المقاومة من ناحية ثانية. وحيث ان المقاومة وردود الفعل عليها من جانب قوى الاحتلال والسخط الشعبي تساهم جميعاً في تعرية الاحتلال وكشف معاناة الجماهير وإبراز تصميم العراقيين على استعادة حريتهم، فإن الرأي العام العالمي الذي تشكل على شكل موقف معارض للحرب في العام الماضي تطور بسرعة إلى موقف معادٍ لأميركا. وهكذا تضافرت جهود العوامل الثلاثة في افشال المشروع الأميركي وتعبيد الطريق لتشكيل الحكومة العراقية الحالية، وخلق الظروف المؤاتية، عراقياً واقليمياً وعالمياً، لتسلم العراقيين مهمات إدارة بلادهم وإعادة بنائها وصوغ مستقبلها. هناك كثيرون يتمنون الفشل لحكومة اياد علاوي، لأن ذلك سيعني فشل المخطط الأميركي. لكن هؤلاء لا يدركون أن المخطط الأميركي قد فشل فعلاً، وان انهاء الاحتلال سيكون بمثابة الإعلان الرسمي عن ذلك الفشل. اذ أن فشل حكومة علاوي - في حال حدوثه - سيؤدي إلى تأخر الانسحاب الأميركي من العراق، ويعني إطالة أمد الاحتلال الأجنبي للعراق وزيادة معاناة الشعب العراقي في ظله، وقد يعني أيضاً استمرار تدهور الأوضاع الأمنية وتزايد الخلافات بين مختلف القوى السياسية في العراق. لذلك، كان على قوى المقاومة العراقية أن تدرك أن نجاحها في افشال المشروع الأميركي وارغام قوات الاحتلال الأجنبية على القبول بمبدأ الانسحاب وانهاء احتلالها للعراق سيكون معرضاً للخطر في حال فشل حكومة اياد علاوي. وفي المقابل، فإن على حكومة علاوي أن تدرك أن وصولها الى الحكم وحصولها على صلاحيات سيادية لإدارة البلاد كان أساساً نتيجة لفعل المقاومة وتضحيات رجالها في الدفاع عن حرية العراق واستقلاله وحرية شعبه. وهذا يعني أن نجاح الفريقين، المقاومة العراقية والحكومة العراقية، يحتم قبول المقاومة بالحكومة واعطاءها فرصة لاثبات وجودها ونياتها وقدراتها، وقبول الحكومة بشرعية المقاومة واحترام تضحياتها والتوجه نحو ادماج رجالاتها وأهدافها في النسيج السياسي العراقي الآخذ في التبلور. ومن أجل الاسهام في تحقيق هذا الهدف نقترح على حكومة السيد علاوي: 1- اصدار عفو عام عن كل من ارتكب في الماضي جرائم سياسية في ظل النظام السابق. 2- عقد مؤتمر وطني شعبي للمصارحة والمصالحة، يعترف من خلاله المخطئون باخطائهم ويقوم المتضررون بمسامحتهم، وذلك كي تتلاشى الشكوك، وتصفو النيات ويخرج البعض من مخابئهم، ويصبح بالإمكان التعايش في ظل أوضاع يسودها الاطمئنان إلى الآخر وإلى المستقبل. 3- إعادة المسرحين من الجيش السابق وجميع الموظفين الذين طردتهم إدارة الاحتلال إلى مراكزهم واحالة من لم يعد صالحاً أو مؤهلاً للعمل على التقاعد ومنحه الامتيازات الاجتماعية التي كان يوفرها القانون في عهد النظام السابق. 4- السماح لحزب البعث بإعادة تنظيم صفوفه كحزب سياسي ذي شرعية وأحقية في المشاركة في العملية السياسية على قدم المساواة مع غيره من أحزاب عراقية أخرى. إن قضية الأمن مهمة للغاية، لأن غياب الأمن يعيق عملية الإعمار ويعيق جهود تقوية الوحدة الوطنية. في المقابل، يساعد الإعمار على توفير سبل العيش للعاطلين عن العمل وتوفير الخدمات الاجتماعية للمواطنين الذين يعانون الفقر والحاجة، وهذا يدفع هؤلاء إلى الابتعاد عن الأعمال المخلة بالأمن والانخراط في النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي الجديد. كذلك، تعتبر الوحدة الوطنية التي تعمل من خلال إطار سياسي فضفاض يسمح بالتعددية والخلاف في الرأي في تقويض أسباب التمرد السياسي واللجوء أحياناً للعنف. وهذا يعني أن العلاقة الجدلية بين الوحدة الوطنية والأمن والإعمار تحتم التوجه، وفي آن واحد، نحو التعامل مع تلك القضايا من دون تفضيل. الاقتراحات المقدمة في النقاط الأربع تحاول التعامل مع هذه القضايا بايجابية من منطلق نسيان الماضي و"العفو عما مضى"والتطلع نحو المستقبل. وعلى رغم أن الكثيرين قد يعترضون على اقتراحيّ العفو العام ومؤتمر المصالحة والمصارحة، فإن هذا هو المدخل السليم لاستقرار العراق وتحريره وبنائه. الثقافات الشرقية، ومن بينها - مع الأسف - الثقافة العربية، تركز على السلبيات والانتقام أكثر من تركيزها على الايجابيات والعفو. لكن التركيز على سلبيات الماضي يحول دون رؤية ايجابيات المستقبل، والتوجه نحو الانتقام يستهلك القوى العقلية، وأحياناً الإمكانات المادية للبناء والإعمار. وفي الواقع، وكما أقول دوماً لطلابي، التفكير السلبي والرغبة في الانتقام تُدمر الذات قبل أن تدمر الآخر، وفي الغالب تنجح في تدمير الذات وتفشل في تدمير الآخر. * كاتب من الاردن.