في الأول من أيار مايو 1904 تلقى الصحافي الرياضي الفرنسي روبير غيرين دعوة من صديقه الارستقراطي البلجيكي افينيس كوبيه لإقامة مباراة ودية في بروكسل بين منتخبي البلدين في اللعبة الجديدة التي يمارسها الإنكليز واسمها كرة القدم. ووافق غيرين - وهو ساهم بعد شهر واحد في تأسيس الاتحاد الدولي لكرة القدم - وتم تشكيل منتخب فرنسا للمرة الأولى في تاريخه. وفي هذه الايام احتفى الاتحاد الفرنسي لكرة القدم بمرور مئة عام على تشكيل اول منتخب. واحتفت الصحافة الفرنسية الرياضية عموماً ومراكز الاحصاء تحديداً، وما اكثرها، بهذه المناسبة. خاض "الديوك" على مدى قرن 643 مباراة، أبطالها 799 لاعباً، حققوا 298 فوزاً وتعرضوا ل218 خسارة، وتعادلوا 127 مرة. والبداية التعادل مع بلجيكا 3-3، الطرف الأكثر لقاء مع الفرنسيين، اذ خاضا 70 مباراة، فاز الفرنسيون في 24 منها، وخسروا 29 مرة. واللافت ان الفوز الفرنسي الأول تحقق عام 1911، على حساب لوكسمبورغ على أرضها 4-1، كما ان حصاد الذهب لم يقطف الا في "البارك دي برانس" في باريس عام 1984 ضمن نهائي كأس أوروبا. مسيرة قرن بأفراحها وأتراحها، جلبت للفرنسيين كأس العالم عام 1998 على أرضهم أيضاً، واللقب الأوروبي مرتين 1984 و2000، وكأس القارات مرتين أيضاً 2001 و2003، فضلاً عن المركز الثالث في المونديال عامي 1958 و1986. وتؤرخ مراحل هذه المسيرة لأجيال عدة، من أبرزها مجموعة عشرينات القرن الماضي وتضم اتيان ماتلير ولوران دي لورتو وروجيه كورتوا وادمون ديلفور. غير ان الفرنسيين لم يهنأوا طويلاً بمردود اعتمادهم الاحتراف بدءاً من عام 1932، بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية والاحتلال الألماني، الى ان جاء عهد ريمون كوبا وجوست فونتان وروبير جونكيه وروجيه بياتوني. جيل أسهم في الوقوف على منصة التتويج في استوكهولم في مونديال 1958. وصادف هذا التألق مع صعود نجم التلفزيون وادخاله المباريات الى كل بيت، غير ان شهرة الرغبي وإنجازاتها طغت على اللعبة الشعبية الأولى. وراوح الوضع بين مدّ وجزر حتى سجلت العودة المونديالية من خلال هدف غونديه في مرمى يوغوسلافيا عام 1965، فتأهل الديوك الى كأس العالم في انكلترا 1966، لكنه بقي أملاً من دون غد. ولعل الاجتهاد الفرنسي ظلّ متأرجحاً، ولم يستقر مؤشر التطور التصاعدي من ناحية النتائج والأهداف الا عام 1990، حين سجل التوازن بين عدد مرات الفوز والخسارة، وانتعشت صحة الهجوم عام 1996، حين تخطى المنتخب قوقعة الشباك المهتزة، إذ باتت اهدافه اكثر من "الاصابات" التي اخترقت مرماه. وفي وقت أضحى فريق سانت اتيان في مطلع السبعينات رمز النهضة الكروية الجديدة من خلال بلوغه نهائيات كأس الأندية الأوروبية البطلة، وفق مسماها السابق وصيغتها التنافسية، فإن اللقب القاري عام 1984 أعاد الروح الى الملاعب، و"أشعلها" التتويج المونديالي ليلة الأحد 12 تموز يوليو 1998. وتبارى المئات ضمن التشكيلات الفرنسية، غير ان ميشال بلاتيني لا يزال الهداف ب41 هدفاً، وزميله مارسيل ديسايي صاحب الرقم القياسي لعدد المباريات الدولية. مهاجرون وفي طي الأعوام وسجلاتها، يرمز ريمون كوبا وبلاتيني وزيدان الى الاجيال التي أسهمت في الانجازات الخالدة، كما ان الثلاثة طبعوا حقباتهم، وأرّخوا لها، فبات التحديد خلال عهدهم وما بعده. والعبرة في هذا الاستعراض، ان الانتصارات الفرنسية جاءت وليدة تضافر جهود نخبة من لاعبي أولاد المهاجرين وسكان المستعمرات المترامية، هذه المجموعات التي "يعتز" الفرنسيون بحضورها الفاعل "لأن ابناءها رسخوا المفهوم الحديث للوطن والمواطنية...". الرموز الثلاثة التي اتفق النقاد والجمهور على اختيارها من أصول وجذور مختلفة، اذ يتحدر كوبا من عائلة كوبازوفسكي البولندية، وبلاتيني من ايطاليا، وزيدان من الجزائر. ومنذ أيام استعادت إحدى قنوات التلفزة الفرنسية افلاماً وثائقية لأداء النجوم، وركّزت احدى الحلقات مطوّلاً على حرفنة بلاتيني، لاعب الوسط المتقدم الذي يمتاز بسعة الرؤية والتسديدات الخادعة النافذة للضربات الحرة المباشرة. ويتفوق "زيزو" برد الفعل غير المتوقع، ما يوقع المدافعين بالإرباك الدائم، في حين عرف كوبا بأنه النجم الوحيد الذي كان يقارع بفنياته افراد المنتخب البرازيلي الذي حصد كأس العالم 1958. ويسجل انه مثال الرياضي المتكامل، وحمل لواء تشكيلة ما بعد الحرب العالمية التي أسقطت المانيا الغربية 3-1 عام 1952. ظهر بلاتيني كقبس من نور في نهاية نفق مظلم تخبطت كرة القدم الفرنسية داخله، وأضحى لاحقاً أول كابتن يحمل كأس التتويج بطولة أوروبا 1984. وهو فرض نفسه إثر تألقه في مباراة أمام تشيكوسلوفاكيا وتسجيله هدفين 2-2 عام 1976. فبدأ مسيرته الدولية المظفرة التي استمرت عقداً كاملاً. وينسج "زيزو" على منواله، وهو لعب الدور الحاسم في المباراة أمام تشيخيا عام 1994 2-2، فكان عند حسن ظن المدرب ايميه جاكيه الذي أشركه بديلاً لاريك كانتونا. واللافت ان الفرسان الثلاثة تألقوا أيضاً مع فرقهم في الخارج، اذ حصد كوبا مع ريال مدريد الاسباني كأس الأندية الأوروبية ثلاثة مواسم متتالية، واستحق جائزة "الكرة الذهبية". واحتفظ بتميز غير مسبوق كونه ظل على مدى اكثر من عقدين الفرنسي الوحيد المتوج قارياً... وحتى "ظهور" بلاتيني مع يوفنتوس الايطالي، و"سيادة" زيزو مع ريال مدريد، وكلاهما دخل نادي "الأبطال" و"الكرة الذهبية". والملاحظة المفيدة في هذا السياق، ان اللقب الأوروبي الأول فتّح العيون على اللاعبين الفرنسيين، وعزز حظوظ مدارس تخريج المواهب ودورها، فبات اللاعبون ثروات متحركة ومنتشرة في كل مكان ولا سيما في انكلترا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، الدول التي طالما تغنت بتفوقها وأفضليتها قياساً بالتجربة الفرنسية "المتواضعة".