Scott Lucas. The Betrayal of Dissent. خديعة المعارضة. Pluto Press, London. 2004. 324 pages. قد تكون المعارضة السياسية من الأهمية ما يكفي لأن توهم أصحابها بأنهم على حق دوماً. وحقيقة أن التصدي لأصحاب السلطة الحاكمة، والنفوذ عموماً، تقع في كثير من الأحيان على عاتق المعارض السياسي، خاصة حينما يكون هذا معارضاً منشقاً، ما قد يشجعه على الظن بأنه صاحب سلطة مساوية لسلطة الحاكم وصاحب النفوذ، وما يجعل معارضته لمن لا يتفقون معه، سواء من الحكومة أو حتى من المعارضة نفسها، ليس محض نقد لموقف سياسي ورد عليه، وإنما بمثابة حكم إتهامي لدوافعهم، بل وشخوصهم. هذه هي الوصمة التي وصمت المواقف المعاِرضة لسولجنتسين وتشومسكي وغور فيدال وادوارد سعيد وجون بلجر وهارولد بنتر، وغيرهم، وعلى تفاوت دوافعهم وتباين أهدافهم، وبما أودى، أو كاد يودي، بأهمية مواقفهم . وكتاب سكوت لوكاس هذا يكرر صيغة النقد الاتهامي لهولاء، وإن في صيغة سجل يعرض للحقائق عرضاً تفصيلياً يشي بيقين المؤلف الثابت بصحة موقفه وموقف أصحابه. فيعيد الكاتب على مسامعنا ما جرى منذ اعتداء 11/9 والحرب في أفغانستان والعراق، وما انجلى عن ذلك من معارضة جماهيرية كونية ضد سياسة الولاياتالمتحدة وحلفائها. ويكاد الكاتب أن يقدم مرافعة متماسكة لصالح معارضي الحرب غير أنه لا يكتفي بالرد على دعاة الحرب من أصحاب السياسة الرسمية ومؤيديهم من المحافظين الجدد وقارعي طبول الحرب، وإنما يصبّ جهده الأعظم على النيل ممن حُسبوا دوماً، أو حتى اعتداء 11/9، على المعارضة واليسار عموماً، ومن أمسوا "خصومه الفعليين". وهذا ما يحوّل الكتاب الى تمرين في الاتهام السياسي الذي برعت فيه السلطة الستالينية وأشباهها من سلطات الأحزاب الشمولية، وهو أيضاً ما أجاده المعارضون المنشقون ممن ذكرنا من قبل. ولا غرابة كبيرة في الأمر طالما أن بعض هؤلاء، مثل تشومسكي وطارق علي وجون بلجر، من رفاق المؤلف في حركة المعارضة اليوم، وهو بهم يتيمّن ويستقوي في اتهام المخالفين لرأيه، خاصة من اليساريين والليبراليين ممن يتهم بخديعة المعارضة. وليس مسألة تأييد هؤلاء المثقفين "المرتدين" الحرب هو ما يثير حنق المؤلف، وما ينعته بالخديعة، وإنما اتفاقهم مع حكومات بلدانهم، حتى في خصوص أمر بالغ الخطورة شأن التصدي لخطر الارهاب. إنه لهذا السبب يعود الى جورج أورويل بإعتباره مثالاً وذريعة لدى المثقفين الذين خدعوا المعارضة، أو ارتدوا عنها. وعلى ما يرى لوكاس فإن أورويل انتحل لنفسه شخصية الكاتب الذي لا صاحب نهائياً له سوى الحقيقة، ما أجاز له أن يقف معارضاً قاسياً لليسار، أي للصف الذي نسب نفسه إليه دائماً، بقدر مناهضته لليمين والمؤسسة الحاكمة. وإنه لمن خلال التخلص من هذه الهوية المُنتحَلة يمكننا أن نرى لا كاتباً مستقيماً وصدوقاً يعارض الجميع في سبيل الحرية، وإنما صوتاً منحازاً للمؤسسة الحاكمة، أو على الأقل، وما هو أدهى، متمثلاً على وجه غير واعٍ لمقومات المؤسسة المحافظة الحاكمة. ومن ثم فإن انحيازه المعلن، أو حتى المصطنع، لليسار أتاح له لعب دور الشرطي ضد هذا اليسار بالذات. ونقده لما كان يبدر عن المثقفين اليساريين لهو الأداء المعارض الوحيد الذي أجاد القيام به بقسط من النجاح لا يُنكر. ويعرض المؤلف جملة التناقضات التي وسمت حياة ومواقف أورويل،على وجه يسوّغ له الخلوص بأن حكاية أورويل المعارض المطلق لهي من قبيل الخرافة التي أخذ بها كل من شاء تيرير تراجعه وارتداده في ما بعد. فالرجل، على ما يذكّرنا المؤلف، استقال من سلك الشرطة المَلكية في بورما احتجاجاً على السياسة الامبريالية، غير أنه نادراً ما أظهر تأييداً، أو حتى احتراماً، للنضال الوطني لأهالي المستعمرات وضحايا السياسة الامبريالية. وهو لئن أيد الحرب ضد ألمانيا النازية، فهذا التأييد كان مساوقاً لنزعة العداء العسكرية التي أظهرتها الحكومة البريطانية ازاء المطامع الألمانية. وكان الكاتب الانكليزي هاجم، قبل أعوام قليلة على ذلك، دعاة الحرب، وبما يتوافق مع سياسة الحكومة البريطانية التي سعت الى عقد اتفاقية مع الرايخ الثالث تجنباً لمواجهة عسكرية كان لا مهرب منها أصلاً. أما عداؤه للشيوعية السوفياتية فكان ساماً بما يكفي لكي يزوّد لا أعداء الاتحاد السوفياتي فقط، وإنما الاشتراكية واليسار، بفائض من الذخيرة التي ستُستخدم طوال عقود الحرب الباردة. وإلى هذه الاتهامات المألوفة يضيف المؤلف ما قد كُشف النقاب عنه مؤخراً من أمر وشاية أورويل بعدد من الكتّاب والمثقفين اليساريين لجهاز الاستخبارات العسكرية. وكان الكاتب الانكليزي قد أمد ّ "إدارة البحث المعلوماتي" التي أنشأتها الحكومة بالتعاون مع الأجهزة الأمنية في سبيل نشر دعاية مضادة للشيوعية، بلائحة أسماء كتّاب هي اللائحة التي ما انفكت موضوع أخذ وردّ. ولا شك بأن المواقف المعارضة، والجدالية، لأورويل، فضلاً عن حكاية تلك اللائحة، تثير التساؤل حوله، خاصة في ضوء ما أسبغ عليه من آيات العفة. غير أنها تثير التساؤل أيضاً حول طبيعة المعارضة، وإمكانية ولائها للحقيقة في مواجهة متطلبات إخلاصها للمؤسسة المعارضة، أو غير ذلك من الأسئلة الضرورية والوجيهة. لكن المؤلف، المقلد لتشومسكي وغيره ممن ذكرنا، يُظهر حرصاً أشد على إدانة أورويل طالما أنه يُسلم مسبقاً بأن دور المعارضة هو اتخاذ الموقف المعاكس للحكومة أو النظام السياسي. فلا توافق مع الحكومة، مهما كان عرضياً، من دون شبهة ارتداد وخيانة. ويقرّ الكاتب بأن أورويل ينتمي الى الماضي، وأن النقاش حول المعارضة الحاضرة ينبغي أن ينحصر في ما هو معروف ومشهود. بيد أنه، على ما يستدرك مبرراً، اضطر إلى أن يعيد النظر بالكاتب المتوفى قبل ما يزيد على نصف قرن من الزمن لكي يفوّت على "المرتدين" فرصة استخدامه. فالعديد من الكتّاب الصحافيين الأميركيين والبريطانيين ممن أيدوا الحرب في أفغانستان والعراق، وخاصة في ما يعني المؤلف، ذلك الكاتب التروتسكي الجدالي كريستوفر هتشنز، المعروف عند قراء العربية بكتابه "محاكمة هنري كيسنجر"، إنما التمسوا في سيرة ومواقف أورويل مثالاً يبرر انقلابهم على المعارضة واليسار اللذين انتموا إليهما طويلاً. وحيث أن أورويل ما انفك، في عيون هتشنز ونظرائه، مثال الانحياز الى الحقيقة عوضاً عن الاخلاص الى الحزب والقبيلة، وأن الوضوح التعبيري الذي اشتهر به انما كان تعبيراً لا عن إيمانه بأولوية الحس المشترك في تبيّن الحقائق وتعريفها، وإنما الإستقامة الأخلاقية أيضاً، فإن إتباع هتشنز سبيل أورويل، أي انقلابه على اليسار، بل على أصدقائه السابقين، شأن الكسندر كوكبرن وتشومسكي وإدوارد سعيد وطارق علي، يبرره انقلاب أورويل على رفاق دربه من قبل، وعلى صورة لا تنتقص من قيمة موقفه السياسي ووضوحه التعبيري. ولا يحتاج قارىء هذا الكتاب وقد ازدحمت صفحاته بالقيل والقال أن يدرك بأن غضب المؤلف لا يصدر عن تأييد رفيقه السابق للحرب، وإنما تهجمه على معارضيها. فلم يكتف هتشنز بهجر رفاق دربه في منتصف الطريق، وإنما مضى الى حد التهجّم القاسي عليهم، مستخدماً اتهامات اليمين والمحافظين الجدد ومكرراً نعوتهم أيضاً. بكلمات أخرى، فإن هتشنز سلك السبيل نفسه الذي سلكه العديد من المثقفين المعارضين، والذين استولى عليهم إحساس طاغٍ بالأهمية الذاتية شجعهم على الظن بأنهم وحدهم على حق. والمشكلة أن المؤلف في هذا الكتاب يسلك السبيل نفسه. فحيث أنه يصوغ كتابه على شكل تمرين اتهامي يطعن بشرعية كل من لا يتفق معه وينتقص من موقفه، فإن كلام هتشنز وغيره من المرتدين على المعارضة واليسار لا يعود مفرط التجني طالما أن هذه هي اللغة التي يستخدمها الطرفان سواء بسواء.و الأدهى من ذلك أن الحرب، بل السياسة التي يعارضها المؤلف ويؤيدها خصمه، تتراجع، إن لم نقل تختفي، أمام الأهمية المزعومة لكلا المعارض والمؤيد. ونحن نحس في النهاية وكأننا نقرأ كتاباً ليس حول مسألة معارضة الحرب، أو تأييدها، وانما حول منافسة خاصة ما بين فريقين أو حتى شخصيتين، وبما يجعلنا نشك بأننا قد استُدرجنا الى نقاش لا يعنينا. ولكن أليس هذا ما يحدث للقضايا التي يتبناها المثقف المعارض الذي يبلغ به إحساسه بأهميته الذاتية حدّ أن يتحوّل عبئاً على هذه القضايا نفسها؟