أفظع مِمّا يجري في العراق من مآسٍ، بعد مرور عام على"سقوط بغداد"، هذا الصمت المريب الذي يخيم على المنطقة وعلى العالم. وما يستعصي على الفهم هو أن هذا الشعب العراقي، الذي يواجه هذه الأيام حمم الموت تنهال على رؤوس أبنائه في مدنه"المحررة"، هو الشعب نفسه الذي شُنّت الحرب من اجل تحريره، ومن اجل نشر الحرية والديموقراطية والأمن والرخاء والكرامة في ربوع بلاده. وهو نفس الشعب الذي عانى على مدى ثلاثة عقود تحت نير حكم دكتاتوري قمعي دموي. وهو الشعب نفسه الذي أخضعته منظّمةِ الأممالمتحدة، والدول العظمى المتنفذة فيها، لنظام عقوبات صارم، إن كان استهدف في الأساس نظام الحكم المسؤول عن غضب المنظمة الدّوليّة، فقد انتهى بمعاقبة الشعب البريء الذي وجد نفسه بيْن مطرقة النظام الجائر في بلده ونظام العقوبات الدولي الأشد قسوة. وهو نفس الشعب الذي خرج من الدكتاتورية ليدخل قبضة الاحتلال الذي أخذ يمارس نفس أساليب القمع والقتل للمدنيين الأبرياء والعقوبات الجماعية التي تحرمها القوانين الدّوليّة والتي شملت دور العبادة والمستشفيات والمدارس باستخدام آلات الحرب واحدث الطائرات والقنابل العنقودية المحرمة دولياً. إذا كان الذين يقاومون الاحتلال ويربكون مخططاته هم فعلاً ثلة من المجرمين والقتلة، وبقايا النظام البائد، وأعوانه كما نسمع، وهم من الإرهابيين المتسللين إلى ساحة جديدة أفسحتها الحرب لهم، وإذا كانوا من تنظيم القاعدة أو غيرها من أرباب العنف والقتل، فلماذا تلقى القنابل وحمم الموت على الكوفة ومنازل الأبرياء في الفلوجة والرمادي وبعقوبة والكوت والنجف والناصرية؟ ولماذا العقوبة الجماعية للشعب بأكمله؟ ولماذا يكون وقود هذه الحرب من الأبرياء العزل من الأطفال والنساء والشيوخ الذين آن لهم أن ينعموا بشيء من الأمن والسلم بعد عقود من المعاناة والعذاب والقهر والموت. ولماذا؟ وإني أتساءل، من هي الجهة المسؤولة عن ضبط الحدود ومنع التسلل إذا كان هؤلاء الذي يقاومون الاحتلال هم أغراب لا يمثلون الشعب العراقي ولا مشاعره الوطنية المعروفة وتوقه للحرية والكرامة والاستقلال، وهل يعني ذلك أن الاحتلال الذي صوّر كأحد أهم العوامل في شن الحرب ضد الإرهاب الدولي قد جعل من العراق في الواقع ساحة للإرهاب الدولي وهو ما لم يكن قبل الاحتلال. من ناحية أخرى، المعضلة التي يواجهها العراق هي ذلك الاعتقاد بأنّ الرحيل المبكر للاحتلال قد يخلف الفوضى، وبقاء الاحتلال هو الذي يخلق الفوضى. المعادلة في غاية البساطة: الاحتلال يولد المقاومة والمقاومة تستفز عنف المحتل والعنف يولد المزيد من الغضب والألم وبالتالي المزيد من المقاومة. فهي دوامة متصاعدة ولا يمكن كبحها أو كسرها إلاّ باستئصال مسبباتها الرئيسية. أما آن الأوان أن ننصت ونسمع لرأي الشعب العراقي، لنعرف حاجاتهم وماذا يريدون وما هي مخاوفهم وما هي تطلّعاتهم؟ أليس هذا هو بداية الطريق نحو إنصاف هذا الشعب الرّازخ تحت ابشع أنواع الظلم منذ بضعة عقود. لم نترك قولاً باسم هذا الشعب إلاّ قلناه. قيل أن الانتخابات"المبكرة"ستجرّ إلى حرب أهلية كما حدث في لبنان أو في الجزائر. نتساءل لماذا؟ لا الحرب الأهليّة في لبنان، ولا ما جرى في الجزائر كان بسبب الانتخابات المبكرة أو التي جرت في وقتها المناسب. في الحقيقة أن الذي جرى في الجزائر كان بسبب إجهاض الديموقراطية قبل استكمال ممارستها بسبب الرفض المسبق لنتائجها المتوقعة. والحقيقة أن التخوف من الانتخابات المطلوبة للعراق يعود لنفس السبب: الرفض المسبق لنتائجها المتوقعة. وهذا هو الذي يمهد الأرض للعنف. صحيح أن الشعب العراقي لم يمارس أي شكل من أشكال الديموقراطية منذ عام 1958، ولكنه يتوجب علينا أن ندرك أننا لا نتحدث عن شعب حديث الاستقلال كما أننا لا نعيش مرحلة وضع الشعوب المرشحة للاستقلال تحت وصاية أو انتداب أو تأهيل الدول المتقدمة كما حدث في مطلع القرن الماضي. فالشعب العراقي هو استمرار لأعرق الحضارات. وفي بلده توجد اقدم دور العلم والجامعات ولديه مورست الديموقراطية ونشأت المؤسسات وعرف الشعب كيف يحافظ على كرامته الوطنية وتوقه للتحرر في أقصى الظروف وأحلكها. لا يمكن أن يذبح هذا الشعب باسم تحريره ولا أن يفرض عليه المزيد من القهر والقمع باسم إنقاذه من القمع ولا أن يتم اختيار حكامه وممثليه باسم عجزه عن ممارسة اقدس وابسط حقوقه في اختيار ممثليه وحكامه. لنترك للشعب العراقي حرية القول والعمل والنماء. ولنتوقف عن انتهاك ابسط حقوقه ليس فقط بسد كل السبل في وجه حقه في ممارسة حريته الكاملة بل وبالتقول عليه وبتشويه فكره وأصالة محتواه. الذين قسموا العراق إلى شيع وطوائف وراهنوا على الاقتتال والحرب الأهليّة صعقوا عندما رأوا أن وحدة العراق الوطنية تتكرّس وتتأكد كلما اشتدت الظروف قسوة وكلما تراكمت محاولات التجزئة وبث الفرقة والتفرقة. آن الأوان أن تتقدّم الأممالمتحدة، لا لتمهيد الطريق لتنفيذ ما هو مخطط ومرسوم، وما أثبتت التجربة الماثلة بشدة أمامنا أنه أيضاً مغرض ومضر ليس للعراق فقط بل وللمنطقة بأسرها، بل لتتحمل مسؤولياتها في انقاذ الشعب العراقي وما يواجهه، وكبح التدهور الذي يهدّد أمن وسلام المنطقة بأسرها. آن الأوان أن تتقدم الأممالمتحدة ببرنامج شامل لاجراء انتخابات عامة ولانتخاب هيئة تشريعية وحكومة وطنية تتولى زمام الحكم في أسرع وقت ممكن في العراق. ولا يجوز أن تصبح حجة الأمن ذريعة لتكريس الاحتلال. فعلى الأممالمتحدة إن كانت هنالك حاجة لقوّات مؤقتة لحفظ الأمن ريثما يتمكن العراق من بناء قوته، أن تؤمن ذلك. إنني انبه من أن خطر استمرار الصمت على ما يجري في العراق، سيكون أشد وطأً على أمن منطقتنا وجميع دولها بدون استثناء من خطر الصمت على ما جرى ويجري في فلسطين. وهل هو من قبيل الصدفة أن الذي يجري في العراق هو تكرارٌ لما يجري في فلسطين حيث القوة والقوة المفرطة هي أداة الحكم البديلة عن كل المبادئ التي طورتها الإنسانية وصاغتها الإرادة الدّوليّة على مدى السنين. للذين يطالبون بالأمن لانفسهم أقول أن الأمن مطلوب للجميع. وللذين يعملون على تحقيق الأمن بتكريس الظلم وفرضه بهيمنة القوة أقول إن طريق الأمن وطريق السّلامُ الذي ننشده جميعاً لكل شعوب المنطقة ولكل دولها هو الاعتراف بقوة العدالة وبجدوى الحوار بنوايا حسنة وبسيادة القانون وبالمساواة في تطبيقه. لا بد من تحديد مواقع الخلل ولا بد من الاعتراف بطبيعة الخلل قبل أن نطمح في جدوى العلاج. ولا مفر من مواجهة الخطر الزاحف في فلسطينوالعراق لكبح الخطر الزاحف علينا جميعاً. أشعر بشيء من الأمل أن غياب الدور الدولي الرسمي في أحلك الظروف، يغطي ولو جزئياً بمبادرة قام بها ناشطون من اجل السّلام وقادة دينيون ومثقفون وأكاديميون وكُتاب وصحافيون وأعضاء برلمانيون وأعضاء نقابات ومواطنون لدعم الدعوة لانتخابات حرة لجميع العراقيين، على أن تكون حرّة من قوات الاحتلال. وتدعم المبادرة دعوة اجتماع جاكرتا للسلام، التي تم التأكيد عليها في المنتدى الاجتماعيّ الأوروبي الذي عقد في باريس عام 2003 وفي التجمع المضاد للحرب في المنتدى الاجتماعيّ العالَميّ الذي عقد في مومباي عام 2004، من اجل عقد مجلس مستعجل ومستقل للعراقيين حيث تتمكن كافة قطاعات المجتمع العراقي من مناقشة واقتراح شكل مستقبل دولتهم بحرية وبعيدة تماما عن تدخل قوات الاحتلال. وهذا يمكن أن يكون بداية لبناء العراق الجديد، وخطوة حيوية أولى باتجاه انتخابات حرة ومن اجل الديموقراطية والاستقلال. كما ويجب عقد هذا المؤتمر داخل العراق، ولكن رغم ذلك فإن تم تحريم هذه الفرصة من قبل قوات الاحتلال، فإن مؤتمراً تحضيريا يجب عقده خارج العراق. وكانت دعوتهم المطالبة بإنهاء الاحتلال ودعم الشعب العراقي من اجل الاستقلال وحق تقرير المصير. * رئيس منتدى الفكر العربي وراعيه، رئيس نادي روما.