كنت صغيراً، في آخر المرحلة الثانوية، حين وضع صديقي في يدي الجزء الثاني من خماسية "مدن الملح"، المعنون ب"الأخدود"، وكان يتلفت حذراً وكأنما يغرس في كفي قنبلة! بعد ليال ثلاث كنت أطير في فضاءات "موران" و"حرّان" لاهثاً خلف الأسماء الحميمة، وهي المرة الأولى التي أصافح عالماً قريباً، في متناول اليد، عالماً بمكان أليف ودافئ. منذ ذاك الوقت صرت أتتبع خطوات الروائي الكبير عبدالرحمن منيف، أتصيّده في معارض الكتب العربية، آخذ نسختين من أعماله، نسخة لي، ونسخة للأصدقاء. تعرّفت الى مرزوق في اغتيال الأشجار، وأحببت أنسنة الكائنات والأشياء فيها، وكان ذلك غريباً ولافتاً آنذاك. كنت أشعر لحظة القراءة أنني أنزلق مع أبطاله في قارعة الطريق، لا أراهم وهم يعبرون ويتألمون ويتجادلون، بل انني أشاكسهم وأختلف معهم، وأدفع بعضهم في صدره، لكنهم لا ينفعلون ولا يبتسمون، بل لا يشعرون بي. لم أعرف وجهه، كنت أتخيله وجها قروياً أليفاً كوجه أبي، لكنني رأيته في صورة بالأبيض والأسود، في حوار معه نشرته إحدى المجلات، كانت الصورة تحتل ثلث صفحة، وكان يلبس معطفاً صوفياً ضافياً، ويمشي في شوارع إحدى العواصم الأوروبية، ربما باريس أو لندن، إذ كانت الصورة تحمل رائحة شتاء، وسماء داكنة وخفيضة. لم أتوقع أن يكون هذا وجه أبي القروي، الذي حكى لي عن الصحراء وقراها، لكنني عزّيت نفسي: - إنه أبي القروي الذي تاه في شوارع باريس! عرفت آنذاك بعض رؤيته، إذ كان يتحدث عن مدن النفط، تلك المدن الطارئة والعابرة أيضاً كما يرى. ها قد تاه ثانية من يدي، ورحل عن المكان بأكمله، وقد عثرتُ عليه ذات مساء في صحيفة، بعد أن ورّطني في عوالم أكبر من مقاسي آنذاك، عوالم أعرفها جيداً، لكنني لم أرها هكذا، قريبة في بعد، وبعيدة في قرب. لا شيء أملكه أمام رحيل منيف، أكثر من أن أركض مثل جلجامش بحثاً عن نبتة الخلود، تلك النبتة الكلمة، منه أرث حقل كلمات تبدو عن مسافة ذراع، لكنها تشبه الطيور الملونة التي يركض خلفها طفل مولع وضال. هل ستعود أنكيدو؟ أم أنني سأصرف ما تبقى من زمني بحثاً عما لم تجده، وما لن أجده أبداً؟ * روائي سعودي.