الاستخدام المستدام لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي: الطموح والتحديات    دغدغة المشاعر بين النخوة والإنسانية والتمرد    رفض واسع يطوق قرار نتنياهو ويفشل رهاناته في القرن الإفريقي    أمطار متجمدة تغرق مخيمات غزة وتفاقم معاناة النازحين    مدينة الفل تنثر الثقافة وتروي تاريخ الأجداد    أبها يتمسّك بالصدارة.. والدرعية يقفز إلى الوصافة    الاستديو التحليلي يطوّر قراءة أشواط مهرجان الملك عبدالعزيز للصقور    إيقاف شركة عمرة ووكيلها الخارجي لمخالفة التزامات السكن    أمير حائل يدشّن مشروعات تعليمية بالمنطقة بأكثر من 124 مليون ريال    أمير القصيم يدشّن مبادرة "الهاكثون البيئي" لدعم الابتكارات والأفكار البيئية الرائدة    تهيئة محيط مشروع المدينة العالمية بالدمام وتعزز انسيابية الحركة المرورية    تعليم الطائف يتجاوز المستهدفات الوطنية في برامج ومسابقات الموهوبين    فرع الشؤون الإسلامية بالقصيم ينفّذ أكثر من 2600 منشط دعوي خلال شهر    الندوة العالمية تفتتح مستوصفاً طبياً جديداً لخدمة آلاف المستفيدين في بنغلاديش    إطلاق خدمة تصوير الرنين المغناطيسي للأجنة بمستشفى الولادة والأطفال ببريدة    مستشفى الأمير سلمان بن محمد بالدلم ينقذ حياة مقيم تعرّض لإصابة خطيرة    سوق الأسهم السعودية يخسر 109 نقاط في أولى جلسات الأسبوع    بدء استقبال وثائق مقدمي خدمة إفطار الصائمين في رمضان بالحرمين    ترقية د.رانيا العطوي لمرتبة أستاذ مشارك بجامعة تبوك    ديوان المظالم يطلق أول هاكاثون قضائي دعمًا للابتكار    باكستان تدين اعتراف سلطات الاحتلال الإسرائيلي بما يسمى أرض الصومال    ماذا يقفد آباء اليوم ؟!    "التجارة" تشهر ب 60 مواطنًا ومقيمًا لارتكابهم جرائم التستر التجاري    أمانة القصيم تعزز الأجواء الشعبية بفعالية الطبخ الحي في حديقة إسكان بريدة    جمعية فنون التصميم الداخلي تنطلق برؤية وطنية وأثر مستدام    رحل إنسان التسامح .. ورجل الإصلاح ..    حقيقة انتقال روبن نيفيز إلى ريال مدريد    هدف النصر والهلال.. الخليج يفرض شروطه لرحيل مراد هوساوي    علامة HONOR تعلن الإطلاق الرسمي لهاتف HONOR MAGIC8 PRO بعد النجاح اللافت للطلبات المسبقة في السعودية    السماء أكثر زرقة وصفاء في الشتاء لهذا السبب    ختام رائع لمهرجان كؤوس الملوك والامراء 2025    اختتام الدراسة المتقدمة للشارة الخشبية في نجران بمشاركة 40 دارساً ودارسة    ناويا إينوي يحافظ على لقبه العالمي في ليلة الساموراي بمحمد عبده أرينا    الجزائر تعرب عن قلقها إزاء التطورات في المهرة وحضرموت وتدعو إلى الحوار    إصابة خالد ناري بكسور في القفص الصدري بسبب حارس النصر    اعتلى صدارة هدافي روشن.. رونالدو يقود النصر لعبور الأخدود بثلاثية    10 أيام على انطلاق كأس آسيا تحت 23 عامًا "2026 السعودية"    في كأس أمم أفريقيا بالمغرب.. الجزائر والسودان يواجهان غينيا وبوركينا فاسو    سوريا تضبط عناصر من النظام السابق.. إدانات دولية للهجوم الإرهابي على مسجد بحمص    رواية تاريخية تبرز عناية الملك عبدالعزيز بالإبل    لطيفة تنتهي من تصوير «تسلملي»    فسح وتصنيف 70 محتوى سينمائياً    53 مليار ريال حجم الامتياز التجاري    القيادة تعزي رئيس المجلس الرئاسي الليبي في وفاة رئيس الأركان العامة للجيش الليبي ومرافقيه    موجز    دعا لتغليب صوت العقل والحكمة لإنهاء التصعيد باليمن.. وزير الدفاع: لا حل ل«القضية الجنوبية» إلا بالتوافق والحوار    أفراح التكروني والهوساوي بزواج محمد    ضمن جهودها لتعزيز الرقابة الصحية.. جولات رقابية لمراكز فحص العمالة الوافدة    الداخلية: ضبط 19 ألف مخالف    مسيرات الجيش تحدّ من تحركاته.. الدعم السريع يهاجم مناطق ب«الأبيض»    عصير يمزق معدة موظف روسي    مختص: لا ينصح بأسبرين الأطفال للوقاية من الجلطات    وزير الداخلية: يطمئن على صحة رجل الأمن الجندي ريان آل أحمد    إطلاق 61 كائنًا بمحمية الملك خالد    أمير المدينة يتفقد العلا    بيش تُضيء مهرجان شتاء جازان 2026 بهويتها الزراعية ورسالتها التنموية    وزير الداخلية تابع حالته الصحية.. تفاصيل إصابة الجندي ريان آل أحمد في المسجد الحرام    تنفيذاً لتوجيهات خادم الحرمين وولي العهد.. وزير الداخلية يطلع على مبادرات الجوف التنموية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انسان الأزمنة الحديثة
نشر في الحياة يوم 11 - 02 - 2004

أعادت الأزمنة الحديثة صوغ معنى الإنسان مرتين: فهو المفرد المتمرد على المعطى، يعيد اكتشاف ذاته ويكاثر الاكتشاف، مجدداً الأزمنة ومتجدداً فيها، محوّلاً الحاضر الى لحظة عابرة تخلع ابداً جلدها بلا تردد أو إبطاء. وهو المفرد الذي وضع ضمانه في ذاته، ارتكن الى الإبداع ومقاطعة اليقين، يذهب مغامراً الى ما لا يعرف ويقصد مستقبلاً مجهولاً لا يروّضه أحد. وما الأزمنة الحديثة، في نهاية المطاف، إلا تكامل المغامرة والذهاب الى المجهول والإبداع الطليق، وذلك الرهان الجامح على هدف ملتحف بغموضه، عبّر عنه، ذات مرة، بحار "موبي ديك" بجلاء شاسع محتشد الرؤى.
وإذا كانت الأزمنة الحديثة تعرّف ذاتها بالتبدل الذي لا يصده احد، فقد التقطت الرواية، بمعنى لا تبسيط فيه، جوهر الحداثة وكثّفته في "إنسان الطريق المستقيم"، الذي يسير الى ما لا يعرف ولا يلتفت وراءه ابداً. كأن درب هذا الإنسان رهان على مراهن غريب، يقصد مجتهداً غاية جذبته ويزهد بتأمل السبل المفضية إليها. فهو المراهن بلا ضمان، اكتفى بالرغبة المندفعة وقدمين تتحملان التعب، فلا دليل إلا الطريق ولا ما يواسي إلا شعلة القلب المتقدة. لا غرابة ان تصعد الرواية في زمن تهاتف اليقين، وأن تزهر في مدن مستقيمة الشوارع، وأن تزدهر في مجتمع ودّع العلاقات الأسرية والروابطة الطائفية، مكتفياً بالمغترب المفرد، وبفرد وضع رهانه داخله وسار عارياً، إلا من ثياب المغامرة ودثار الانطلاق. غير ان عري انسان الأزمنة الحديثة مدخل الى كساء انساني حقيقي، يكون الإنسان فيه ما شاء ان يكونه، على مبعدة من وصايا معطاة وعسف متعدد الأصول، يضع الإنسان في غيره، وينصّب "الغير" سيداً مطاعاً وإرادة مباركة. ولعل مجاز العري والكساء هو الذي يفصل بين المغترب الضئيل، بالمعنى اللاهوتي، والمغترب الروائي الذي يعبُر من عتمة منيرة الى اخرى ولا ينتظر الوصول. فالمغترب الأول يتوسّل خاضعاً ما يحرره من اغترابه ويردّه الي فردوس قديم، والمغترب الثاني لا يتوسل احداً، بعد ان اذاب التوسّطات كلها وأسكنها روحاً قلقة مستقلة. إنه الطفل الغريب في العراء استولد ذاته من رغباته، وذهب وراء حقيقة عارية، لا يستطيع احد ان يجبره على التنكر لها. وفي البحث عن حقيقة لا تقبل بالمساومة، يظهر الفرق بين الإنسان العاري الذي تدثر بالحرية، والإنسان التقليدي الذي راكم الملابس والأغطية وارتضى بالعبودية.
ينوس المغترب الروائي بين العري النبيل وحرية الرهان، محتقباً في روحه آثار المغامرة وصعوبات الطريق المستقيم. ففي العري برد ينخر العظام وفي الرهان الذي لا ضمان له قلق يخز الروح وفي الطريق خوف ووحشة، وفي الهدف المراوغ ما يرهق العينين ويوهن القدمين ويمزق الأسئلة. شيء قريب من كلام "الملك لير" مع مهرجه: "أليس الإنسان اكثر من هذا؟ انت هو الشيء نفسه: إنسان غير متكيّف..."، استعار وجوده من غيره وتمرد على الأشياء المستعارة، ومضى الى تجربة يكتشف فيها ذاته، وتقترح له التجربة لباساً لا تتعرف إليه الأرواح الميتة. لهذا لا تتعامل الرواية، بالمعنى النبيل، مع انسان احادي البعد ولا مع فرد مختزل الأبعاد، بل ترى كيانه في وجوه متزاحمة يحتشد فيها الخوف والفرح واللوعة والتعب وانتظار الذي يأتي ولا يأتي. فلا انتصار ولا ما هو قريب من الانتصار، طالما ان الإنسان يراهن بوجوده كله على لباس ملتبس يتلامع في الأفق ولا يعانقه الجسد إلا قليلاً، ولا غبطة إلا ما تسمح به ثنايا الطريق التي تشير الى مآل الرغبات وتحجبها معاً. إنها المعاناة التي تضع فضيلة الطريق في صحبة الطريق الذي لا ينتهي، وترى الى فضيلة البحث في البحث ذاته، فلا شيء خارج البحث ولا شيء داخله، لأن جوهر البحث اكتشاف الإنسان لذاته، ذلك الاكتشاف التراجيدي، الذي يجعل من العري المتجدد طريقاً الى لباس يداعب الروح ويتطاير. ليس في البحث ما يوسّد الخسارة منهجاً، وليس فيها ما يزهد بالحياة. ذلك انها شوق الى المعنى الجوهري، او الى "معنى المعنى" الذي يجعل الإنسان طليقاً.
ظهرت الرواية العربية، في بداية القرن الفائت، جنساً أدبياً حداثياً، يحاول ان يرى الى العالم بتصورات حداثية. غير ان هذه الحداثة الواعدة حملت معها، بأشكال متجددة لا متكافئة، ما يؤكدها وينفيها معاً، منتهية الى حكاية تساكن رواية، احياناً، ومتهمة مدناً ما هي بالمدن، وفاضحة تصورات روائية مطمئنة الى اليقين والدروب الدائرية. يظهر مجاز العري والكساء مرة اخرى، محيلاً على روائي كثيف الكساء ورواية ثقيلة الملابس ومحيلاً، مرة اخرى، على العري النبيل في كتابات دافئة شديدة الصفاء. "الشعر هو فكر الفكر"، يقول الفيلسوف آلان بادو، في جملة واضحة وقليلة الوضوح. إذا استعرنا الجملة الملتبسة الموحية نقول: "الكتابة الروائية هي الحداثة، ورواية الإنسان الذي لا ضمان له هي حداثة الحداثة". "لا يوجد شعر بل يوجد شعراء" يقول ادونيس. وما يقوله الشاعر، الذي شدّ شعر بيروت اخيراً، ينطبق بكرم على الرواية: "بمقدار ما ان المدن غائبة عن معظم العواصم العربية، فإن الرواية غائبة عن كثير من الروايات العربية، ذلك انه يوجد روائيون ولا توجد رواية". ورواية الرواية، اقتداء ب"فكر الفكر" الذي يقول به بادو، هي الرواية المحدثة عن انسان استقر في معاناة مزهرة واطمأن الى مراوغة الطريق. ولم يكن عثار رواية "الواقعية الاشتراكية"، على رغم مقاصدها التربوية النبيلة، إلا اثراً لفكرة الانتصار، التي تضع مرجع الإنسان خارجه وتعدُ بواحة غناء في نهاية الطريق، مستبدلة "النافع" ب"الصحيح" وجمالية البحث ب"بلاغة الوصول"، وناسية ان الإنسان الحقيقي كون في ذاته، ولا نفع له في هذا الكون إن لم يكن كوناً استقل بذاته.
تحقق الإنسان الذي لا ضمان له في روايات عربية، تُحدث عن حداثة الحداثة، وتعلن عن اغتراب تراجيدي لا ينتظر الأفول. وبداهة فإن هذه الرواية أدركت، ببصيرة عالية، الفرق بين "مغترب عربي" اغوته وفترة الحرية، و"مغترب شرقي" دفعت به "وفرة اليقين" الى متاهة التجوال. وربما تكون شخصية "سعيد مهران" في رواية محفوظ "اللص والكلاب"، عنوان "المغامرة العارية"، التي خلقت انساناً اتكأ على روحه و التحق بقطار الحقيقة، الذي يحمله الى مقبرة نظيفة. تضمّنت الرواية نقداً سياسياً كاسحاً، لكنها احتقبت اولاً منظوراً حداثياً بامتياز، يرى الإنسان خارج قيود المعطى وينصّب إرادته المتحررة سيداً على الخلاء. كان محفوظ رائداً، وكانت ريادته ولوداً، تستلهم واقعاً امعن في اليباس، وتثني على مغترب امعن في المواجهة. بعد محفوظ سيأتي من يكتب عن انسان مخذول هجرته النعمة واستقر في شقاء "الطريق": صنع الله ابراهيم في رواية "اللجنة"، التي رأت الى درب مستقيم موصد، لا رجعة الى بدايته وليس في نهايته إلا التهلكة، و"تجليات الغيطاني"، التي تكسّرت مراجعها واعتصمت ب"ضمان اللغة"، التي كلما فتحت نافذة اعقبتها اخرى تلاه ايقاع لغوي لا يداوي الجروح.. "دنى فتدلى"، يكتب الغيطاني، بعد زمن، مخبراً ان "الدنوّ" هو دنوّ الأجل وضياع الذكريات وصرير قطارات تعابث الروح وتخلّف اللوعة. وإلى جانب هذا كتب محمد البساطي في "أصوات الليل" من طريق العشق وتداعي الوصول، وأعطى بهاء طاهر "الموت في المنفى"، الذي يعيّن "الكون الإنساني"، في زمن القهر، حيزاً طافحاً بالخيبة والاغتراب. وعلى ضفة اخرى، تقريباً، كان هناك غالب هلسا، الذي بحث واكتفى بمعنى البحث، مخلّفاً اسئلة كثيرة عن الإنسان الذي يذهب سعيداً الى نهاية غير سعيدة، بعد ان صافح المعنى وأدرك معنى الاغتراب، وكان العراقي المنفيّ غائب طعمة فرمان، الذي قاسم "السيد معروف" اوجاعه ونجا نظيفاً.
كيف يستوي الإنسان الذي لا ضمان له وتأويل التاريخ؟ الجواب قائم في شكل الطريق وما توزع عليه. فقد وصل بطل "موبي ديك" الى موته الصاخب في عرض المحيط، وبلغ "رجل بلا صفات" لروبرت موزيل في اغترابه قرار الأزمنة الحديثة وأخذ مغترب "وداعاً ايها السلاح" مصيره من حرب هزّت العالم... اما طريق المغترب العربي فله دلالة اخرى: تداعى انسان "اللجنة" في زاوية باردة، وتفكك "السيد معروف" في مكتب بيروقراطي ونظر سجين "الخماسين" لغالب هلسا الى السماء ورأى القمر احمر. معنى الطريق يساوي ما فيه، وعلى "الإنسان الجوهري" ان يطرد المألوف وأن يخلق طريقه. إنها نعمة الحرية المتمردة، المرهقة الكاشفة الكاسية الحاسرة المراوغة المتوّجة بإنسان لا يلتفت الى الوراء. يقول شكسبير في "الملك لير":
"يا ايها البؤساء العراة، حيثما كنتم، يا من تتحمّلون لسعات هذا الإعصار الذي لا يرحم، كيف تستطيع رؤوسكم المكشوفة بلا سقوف، وأجوافكم الخاوية، وثيابكم الرثة ذات الثقوب كالنوافذ، ان تحميكم من مثل هذه الفصول؟". لا يقوم الجواب في الثياب والبيوت والقلاع والظاهر المزخرف، بل في العتمة اللامعة التي يراها اطفال الحقيقة، السائرون من الظاهري المخادع الى الخبيء الذي تصافحه البصيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.