السعودية والأمم المتحدة تطلقان حملة لمكافحة التصحر    بوريل: بوادر الحرب العالمية عادت من جديد    ولي العهد يلتقي أمير الكويت ويستعرضان العلاقات الأخوية    وزير الخارجية يلتقي وزير خارجية سويسرا    الرياض تستضيف مباحثات عربية إسلامية أوروبية حول غزة    وزير المالية: سنعدل مشروعات رؤية 2030 وفق الحاجة    رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي: السعودية شهدت تطورا يعكس طموحها الاقتصادي    افتتاح الملتقى السنوي الثاني للأطباء السعوديين في إيرلندا    المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة تبرم عدداً من الاتفاقيات    أشباح رقمية    منتدى الرعاية الصحية السعودي الأمريكي يحتفي بالابتكار والتعاون في تكنولوجيا الرعاية الصحية    وقاء الباحة" يبدأ حملة التحصين لأكثر من 350 ألف رأس ماشية ضد مرض الحمى القلاعية لعام 2024م    وزير الخارجية يلتقي وزير خارجية النرويج    خادم الحرمين الشريفين يهنئ رئيس جمهورية توغو بمناسبة ذكرى يوم الإستقلال لبلاده.    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبدالرحمن بن فيصل بن معمر    أمير تبوك يواسي أبناء أحمد الغبان في وفاة والدهم    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يستقبل الرئيس التنفيذي لبنك التنمية الاجتماعية    مؤتمر أورام الكبد يختتم فعالياته بالخبر بتوصياتً هامة    وكيل محافظة الزلفي يدشّن فعاليات أسبوع البيئة    النصر يؤمن مشاركته في السوبر السعودي    صدور الموافقة السامية علي تكليف الأستاذ الدكتور عبدالله بن عبد العزيز التميم رئيساً لجامعة الأمير سطام    11قطاعًا بالمملكة يحقق نموًا متصاعدًا خلال الربع الأول ل 2024    رسمياً.. الزي الوطني إلزامي لموظفي الجهات الحكومية    ساعة أغنى رُكاب "تيتانيك" ب1.46 مليون دولار    محافظ خميس مشيط يدشن مبادرة "حياة" في ثانوية الصديق بالمحافظة    أمطار تؤدي لجريان السيول بعدد من المناطق    وفاة الأمير منصور بن بدر بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود    طابة .. قرية تاريخية على فوهة بركان    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية.. استمرار الجسر الإغاثي السعودي إلى غزة    270 دقيقة.. ويهتف «الشقردية»: نحن الأبطال    «هندوراس»: إعفاء المواطنين السعوديين من تأشيرة الدخول    وزير الإعلام ووزير العمل الأرمني يبحثان أوجه التعاون في المجالات الإعلامية    فريق طبي سعودي يتفوق عالمياً في مسار السرطان    برعاية الملك.. وزير التعليم يفتتح مؤتمر «دور الجامعات في تعزيز الانتماء والتعايش»    العرض الإخباري التلفزيوني    وادي الفن    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    وزير الدفاع يرعى تخريج الدفعة (82) حربية    مؤتمر دولي للطب المخبري في جدة    أخصائيان يكشفان ل«عكاظ».. عادات تؤدي لاضطراب النوم    وصمة عار حضارية    السجن لمسعف في قضية موت رجل أسود في الولايات المتحدة    ألمانيا: «استراتيجية صامتة» للبحث عن طفل توحدي مفقود    استقلال دولة فلسطين.. وعضويتها بالأمم المتحدة !    تجربة سعودية نوعية    انطلاق بطولة الروبوت العربية    أمير الرياض يوجه بسرعة رفع نتائج الإجراءات حيال حالات التسمم الغذائي    الأرصاد تنذر مخالفي النظام ولوائحه    التشهير بالمتحرشين والمتحرشات    في الشباك    الاتحاد يعاود تدريباته استعداداً لمواجهة الهلال في نصف النهائي بكأس الملك    (911) يتلقى 30 مليون مكالمة عام 2023    واشنطن: إرجاء قرار حظر سجائر المنثول    المسلسل    إطلاق برنامج للإرشاد السياحي البيئي بمحميتين ملكيتين    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صناعة العلماءفن له أصول ... تأملات في القيم الثقافية لتجربة ماليزيا التنموية الناجحة
نشر في الحياة يوم 01 - 02 - 2004

منذ مطلع القرن التاسع عشر، انشغل الفكر السياسي والاجتماعي العربي بسؤالين مركزيين: لماذا التخلف؟ وكيف النهضة؟ فدار البحث في شأن السؤال الأول عن الاسباب التي ادت الى تخلف العرب والمسلمين في العصر الحديث، ولماذا لم تنجح مجتمعاتهم في الانخراط في الثورة الصناعية والالتحاق بآخر عربة في "قطار" العولمة. أما السؤال الثاني، فقد تمثلت إجابته في عدد كبير من الطروحات الفكرية والمذاهب السياسية والاجتماعية التي قدمت تصورات مختلفة لشكل التغيير المطلوب وغايته. وفي هذا المجال تعددت الاجابات وتنوعت:
ركز البعض، مثلاً، على الإسراع بمعدلات النمو الاقتصادي، وذلك باعتبار أن التصنيع والارتفاع بمستوى معيشة الفرد هما مفتاح التقدم الاجتماعي، وهما "القاطرة" التي تشد بقية جوانب المجتمع، وأن التطور الاقتصادي تكون له آثار وتداعيات على الجوانب السياسية والثقافية في المجتمع. وفريق آخر اعتبر أن المعوق الاساس للتقدم يتمثل في غلبة قيم وأنماط ثقافية وسلوكية ينبغي تغييرها. ومن ثم، أكد انصاره أولوية الثقافة، وأن التغيير الثقافي هو المدخل الاساس للتغيير في المجتمع، واستند هؤلاء الى وجهة نظر عالم الاجتماع الالماني ماكس فيبر في شأن بزوغ الرأسمالية في مجتمعات أوروبية بعينها من دون غيرها، وربطه ذلك بنمط القيم والثقافة السائدة في تلك المجتمعات. وفريق ثالث أكد أهمية بناء المؤسسات، وأن ذلك يمثل الحلقة الحاكمة في التطور، باعتبار أن بناء المؤسسات هو رمز لتبلور مفهوم الدولة الحديثة التي تحكمها مؤسسات، ينظم القانون سلطات كل منها واختصاصاتها، كما ينظم حقوق المواطن وواجباته، والعلاقة التي تربط المواطن بتلك المؤسسات. ورأي رابع اعتبر ان الديموقراطية وتوسيع دائرة المشاركة السياسية هما مفتاح التقدم وإحداث التغيير، باعتبار ان النظام الديموقراطي هو أكثر النظم التي تسمح للمواطنين بالتعبير عن معتقداتهم وافكارهم، والذي يوضح مدى ارتباطهم بالاهداف العامة في مجتمعاتهم، وبالسياسات المتبعة أو السائدة فيها وأن مناخ الحرية الذي يتيحه هذا النظام من شأنه احداث التغيير الثقافي المنشود، وبناء المؤسسات الضرورية، والاتفاق على الاهداف العامة للمجتمع، وبما يضمن ارتباط المواطنين بها، والتفافهم حولها، والعمل من اجل انجازها.
وتبين دراسة خبرات الدول الصناعية الجديدة في القارة الآسيوية أهمية "التعليم" باعتباره العنصر الرئيس في توفير الكفايات البشرية اللازمة لاحداث التقدم. ففي عصر الثورة العلمية والتكنولوجية التي يعيشها العالم، والذي اصبحت فيه المعلومات عنصراً من عناصر الانتاج، بل العنصر الأكبر من ثمن اي منتج تكنولوجي متقدم، في هذا العصر الذي يشهد أيضاً تراجع الحواجز الجمركية وحرية الأسواق، تصبح قضية الميزة التنافسية للمجتمعات هي العامل الرئيس في مدى مساهمتها في صنع حضارة العالم المعاصر لأن ثورة التكنولوجيا هي أهم خواص القرن الحادي والعشرين وهي تعتمد على المعرفة العلمية المتقدمة والاستخدام الامثل للمعلومات المتدفقة بوتيرة سريعة.
وعندما نتحدث عن الميزة التنافسية للمجتمعات، فإننا نتحدث في المقام الأول عن قدرات ابنائها على توظيف الموارد المتاحة للمجتمع أفضل استخدام ممكن، وفي رسم السياسات التنموية والاقتصادية والمالية والتسويقية المناسبة لإحداث النمو والتقدم، وفي الاستفادة من الفرص القائمة وفي خلق فرص جديدة. والمدخل الطبيعي لذلك هو تأهيل البشر وتدريبهم من خلال التعليم وإعادة التعليم بما يسمح بخلق الميزة التنافسية، وتدعيمها باستمرار في اطار ازدياد المنافسة واحتدامها مع اطراف دولية اخرى.
ولا توجد مبالغة في القول إن التعليم هو أحد العناصر الحاسمة في تحديد مستقبل أي مجتمع. فمن خلاله يمكن غرس "ثقافة التقدم"، ومن خلاله يمكن النشء اكتساب المهارات اللازمة للتجديد والابداع والتطوير، كما يمكنهم أيضاً اكتساب مهارات القدرة على تنظيم الوقت والتكيف مع الجديد واستيعابه وتطويره. وكلما ازداد الاهتمام بتطوير العملية التعليمية من حيث محتواها واساليبها وتقويم عوائدها، فإن المجتمع يصبح أكثر قدرة على التعامل مع معطيات العالم المتغير الذي نعيشه. ففي هذا العالم الذي تتسارع خطى عملية التطور التكنولوجي، فإن قدرة أي مجتمع على الاستفادة من ناتج هذا التطور، ناهيك عن المشاركة فيه تتوقف على القدرات العملية المتوافرة لديه. ويكفي أن أشير، على سبيل المثال، الى كتاب اصدره الدكتور حامد عمار المفكر الاجتماعي المصري في عنوان "فن بناء البشر" في الخمسينات وأشار فيه الى ان جوهر التنمية هو بناء البشر وتطوير قدراتهم، من خلال التعليم، بما يمكنهم من أن يصبحوا قوى دافعة للتطور والتقدم.
لذا، لم يكن غريباً، منذ أن بدأت دول جنوب شرقي آسيا تسترد عافيتها الاقتصادية عقب الأزمة الطاحنة التي عصفت بها العام 1997، وهي تعيد ترتيب أولوياتها لتفادي حدوث مثل هذا الأزمة مرة أخرى، ولجذب مزيد من الاستثمارات الاجنبية الى قطاعات الاقتصاد المختلفة. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف احتلت قضايا التعليم أولوية اهتمامات المسؤولين في هذه الدول التي عرفت ب"النمور الآسيوية".
ولعل أبرز مثال على ذلك مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق الذي جعل من إصلاح التعليم المهمة الأساسية له، خلال العام الأخير له في السلطة، في الوقت الذي غير تاكسين شينواترا رئيس وزراء تايلاند خمسة وزراء تعليم خلال ثلاث سنوات في محاولة منه لإصلاح قطاع التعليم في شكل جذري. بينما لا يمكن أي مسؤول في سنغافورة أن يتحدث في أي موضوع من دون أن يتطرق الى الحديث عن أهمية مجتمع المعرفة والمعلومات. وذهب البعض إلى اعتبار ان الفقرة الخاصة بالتعليم في الدستور الفيليبيني هي أطول من وثيقة الحقوق التي يتضمنها الدستور الأميركي.
وعلى رغم الاعتراف بأهمية التعليم في هذه الدول قبل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعرضت لها العام 1997، إلا أنه أصبح الآن قضية حيوية، وعاملاً مهماً في دعم استقرار هذه الدول ودفعها الى الامام مرة أخرى. فعلى رغم حدة الأزمة التي تعرضت لها ماليزيا، إلا أنها لم تترك تأثيراً مدمراً في قطاع التعليم، إذ تخصص الدولة للتعليم 18 في المئة تقريباً من الموازنة السنوية، وتخصص وزارة التربية 5،82 في المئة من مصروفاتها للنفقات الجارية و5،17 في المئة لنفقات التطوير. وتوزع النفقات الجارية والتطويرية بحسب البرامج التعليمية التي تشمل: التعليم الابتدائي والثانوي، التعليم الفني والمهني، الإدارة العامة، رعاية الطلبة، التخطيط والبحوث التربوية، التعليم العالي، إعداد المعلمين وتدريبهم.
ومنذ أربع سنوات، بدأت وزارة التربية الماليزية طرح برنامج "تخصيص" المدارس الثانوية المهنية، بمعنى أن تخصص كل مدرسة مهنية لصناعة معينة بحسب موقعها وقربها من المصنع المعني بتلك الصناعة، بهدف مساعدة الطلبة على اكتساب خبرات علمية أكثر من خلال التدريب في موقع العمل. كما قامت الوزارة بتشجيع القطاع الخاص على المشاركة في تقديم برامج التعليم المهني، ويقوم عدد من الشركات والمصانع بتنظيم برامج تدريبية بهدف جعل المعارف والمهارات الفنية ذات صلة بواقع العمل. وفي هذا الشأن، قامت الوزارة أيضاً بوضع برنامج "خصخصة مشاركة الوقت" الذي صُمم لإتاحة الفرصة للقطاع الخاص للإفادة من التسهيلات والمرافق الموجودة في المدارس المهنية والكليات التقنية لأغراض التدريب.
ويتولى مركز تطوير المناهج في وزارة التربية مسؤولية صوغ المناهج الدراسية لجميع المدارس في ماليزيا، ويعتمد المركز في ذلك على الأهداف والفلسفة التربوية. ويتم تطوير المناهج الدراسية تطويراً "مركزياً" بمشاركة عدد من الممثلين عن المعلمين والتربويين والمسؤولين عن مكاتب التعليم في الاتحاد الماليزي الذي يتكون من 13 ولاية ومملكتين اتحاديتين. وتهدف هذه المناهج الى تنمية الفرد تنمية متوازنة ومتكاملة في المجالات المعرفية المختلفة، وغرس القيم الاخلاقية لدى الطلبة، وزرع قيم المواطنة، وإنتاج قوى عاملة مدربة وماهرة للبلاد. كما تقوم وزارة التربية الماليزية بتطبيق نظام التدريب في اثناء الخدمة كل خمس سنوات، إذ تتم إعادة تدريب المعلمين بعد قضائهم خمس سنوات في مهنة التدريس لتلبية المتطلبات الجديدة والحديثة من أساليب التدريس. وتعد مراكز مصادر التعلم التي توفرها الوزارة في مختلف المناطق والولايات والمدارس نوعاً آخر من أنواع التدريب في أثناء الخدمة، وتعتبر كمراكز للمعلمين، حيث يلتقون ببعضهم بعضاً لتبادل الآراء والأفكار حول مختلف الشؤون التعليمية.
وقد تميزت ماليزيا بالتخطيط والعمل الدؤوب لكل ما من شأنه النهوض بالتعليم من خلال ما يمكن تسميته ب"خلطة سرية" تمثلت في وضع خطة شاملة للنهوض وتحديد عام 2020 أمداً للتقدم لتصبح ماليزيا أحر البلدان المتقدمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ورفعت الوزارة شعاراً مميزاً يدركه جميع المعنيين بالتربية وعنوانه "العمل الفاعل والسريع" Fast and effective Action. ومن جانب آخر، تعنى ماليزيا بالبحوث والدراسات وهو ما يظهر في تعاونها مع واحدة من أكبر الجامعات، سواء في الولايات المتحدة أو العالم، وهي جامعة "هارفارد" حول وضع قاعدة معلومات يتم من خلالها جمع المعلومات عن المدراس والمناهج والطلاب وغيرها ومن ثم تحليلها ودراستها. كما تقدم جائزة لكل معلم يقدم اقتراحاً أو دراسة تحظى بالقبول، تشجيعاً له على الاستمرار في هذا النهج. وتهتم الدراسات الماليزية الحالية بالإبداع في تدريس الرياضيات والعلوم، وبالطلاب الذين يعملون ويدرسون في الوقت نفسه ومدى رضا أصحاب العمل من مصانع وشركات عن آراء الخريجين ومستوى إعدادهم. وتعتني أيضاً بالمتفوقين من الطلاب حيث تمت تهيئة مدارس خاصة لهم ألحق بها سكن داخلي وتتم العناية به علمياً وتربوياً. وتتجه ماليزيا، حالياً، لتحويل مدارس التعليم العام إلى مدارس المستقبل التي تستخدم التقنيات الحديثة، وسميت هذه المدراس Smart Schools وستعمم التجربة على جميع المدارس.
والخلاصة أن التعليم - من وجهة النظر الماليزية - هو استثمار تنموي طويل الأجل. إنه إعداد للأجيال الناشئة لكي تتعامل مع التحديات التي تفرضها التطورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة. تطوير التعليم، إذاً هو ضرورة مستقبلية ولا يمكن ضمان استمرار النمو الاقتصادي من دونه.
ولكن يذهب كثير من الباحثين الى أن الثقافة والقيم والتقاليد لعبت دوراً مهماً في نجاح تجربة التنمية الاقتصادية في دول جنوب شرقي آسيا، وإطلاق اسم "التنين الآسيوي" على اقتصاديات المنطقة فيه إشارة موحية لدور العامل الثقافي. فالتعاليم الأخلاقية السائدة في أقليم جنوب شرقي آسيا زودت جميع تجارب النمو القطرية، إبتداء من اليابان وانتهاء بمجموعة الدول المصنعة حديثاً مثل ماليزيا والفيليبين واندونيسيا وسنغافورة، زودت هذه التجارب معطيات ثقافية أكدت قيمة العمل واحترام السلطة والإخلاص والولاء للوطن، كما دعمت الاستقرار الاجتماعي والسياسي في ظل تعدد عرقي وديني ملحوظ، ولكنه كان على الدوام أداة للتعاون والمشاركة الجماعية العمل بروح الفريق Team Work.
وماليزيا كواحدة من مجموعة التنين، شكلت فيها القيم المعنوية وتقاليد المجتمع عنصراً أساسياً في نجاح تجربة النمو الاقتصادي السريع. ويمكن توضيح أبرز القيم المعنوية والتقاليد التي لعبت دوراً فاعلاً وداعماً للنجاح التنموي في ماليزيا على النحو الآتي:
1- الاعتماد على الذات:
تحقق الجهد التنموي في ماليزيا بالاعتماد على الاستثمارات الأجنبية لا على المعونات الاقتصادية، كما هو الحال في الكثير من الدول الافريقية والعربية، انطلاقاً من مقولة عالم السياسة الواقعي هانز مورغانثو "لا يمكن تحقيق التنمية بالتسول الدولي". حتى في أوقات الأزمات الاقتصادية الحادة كأزمة النفط في 1973 وأزمة العملات 1997 ضربت ماليزيا مثلاً في التغلب على الصعوبات التي واجهتها من خلال التدابير الذاتية من دون مساعدة مادية من العالم الخارجي أو العمل ب"روشتة" الإصلاح التي اقترحها صندوق النقد الدولي للخروج من "شبح "الأزمة.
وسياسة الاعتماد على الذات وفرت دافعاً قوياً لحيازة التقنية والأفكار الناجحة من التجارب الأخرى. ولعل شركة البترول الوطنية "بتروناس"، وشركة الخطوط الجوية "ماس" والسيارة الوطنية "بروتون" خير شواهد على نجاح هذه السياسة. فكل واحدة من هذه الشركات رائدة على المستوىين الإقليمي والعالمي.
2- المحاكاة المبصرة:
تعتبر اليابان مثلاً أعلى لجميع دول جنوب شرقي آسيا الآخذة في النمو. فقد صاغت ماليزيا في عام 1981 استراتيجية سياسية أطلق عليها "النظر الى الشرق" ومضمونها الاستفادة من التجربة اليابانية وتقليد الجوانب الناجحة تقليداً مبصراً مثل الاتجاه التصديري، أي تصدير المنتجات للخارج والاستثمار في التنمية البشرية والنظم الادارية المحكمة.
3- الموضوعية السياسية والتصحيح:
يتميز الزعماء والسياسيون في ماليزيا بالموضوعية السياسية التي تعني أن الفشل في تحقيق الأهداف الاقتصادية أو تنفيذ السياسات المعلنة يقابله اعتراف صحيح بالخطأ والبحث عن بدائل للحل. فلم تكن "المكابرة" السياسية تخطر على بال صناع القرار حتى عندما يرتبط الفشل ببرنامج الحزب الحاكم. فماليزيا أخذت في مطلع الثمانينات بسياسة إحلال الواردات، أي استبدال المنتجات المستوردة من الخارج بمنتجات محلية. وعندما تبين فشل هذه السياسة تم التحول الى سياسة التصدير الى الخارج والتحول الى القطاع الخاص.
4 - البساطة وعدم الاسراف:
من السمات التي لا تخطئها العين في المجتمع الماليزي أسلوب الحياة البسيط مع منهج عدم الإسراف في المعيشة، وبالتالي يساهم المنهج الحياتي على هذا المنوال في تعزيز قيم أخرى مثل: المحافظة على الثروة القومية، حسن استغلال الموارد وتوظيفها. وكان لهذه السمة بالذات تأثير إيجابي في القرارات التي اتخذتها الحكومة لمواجهة الأزمة المالية في عام 1997 من تقليل الإنفاق الحكومي ورفع الدعم الكلي عن بعض الخدمات، حيث لم تتعرض تلك القرارات إلى أية معارضة أو احتجاج شعبي، بل وجدت التأييد عندما طاولت هذه القرارات بعض المشروعات المستهدفة في تحقيق الرفاهية والتنعم.
5- احترام الكبير وتقديره:
المشهور في شرق آسيا وفي ماليزيا خصوصاً، وهذه القيمة انعكست على أسلوب التعامل مع السلطة، فالسلطة على مختلف مستوىاتها تحظى باحترام الجميع، وبالتالي فالقانون يحكم الحياة العامة ويحقق تجاوب الناس مع سياسات الدولة وعدم معارضتها أو تعويقها. ومن جانب آخر، فالدولة تبادل المواطن هذا الاحترام من خلال رعاية مصالحه، وكفالة حقوقه الأساسية، والسعي الدؤوب لترقية أداء الحكومة. فبرامج التنمية ومشاريعها استهدفت في شكل مباشر دعم الصناعات الصغيرة والمشاريع المتوسطة، التي يستفيد منها صغار الملاك ومحدودو الدخل.
6- الأسرة المستقرة:
تعتبر الأسرة نواة المجتمع الأولى وعنصر تماسكه. وهناك اعتزاز وقدسية للأسرة ودورها. وعلى رغم ما أحدثته سياسات التصنيع من حداثة ومعاصرة، من تأثير سلبي في دور الأول، فهي لا تزال بؤرة استقرار المجتمع. وهناك تضامن وتكامل ما بين الأسرة ومؤسسات أخرى كالمدرسة وأماكن العبادة في النهوض ببعض المسؤوليات الاجتماعية.
ومن جانب آخر تقوم الدولة برعاية استقرار الأسرة عبر برامج محددة تعنى بمعالجة المشكلات الطارئة مثل اساءة معاملة الأطفال والاعتداء على النساء. ولكن نستطيع القول عموماً إن المجتمع الماليزي يتميز بتضامن وتماسك أسري أقوى من المجتمعات في دول مجاورة مثل تايلاند والفيليبين واندونيسيا. ومنهجية الأسرة المتعاونة تركت أثراً واضحاً في الحياة السياسية والاقتصادية. فالحكومة غالباً ما تناقش القضايا الاقتصادية أو قراراتها المتعلقة بتحقيق هدف اقتصادي من خلال مشاركة جميع الأطراف وأصحاب المصلحة في القضية المشتركة.
7- التسامح و"الوئام" العرقي:
هناك قدر كبير من الوئام بين الأعراق الثلاثة المكونة للشعب الماليزي: الملايو حوالى 54 في المئة من السكان ويدين معظمهم بالإسلام، والصينيون ويدينون بالبوذية، ثم الهنود ومعظمهم هندوس. ويرافق ذلك تسامح اجتماعي وديني، فالجميع يحترمون دستور البلاد الذي يؤكد أن الإسلام الدين الرسمي للدولة، وأن الوحدة الوطنية والأهداف القومية هي التي تجمع بين فئات الشعب المختلفة في تعاون وانسجام. وما لا شك فيه أن هذا الوئام أسس أرضية صلبة للاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي، وكان عنصراً جاذباً للاستثمارات الأجنبية.
8- الاعتداد بالقومية والاعتزاز بها:
من أرض الملايو، انطلقت نواة المشاعر القومية المعادية للاستعمار ومنها تكونت منظمة دول عدم الانحياز في مؤتمر "باندونغ" الشهير في منتصف الخمسينات. فالشعب الماليزي اعتبر مقاومته للاستعمار مصدر إلهام وشحذ لهمته من أجل التحرر والتطور والتقدم. وأدرك القادة السياسيون هذه الحقيقة ووظفوها لخدمة المصالح العليا. وخلال أقل من ثلاثة عقود تحولت ماليزيا من بلد زراعي فقير الى نموذج دولة مصنعة تعد من أكبر مصدري البلاد النامية لأشباه المواصلات "الشرائح الألكترونية" ميزة عصر التقنية الراهن، وذلك كله عبر حشد الروح القومية.
ويعد مهاتير محمد من أبرز المدافعين عن "القومية الآسيوية" و"الوعي الآسيوي"، رافضاً فكرة عالمية الثقافة الغربية، بدعوى أنها الثقافة الوحيدة التي تؤكد قيم المدنية والحرية في مقابل ارتباط الثقافة الآسيوية بقيم الاضطهاد والفساد والسلطوية. ووصل هجوم مهاتير محمد على الثقافة الغربية إلى حد وصفها ب"الانحطاط الحضاري"، مؤكداً قدرة آسيا على خلق منطقة ثقافية تتمتع بالعظمة التاريخية الفريدة. وطالب في سياق دعوته الى تنمية "الوعي الآسيوي" بالكفاح للحفاظ على نظام القيم الآسيوية، وأن على الولايات المتحدة الأميركية الاستفادة من دروس النجاح في شرق آسيا وقبول القيم الآسيوية، وليس الالتفاف حولها.
هذه القيم السابقة شكلت ما يمكن تسميته ب"المهاتيرية" - نسبة إلى مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق -، ويقوم تصورها على أولوية قضية التنمية على التطور الديموقراطي في المراحل الاولى من التطور الاقتصادي، وأن التعجيل بالتحول الديموقراطي قد يؤدي إلى تداعيات سلبية. وقام مهاتير محمد بصوغ تجربة التنمية الماليزية وفق هذا التصور، الأمر الذي أدى إلى تأجيل عملية التطور الديموقراطي إلى الآن على رغم النجاح الذي حققه المشروع التنموي. أي أن التصور المهاتيري يرى أن فكرة "المستبد العادل" ربما تكون هي الأنسب بالنسبة الى بعض الشعوب والمجتمعات خلال مرحلة معينة من التطور السياسي والاقتصادي.
وفي ظل الإحباط السائد في العالم العربي، بعد مضي أكثر من نصف قرن على الاستقلال، بسبب اخفاق التحديث وغياب التنمية واغتيال الديموقراطية، ربما تبدو التجربة الماليزية "شمعة" تشير الى إمكان نجاح بلد اسلامي في النهوض من دون الاعتماد على الخارج، بل إن التغيير ينبع من الداخل في الأساس.
ولعل التجربة الماليزية في التنمية تثير اشكالية "التفكير" الذي يسود العالم العربي في اتجاهين:
الاتجاه الاول: التفكير بمنطق "المعجزة". فالنتيجة المترتبة على وصف ما حدث ويحدث في ماليزيا بالمعجزة يجعلها خبرة فريدة - لأن المعجزة بحكم التعريف حدث استثنائي وهي واقعة خارقة وغير متكررة - لا يمكن الاستفادة منها أو نقل دروسها أو حتى فهمها، لأن وصفها بالمعجزة يجعلها تبدو وكأنها تستعصى على التحليل والتفسير، أو يجعلها مرتبطة بأسباب تنفرد بها دول معينة دون غيرها.
والنقطة التي أريد التشديد عليها هي أنه لا توجد معجزة انفردت بها دولة واحدة، كما أنه لا يوجد سبب وحيد - كما أشرنا سلفاً - يمكن به تفسير خبرات التنمية الناجحة في آسيا. فنحن أولاً لسنا حالة واحدة وإنما مجموعة دول كررت خبرة النجاح ثم واجهت أزمة عاصفة منذ سبعة أعوام، ثم تجاوزت الأزمة واستطاعت هذه الدول تحقيق الإنجاز في ظروف جد مختلفة، بعضها كان مدمراً بسبب ظروف الحرب مثل اليابان وبعضها أقرب ما يكون إلى شكل مدينة - دولة مثل هونغ كونغ وبعضها دول صغيرة العدد مثل سنغافورة وبعضها دول اسلامية مثل ماليزيا واندونيسيا وبعضها دول كبيرة العدد مثل الصين التي تضم اكثر من ربع سكان العالم. ثم أن هذه الدول استطاعت تحقيق معدلات عالية من التنمية الاقتصادية والتكنولوجية في فترة زمنية محدودة.
الاتجاه الثاني: التفكير بمنطق "المؤامرة". فالأزمة المالية التي أصابت اقتصادات دول جنوب شرقي آسيا ب"الانفلونزا" في عام 1997 جعلت البعض يردد أن ما حدث هو "مؤامرة" خارجية، قادها المضارب اليهودي العالمي جوج سورس من خلال مضاربته التي تسببت في انهيار العملة الماليزية الرينجت وعدد من عملات جنوب شرقي آسيا، خصوصاً مع وجود مؤشرات حقيقية توحي بأن هذا القرن هو قرن "الصعود الآسيوي". ومن ثم، فإن فكر المؤامرة لا يساعدنا على فهم ما يحدث من حولنا، لأنه يعطل ملكة التحليل الموضوعي. فوفقاً لهذا الفكر، هناك سبب جاهز لكل هزيمة تلحق بنا، ولكل مشكلة نواجهها، هذا السبب هو مؤامرة الغير، وقد يكون مصدر هذه المؤامرة هو الاستعمار، ومرة أخرى الصهيونية، ومرة ثالثة الولايات المتحدة الأميركية، وهكذا... وأخطر من ذلك، فحين يلقي هذا الفكر باللوم على الغير، فإنه يتحاشى مواجهة الذات أو نقدها، وذلك تفسير سهل وبسيط، ولكنه ضار وغير مفيد.
ولا بدمن أن نصارح أنفسنا بأسئلة مثل: لماذا يتآمر علينا العالم؟ وما هو الخطر الذي نمثله على الحضارة الغربية؟ وإذا كان مجمل الناتج المحلي لكل الدول العربية يماثل دولة أوروبية واحدة هي هولندا... فما هو هدف الذين يتآمرون علينا؟ ولماذا لا يتآمر الغرب ضد دول مثل الصين واليابان وماليزيا؟ ثم إذا افترضنا وجود المؤامرة، لماذا تنجح معنا هذه المؤامرات المرة تلو المرة؟ ولماذا لا نتخذ من الاحتياطات ما يحول دون نجاحها؟
دعونا اذاً نخرج من السجن النفسي الذي تسنعه كلمات مثل "المعجزة" التي تحققت بالفعل أو "المؤامرة" لأنها فشلت وتغلبت دول عليها، وأن نبحث عن سبب تفردت به هذه الدولة أو تلك، بحيث ننظر في "منظومة" العوامل والاسباب التي أدت بهذه الدول الى النجاح والانجاز والتي تتضمن الاخذ بالعلم والمنهج العلمي، وبوضع أهداف محددة مرتبطة بتوقيتات زمنية وموازنات محددة، وسياسة وطنية تضع التعليم في مقدم أولوياتها وانفتاح "مشروط" على العالم يجعل مؤسسات الدولة والمجتمع قادرة على التجديد والابداع وتتمتع بالمرونة اللازمة للتراجع عن السياسات التي ثبت خطأها أو تغيرت الظروف التي استدعت تبنيها. والخلاصة أنه لا توجد معجزة خارج إطار جهد البشر وعملهم ولا توجد مؤامرة تستمر في جلب المصائب والكوارث لبلد ما، ما دام هناك نوع من المواجهة والتحدي لها لأن هناك مؤامرات في التاريخ، ولكن التاريخ ليس مؤامرة. ولا يوجد أيضا سبب واحد يمكن أن نفسر به نجاح دولة ما ولا توجد "وصفة" جاهزة يمكن ان تطبقها كل البلاد بغض النظر عن ظروفها، والوصفة الناجحة هي تلك التي تعكس خصوصية كل مجتمع وظروفه. فإذا كانت الحادثة التاريخية فريدة بظروفها وشخوصها وأحداثها ووقائعها، فإن التجربة التنموية "الماليزية" هي كذلك. وهو ما دعا مركز الدراسات الآسيوية في جامعة القاهرة الى انشاء "برنامج للدراسات الماليزية" للتعرف على هذه التجربة الجديرة بالبحث والنقاش، لعلنا نتأمل فيها ونتعلم منها نحن العرب... وإن كانت كلمة "السر" و"مصباح علاء الدين" في هذه الطفرة لهذا البلد "المناهج والمعلم الجيد الذي يستوعب المناهج المتطورة ويستطيع إيصالها الى الطلاب". ونحن في العالم العربي لم نأخذ تحديات القرن الحادي والعشرين الى الآن مأخذ الجد، ولم يدرك صانعو القرار على أعلى مستوى بعد، أن التعليم هو المفتاح وهو الاساس وأن التعليم أخطر من أن يترك للتربويين وحدهم، مثلما أن "الحرب أخطر من ان تترك للعسكريين وحدهم".
* عضو البرلمان المصري سابقاً. استاذة علوم سياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.