يتقدم الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش الى منطقة الشرق الأوسط بوضوح استمرارية النهج الذي اتبعه في ولايته الأولى وبوعد نهج جديد في الشرق الأوسط تلبية"لنداء التاريخ لمساعدة قوى الاصلاح والحرية"، في تلك المنطقة، حسب قوله عند اعلان ترشيح كوندوليزا رايس خلفاً لوزير الخارجية الحالي كولن باول. ايمانه بالديموقراطية كوسيلة لاحداث تغيير نوعي في مسيرة المجتمعات رافقه في ولايته الأولى ويفترض ان يكون مفعوله اكثر عمقاً واثراً في ولايته الثانية. فالسنوات الأربعة المقبلة ستشهد"عهد دبليو"بصورة جديدة للرجل الذي لا يزال لغزاً برغم شخصيته العلنية التي تقدمه رجلاً عادياً يسهل التخاطب معه. وأول تحديات صياغة شخصيته المستقلة تكمن في علاقته بنائبه ديك تشيني وببقية الصقور والمحافظين الجدد الذين تحكموا بالقرار اثناء ادارته الأولى. من الخطأ انتظار وضوح شخصية بوش أو مراقبة تطورها بين نموذج"الواقعية المعتدلة"التي مثلها كولن باول وأراد بوش تطهير ادارته الثانية منها باسم التجانس وبين نموذج"المثالية الخيالية"الذي تتظاهر قوى التطرف به تحت راية الدفع بالحرية. أمام المنطقة العربية إما استباق املاء النهج الآتي من الخارج أو الاسراع الى تغيير نوعي ينبثق من الداخل كمشروع واع وصادق وطارئ. العبء على القيادات والحكومات أولاً خصوصاً ان المعتدلين والمتطرفين على السواء لا يثقون بأن الحكومات جاهزة لنقلة نوعية في الاصلاح والحرية فيصبح المواطن طليقاً في مجتمع ديموقراطي. لكن العبء ايضاً على الشعوب العربية لأن استمرار امتناعها عن المشاركة الفعلية في تقرير المصير بلغ درجة الاستحقاقات. وكي تتمكن المنطقة العربية، قيادات ونخبة وقاعدة شعبية، من صياغة استراتيجيات تتجاوب مع العهد الجديد، لا مناص لها من التعمق في فهم الولاياتالمتحدة في عصر تحكم الصقور والمحافظين الجدد والانجيلية الاصولية بالدولة العظمى ودفعها الى أحضان الدين والتطرف. هذا يتطلب أولاً الكف عن الاستهزاء بجورج بوش واعتباره قاصراً عن الفهم والقيادة مهما كانت مشاعر العداء له ولسياساته. فالأولى هو استكشاف كيفية تحويل ايمان بوش بمهمته التاريخية الى فرصة لإحداث تغيير نوعي في السياسة الاميركية نحو الشرق الأوسط، وبالذات نحو النزاع العربي - الاسرائيلي. في حال الاقتناع باستحالة تحقيق هذا الهدف، من الضروري وضع تصور لما يمكن القيام به في وجه ما تفيد به المؤشرات من اميركا جديدة من نوعها في عصر دبليو. ترشيح بوش لمرشدته في السياسة الخارجية، كوندي رايس، لمنصب وزيرة الخارجية مؤشر الى جهوزية دبليو للتصرف باستقلالية. رايس رافقت دبليو في الولاية الأولى بصفتها مستشارة الأمن القومي وكانت على بعد خطوات من مكتب الرئيس في السنوات الأربع الماضية. عندما تصبح وزيرة خارجية، لن تكون على قرب يومي من الرئيس حتى وإن استمرت في مرافقته اثناء العطلة الأسبوعية الى منتجع العائلة. فالمهمة الجديدة تضع مسافة ليست بالضرورة عبارة عن برودة في العلاقة بين دبليو ورايس وانما قد تكون رسالة ومؤشر على"تخرج"دبليو من الرعاية. السؤال الأهم هو، هل ينوي جورج بوش التخرج ايضاً من رعاية أمثال"الأب"ديك تشيني الذي يقود تيار الصقور والمحافظين الجدد؟ انه ينظر الى نائبه باعتباره المنفذ الاداري للفكر الذي يعتنقه ويتبناه ويلتزمه جورج دبليو بوش الرئيس والرجل؟ هل يرى دبليو أن مستقبله السياسي - الذي يتعدى الرئاسة لولايتين - ينطوي على مهمة تبشيرية واصلاحية تنطلق من الدين من جهة ومن عقلانية عملية تأخذ في الحساب من هي القوى الحاكمة حالياً في الولاياتالمتحدة من جهة أخرى. ماذا لو توصل دبليو في ولايته الثانية إلى حسم الاقتناع بأن القدرة الالهية التي أوكلت إليه مهمة تلبية نداء التاريخ نادت به إلى التحدي على أسس دينية واحاطته بالصقور كرُسل للتمكين والتنفيذ؟ هذه ليست تساؤلات للتسلية ولا اجتهادات كتمرين ذهني. ففهم مَن هو جورج دبليو بوش مسألة ضرورية، لأنه قد يكون في نهاية المطاف الرئيس الذي اسيئ تقدير نفوذ فكره وعقيدته في صنع السياسة الأميركية الخارجية. كما قد يكون، من جهة أخرى، الرئيس الذي لم يكن سوى منفذ لاجندة حصل أنها وُجد ملائمة لها. وقد يكون لغزاً اخترعه عمداً. تجربتي الشخصية مع الرئيس بوش تشكل إحدى محاولات التعرف إلى شخصيته، قبل سنة ونصف سنة، جلست مع الرئيس بوش أكثر من 40 دقيقة مع خمسة زملاء من روسيا ومصر وبولندا وفرنسا، وخرجت من الجلسة مقتنعة بأن دبليو بالطبع متمكن جداً كمخاطب إعلامي يحسن حفظ الجمل والمواقف. لكن ما استوقفني اثناء اللقاء هو انتقاؤه مَن يتحدى بيننا وبأي هدف، من يركز عليه وبأية رسالة، مَن توقع أن يكون صعباً معه وكيف عالج التحدي. خرجت من الجلسة بانطباع يتعدى المواقف السياسية ووجدت جورج بوش مُقبلاً على التحدي، استفزازي الطبيعة، متعطشاً لإبراز إلمامه بالملفات، يتمتع بفرصة اثبات عكس الانطباع السائد عنه الذي رسمه"جاهلاً". باختصار، لم أرَ شخصاً غبياً ولا جاهلاً ولا متردداً ولا خائفاً. تجربة شخصية أخرى مع الرئيس بوش تستحق الذكر لمجرد أنها تعطي لمحة عن شخصيته. قبل شهرين عند مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحين كان يسير في قاعة الجمعية العامة إلى صالة الوفود، إلى يساره الأمين العام كوفي أنان وإلى يمينه رئيس وزراء الحكومة العراقية اياد علاوي، شاهدني واقفة على بعد بضعة أمتار، فتوجه إليّ لمصافحتي وسط دهشتي واستغراب أنان وعلاوي اللذين اضطرا للتوقف وسط عشرات القادة الآخرين بانتظار عودة بوش إلى مكانه بينهما، لماذا فعل ذلك؟ لا أدري تماماً، إنما التصرف عكس ارتياح دبليو مع نفسه وفي منصب الرئيس للدولة العظمى الذي يعطيه صلاحيات وحريات لا يمتلكها القادة الآخرون. بعد فوزه في الانتخابات ازدادت ثقة دبليو بنفسه خصوصاً أنه اعتبر النتيجة ولاية شعبية له للمضي بما بدأه، إذ أن وعده أثناء الحملات الانتخابية كان وعد الاستمرارية. والسؤال الآن هو: الاستمرارية بماذا؟ بتكتل اليمين المتطرف من الانجيليين الاصوليين والمحافظين الجدد؟ بالتعهد بتغيير جذري ونوعي في مجتمعات المنطقة العربية والإسلامية؟ بالحروب الاستباقية؟ بالحسم العسكري كخيار وحيد لحرب الإرهاب؟ أم ان لدى دبليو تصوراً مختلفاً وخفياً لكيفية تنفيذ"المهمة"التي يؤمن بأنها أوكلت إليه؟ شكل الادارة الجديدة التي يختار دبليو أقطابها يفيد بأنه يرتاح الى الصقور ولا يريد حمائم اعتدال تعطل التوافق والتجانس في صفوف الادارة الجديدة. يريد قدراً أقل من الحوار والاختلاف فيما يستعد للظهور وأنه يقود العربة بسيطرة كاملة له عليها بعدما"تخرّج"من"الاستماع"الى مختلف وجهات النظر. فجورج دبليو بوش يريد للعالم ان يقتنع أخيراً بأنه ليس مسيراً على أيادي الصقور واليمين المتطرف وانما هو حقاً منهم. انه الرجل الذي يؤمن بالتغيير النوعي عبر الديموقراطية والحرية، وقد نقل عنه الاسبوع الماضي انه قرأ كتاب الاسرائيلي ناتان شارانسكي عن الديموقراطية كوسيلة للتحول الجذري وازداد اقتناعاً بأنه رسول التغيير النوعي واصدر التعليمات بأنه هكذا يريد لادارته ان تفهم المعادلة. نائب الرئيس ديك تشيني، وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ووكيله بول وولفوفيتز، مستشار الأمن القومي الجديد ستيفن هادلي، يفهمون المعادلة تماماً لأنهم من روّج لها أساساً. فهؤلاء شركاء قدامى في ادارات سابقة وهم من عجينة واحدة كصقور اليمين والمحافظين الجدد. جميعهم لعب دوراً في وضع الخطط لحرب العراق وخطط ما بعد حرب العراق. هادلي اعترف شخصياً علناً بخطأ تضليل جاء في خطاب الرئيس حول"وضع الاتحاد"زعم ان العراق سعى الى اليورانيوم من افريقيا علماً بأن وكالة الاستخبارات المركزية حاولت تكراراً اقناعه بحذف تلك الاشارة من الخطاب. هادلي الذي كان نائباً لكوندوليزا رايس في الادارة الأولى، سبق وعمل مع كل من تشيني وولفووتز ايضاً اثناء رئاسة جورج بوش الأب، وهو يعتبر من أكثر الصقور ولاء لهما. تعيينه مستشار الأمن القومي مؤشر اضافي على سلطة تشيني وولفوفيتز وتأثيرهما البالغ في دبليو كما هو مؤشر الى انتصار فكر المحافظين الجدد وعزمه امتلاك اميركا وتوجيهها كما يشاؤون. كوندي رايس ليست معروفة كناشطة بين الصقور ولا كمنتمية الى صفوف المحافظين الجدد لكنها أحاطت نفسها، أو أُحيطت بهم كمستشارة أمن قومي. فالى جانب ستيفن هادلي، كلفت رايس، مثلاً، اليوت ابرامز الملف الفلسطيني - الاسرائيلي. وعندما ستتولى منصب وزير الخارجية، الارجح ان يكون جون بولتون وكيلاً للوزير لضمان تشيني ورامسفيلد وولفوفيتز وهادلي وجود حليف لهم في وزارة الخارجية. بعد انتهاء الانتخابات، وحسبما قال أحد الذين شاركوا في الاجتماع لصحيفة"نيويورك تايمز"، أصدرت رايس التعليمات الى اليوت ابرامز ودانيال فرايد للاجتماع بالمبعوثين الاوروبيين في واشنطن لتحذيرهم من الضغط بأفكار مستقلة لهم في شأن المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية ولحشد دعمهم لمقترحات الانسحاب الانفرادي من غزة كما يريدها رئيس وزراء اسرائيل ارييل شارون. لربما كانت تسعى حينذاك ان بوش لن يطلب من كولن باول البقاء في المنصب وانه قرر ان تكون وزارة الخارجية لها، فبدأت الإعداد. جورج دبليو بوش، اثناء اعلان ترشيح رايس، تعمد وضع الملف الفلسطيني - الاسرائيلي في طليعة أولويات وزير الخارجية وكأنه يقول ان ملف العراق باقٍ في أيادي وزير الدفاع طالما الحرب مستمرة. رايس، برغم معاركها مع رامسفيلد، ستدافع عن السياسة الاميركية في العراق مهما حيدت عن صنعها. فهي لن تخوض معارك علنية وهي تدرك تماماً ان هذه هي رغبة وسياسة دبليو في نهاية المطاف. تركيزها على الملف الفلسطيني - الاسرائيلي قد يشكل فرصة لجميع اللاعبين للتأثير في مستقبل هذا الملف. من الضروري ان تتوصل الأطراف الفلسطينية الى اتفاق على هدنة واجراء انتخابات والى استراتيجية افشال واحباط منطق التوأمة الاميركية - الاسرائيلية في حرب الارهاب وطرح التحرر من الاحتلال بصفته جزءاً رئيسياً من التحول النوعي الذي يريده دبليو لمجتمعات الشرق الأوسط. من واجب القيادات العربية فهم اهمية التسويق الاعلامي للمبادرة العربية التي اعتمدته في قمة بيروت قبل سنوات من خلال احياء أسس المبادرة برؤية وبطرح جديد وباخراج خلاق. وقد حان لأطراف اللجنة الرباعية بالذات الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، ان تعيد شرح الرؤية الدولية مع ابراز اهمية"خريطة الطريق"الى قيام دولة فلسطين بجانب اسرائيل قبل ان يغدر بها المتطرفون داخل وحوالي الادارة الثانية لدبليو وينجحون في تملص تدريجي من أسسها وضوابطها. دبليو تعهد بقيام دولة فلسطين قبل نهاية ولايته متملصاً عملياً من تعهده بقيام تلك الدولة عام 2005 طبقاً لما جاء في"خريطة الطريق". الذرائع عديدة، انما الحصيلة ذاتها. فكلما انطلق دبليو بحماس واقتناع نحو حل عادل للقضية الفلسطينية، لم يتحداه أبداً فريق الاعتذاريين لشارون وانما صبروا وخططوا لكيفية تسلقه انحداراً من الأهداف المرفوضة اسرائيلياً دون ان يشعر انه يرتد ويتراجع عن تعهداته. تعييناته الجديدة تفيد ان دبليو يرتاح جداً في احضان الصقور واليمين المتطرف، طليق من الواقعية المعتدلة، متشوق للمثالية الخيالية.