كان اريك ساتي، الموسيقي الفرنسي، غريب الأطوار الى حد بعيد. وكان يتعمد أن يكون بعض موسيقاه ذا أطوار لا تقل عنه غرابة. ومن هنا نراه خلال حقبة غنية من حياته يكتب تلك "العجيبة" الموسيقية المعنونة Vexations، والتي تتألف أصلاً من 180 نوطة للبيانو، يجب أن تكرر، في عرف المؤلف 840 مرة. وطبعاً لم يكن في الإمكان، لا في حياة ساتي، ولا خلال العقود التي تلت رحيله، أن يقدم هذا العمل الأسلوبي بكامله وكما كتبه صاحبه. لذلك كان على الهواة أن ينتظروا العام 1963، أي نحو 40 عاماً بعد رحيل ساتي، حتى يقدم هذا العمل للمرة الأولى، وليس في باريس، بل في نيويورك، بواسطة عشر آلات بيانو، تعاقبت على العزف طوال 18 ساعة. ذلك لأن هذا العمل كان ولا يزال أطول عمل كتب للبيانو في تاريخ الموسيقى! طبعاً لم يكن لكل انتاج اريك ساتي هذا الطابع الغريب نفسه. بل ان الرجل كتب الكثير من القطع الكلاسيكية، الجيدة والأقل جودة. غير ان ما يبقى منه لجمهور الموسيقى العريض، هو أعماله المرحة الجزلة، التي ظل يكتبها طوال أكثر من عشرين سنة فتلقى اقبالاً وتصنع له مكانة طيبة في أوساط الموسيقيين الفرنسيين، ممهداً بشكل أو بآخر لمجيء الانطباعيين من أمثال كلود ديبوسي. مع هذا علينا ألا ننسى هنا مساهماته المتأخرة - في حياته - الى جانب "التكعيبيين" وبخاصة حينما لحن باليه "باراد" الذي كان كتبه بالتعاون مع جان كوكتو وبابلو بيكاسو. ان هذا كله يدل، طبعاً، على دينامية وحيوية طبعتا عمل اريك ساتي الموسيقي طوال الجزء الأكبر من حياته، ناهيك بالطابع المرح الذي سيطر على موسيقاه، كما قلنا طوال عشرين عاماً. ومن هنا السؤال الأساسي: لماذا إذاً، يرى معظم مؤرخي الموسيقى ونقاد الفن ان العملين "الأقل مرحاً" والأكثر كآبة في نتاج اريك ساتي هما الباقيان أكثر من بقية أعماله. بل ما الذي يجعل، بالتحديد، اوراتوريو "سقراط" الذي كتبه وخدمه في العام 1918، قبل موته بسبع سنوات، في قاعة الجمعية العامة في باريس، واحداً من أهم أعماله على الإطلاق؟ والحال أن أهمية هذا السؤال تنبع من كون "سقراط" الأقل غرابة وطرافة بين أعمال ساتي، من ناحية الأسلوب كما من ناحية تصميم الميلوديات وتصميم العمل ككل. ثم، علينا ألا ننسى هنا ان "سقراط" حين قدم لم يلق أي نجاح يذكر، لا لدى الجمهور العريض ولا لدى النخبة والنقاد. مرّ، كما يبدو، مرور الكرام... لكنه عاد واتخذ مكانته بالتدريج بعد ذلك، ليعتبر لاحقاً مع مقطوعات ساتي "الليليات" - وهي أعمال حزينة رومانسية بدورها - من أشهر ما انتج هذا الفنان. اقتبس اريك ساتي دراما "سقراط" السيموفونية، كما أطلق عليها بنفسه، مما كتبه أفلاطون عن حياة أستاذه "شهيد الفكر" صاحب مقولة "اعرف نفسك بنفسك" والذي لم تحتمل ديموقراطية اثينا في ذلك العصر، آراءه الحرة و"افساده" للشبيبة، فطلبت منه أن يتوب ويندم أو يجرع السم، ففضل الاختيار الأخير كما نعرف. لقد تحدث أفلاطون عن أفكار سقراط وآرائه وحياته في عدد كبير من حواراته - التي نعرف أنه لولاها لما كان لسقراط وجود ما -، غير ان اريك ساتي، حين قرر أن يكتب تلك "الدراما السيموفونية" - والتي اتخذت في نهاية الأمر طابع اوراتوريو غير ديني - عن "سقراط" اكتفى باقتباس مقاطع عدة من ثلاثة حوارات سقراطية كتبها أفلاطون، هي "المأدبة" و"فيدر" و"فيدون". وكانت غاية اريك ساتي من هذه الاختيارات أن يكثف في عمله ثلاث لحظات أساسية من حياة فيلسوف الاغريق الأكبر: لحظة مجده، لحظه شكه، وأخيراً لحظة موته. ولقد تعمد اريك ساتي، الذي لم يكن - في عاداته - متقشفاً في استخدام الأوركسترا والأصوات البشرية، تعمد أن يجعل من التقشف أسلوب عمل له في هذا الاوراتوريو، الذي سيقال لاحقاً انه انما كتبه بناء على طلب معين، ولم يكتبه من تلقائه، حتى وان كان قد عرف عنه خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته اهتماماً خاصاً بالفلسفة اليونانية، وكذلك بسقراط وأفلاطون على وجه الخصوص. إذاً، جعل اريك ساتي "سقراط" عملاً يؤدى فقط بواسطة أربعة أصوات "سوبرانو" وأوركسترا حجرة لا أكثر تتألف من عدد من الآلات محدود، مثل الناي والهوبوا، والكلارينيت، والبوق والترومبيت والهارب... الخ. ذلك انه قصد منذ البداية ألا يكون ثمة استخدام فخم لأوركسترا تصنيع الفكرة الرئيسية للعمل. لقد أراد هنا أن تكون الأفضلية للأصوات البشرية تدخل في حوار مع ألحان وجمل موسيقية، تبدو مشكلة لخلفية النص لا أكثر. والحقيقة أنه بمقدار ما نجح في الوصول الى هدفه هذا، من الناحية الفنية، أخفق في اقناع جمهوره، الذي كان يتوقع أشياء أخرى منه، بصواب اختياراته. ومن هنا كان عليه أن ينتظر اجيالاً مقبلة من الجمهور، لا تبالي كثيراً بموسيقاه الفرحة، على ضوء مآسي النصف الأول من القرن العشرين، لكي تفهم رسالته السقراطية... الواضحة، فكرياً وموسيقياً. في القسمين الأولين، من هذا العمل، الذي أتى مؤلفاً من أقسام ثلاثة، جعل اريك ساتي الإنشاد الفردي يتتالى مع الحوارات، على خلفية موسيقية حاضرة بقوة انما من دون أن يعبر عنه بتفاصيل أوركسترالية واضحة. أما القسم الثالث من "الاوراتوريو" فإنه أتى على شكل متتالية همها الوحيد أن تعبر عن موت الفيلسوف: متتالية بسيطة عميقة، تصف رحيل سقراط الطوعي في احتجاج شبه صامت على مجتمع وكيان لا يريدان أن يتركا مكاناً لفيلسوف يعبر عن احتجاجه ضد الفساد. والحال أن هذا البعد، هو الذي جعل القسم الثالث من "الأوراتوريو" يتخذ طابع المرثية، مبرراً في طريقه اطلاق ساتي على عمله اسم "دراما سيمفونية". لقد كان من شأن تخلي اريك ساتي عن الفخامة الجزلة التي كانت تطبع موسيقاه طوال عشرين عاماً سبقت كتابته هذا العمل، ان اظهر العمل كله في مسحة كلاسيكية، بل عتيقة تنتمي الى عصور سابقة، خصوصاً ان ساتي تفادى هنا أي لحظات هارمونية استثنائية ومفاجئة ليكتفي بألحان خلفية تؤديها أوركسترا متوسطة القوة من الناحية التعبيرية ومن ناحية النقلات الميلودية. وحتى مجمل الميلوديات التي كتبها ساتي كانت تبدو عتيقة، بل تكاد تبدو تكراراً لبعضها البعض في خفوت تأديتها، وانحصار الآلات التي تؤديها. غير ان هذا لم يمنع ساتي من استخدام ايقاع واضح كل الوضوح، واللجوء الى سلاسل لحنيه رباعية وسباعية، أعطت العمل طابعاً تأملياً خالصاً. ولقد أدى هذا كله الى جعل الموسيقى مكتفية بإضفاء عنصر تيماتيكي على العمل ككل يتجاهل الى حد ما التطور الدرامي الذي اعتمد، كبديل من هذا، على الانشاد نفسه، ذلك الانشاد الذي اعتمد بدوره على أحادية المقاطع الصوتية. حتى وإن كان النقاد قد استنكفوا، أول الأمر، عن الترحيب بهذا العمل، مثلهم في هذا مثل الجمهور العريض، فإن بعضهم رأى فيه أنه من أكثر الأعمال الموسيقية في ذلك الحين تعبيراً عن الروح الفرنسية، من دون أن يعني هذا الكلام مدحاً خاصاً، في زمن كان المدح يطاول "الروح الألمانية" في الموسيقى الأوركسترالية، و"الروح الايطالية" في الموسيقى الأوبرالية. ومع هذا كان ساتي 1866 - 1925 الذي كتب العمل وهو في الثانية والخمسين، غير آبه كثيراً بتلك الأحكام. فهو، في هذا العمل، قال ما كان يريد قوله، وأثبت ان في امكانه دائماً أن يجدد نفسه، فنياً، حتى ولو من طريق العودة الى القديم. وهو طالما قال بعد تقديم العمل للمرة الأولى انه انما أراد فيه أن يحيي سقراط وكل فكر حر، وانه واثق من أن سيقراط قد "أصغى الى التحية" و"هذا يسرني شخصياً، حتى ولو كان سقراط هو الوحيد الذي وصلته الرسالة".