يصل الزائر الى تونس فينتهب الخطى، ويحث مرافقيه على اغتنام الوقت، من أجل الوصول الأسرع الى تونس القديمة، فهذا الجزء هو ما يعني هذا الزائر الذي تلبسته حال التاريخ، فكأنه يتنفس الماضي، حيث يجد فيه مجداً يسليه عن واقع مرير. "ترشيش"، الاسم الروماني لتونس القديمة ذات سور منيع، بقي جزء منه، وله أبواب عدة منارة، الجزيرة، الفلة، البنات، العلوج، سعدون. أما أكبر الأبواب فهو باب فرنسا. ولذا فإن عالم فرنسا ذو حضور كبير ومؤثر في الثقافة التونسية فكرياً واجتماعياً، حتى داخل تونس القديمة، التي تحاول الحفاظ على هويتها من خلال مركز علمي حضاري لعب دوراً في التاريخ الثقافي لشمال إفريقيا. الوصول الى جامع الزيتونة يمر عبر أزقة تاريخية تنبض فيها حياة الحاضر، وتمتزج فيها صور الأصالة بالمعاصرة. بين الحوانيت القديمة المتراصة، والمملوءة بالملابس التقليدية، والصناعات الحرفية، تشاهد باباً صغيراً، تدلف من خلاله فتجد نفسك في ساحة جامع الزيتونة، وكأن هذا الأفق الرحب المتسع يمنحك شعوراً بسعة أفق الفكر الإسلامي في عصوره الأولى، الذي احتضن مدارس فقهية وفكرية متعددة، في حين ضيق بعض المسلمين اليوم هذا الفكر، فنتجت منه حال من الركود والركون، أو الحماسة والتطرف. في خطواتك عبر الساحة متجهاً الى المسجد، ترفرف فوق رأسك حمائم الوداعة والسلام، وقد تحييك بدفء تقذفه من علو، ولو لامس بعضه جزءاً منك، فذلك فأل خير، كما يراه أهل تلك الديار. المسجد فسيح من الداخل يغطي أرضه الحصير مطرد، وقد تم تخصيص جزء منه للنساء. وتكتشف أن الباب الرئيس الذي يليق بجلال الجامع يقع في الجهة الشرقية. تجاور المسجد المكتبة الوطنية بجزئها القديم، الذي يحوي الكثير من نفائس المخطوطات. حين مغادرة هذا الجامع العتيق الأنيق، وبعد المرور بأسواق مشابهة، يصل السائر الى ساحة القصبة، ومنها يشاهد المدرسة الصادقية، التي أسست في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين بدأ التواصل مع أوروبا، رغبة في تحديث التعليم، ونتيجة لعدم استجابة طائفة واسعة من التقليديين في الزيتونة للعلوم الحديثة. وهذا الأمر يذكرنا بدار العلوم القاهرية وظروف تأسيسها. وفي ساحة القصبة يوجد قصر الحكومة، وكأنه يمثل عامل فصل أو وصل، بين نوعين من التعليم. وحيث ان الجهة المقصودة مدينة سوسة، فإن "الإمام" يقود المسيرة اليها. يودعك، حين الخروج من تونس العاصمة، جبل بوقرنين على الشمال، وجبل الرصاص على اليمين، وهما يضعانك على طريق سريع يمتد مئة وخمسين كيلومتراً نحو الجنوب، يوصلك بعدها الى سوسة، تلك المدينة التي أطلق عليها قديماً اسم "حضرموت". مدينة تبدو غافية على الشاطئ، لكنها تضج بالحياة، وبالتواصل المعرفي والاجتماعي. أول ما يستحق الزيارة في سوسة، جامعها الكبير في وسط المدينة، الذي يشبه الى حد كبير جامع الزيتونة، وكذلك الرباط الشهير المجاور له، الذي انطلق منه أسد بن الفرات لفتح صقلية. الرباط حصن عسكري ذو سور منيع، تتوسطه من الداخل ساحة واسعة، وعلى جوانبه عشرات الغرف، "من فوقها غرف مبنية" تم تقسيمها بأحجام مختلفة، لتكون مخازن للمؤن والأسلحة. تم الحفاظ على الرباط في شكله التاريخي من الداخل والخارج. غير انه تم تحويل جزء منه الى متحف للفن الحديث، فتمازج فيه عبق التاريخ، وعمق الأصالة، مع مدارس الفن، من نحت وتشكيل، ورؤى حداثية. أما حين تصعد الى برجه الشامخ، وتقف في أعلى قمة فيه، فإنك تهيمن على المدينة كلها ببصرك، وتكتشف كم هي محظوظة بهذا الدفء حيث يحتضنها البحر، ويعانقها بحميمية من جانب، ويمنحها حرية لقاء العاشقين لها من الجانب الآخر. ومن بين المسجد والرباط يدلف المرء الى الأسواق، والأزقة العتيقة، فتفوح رائحة القرن الأول، وتمتد معها حكايات التاريخ لترتبط بالحاضر. هنا يجد المرء نفسه يقرأ تاريخه، يتأمل ماضيه، يتصفح حاضره. يسمح صوتاً محبباً الى النفس، قريباً من القلب "حي على الصلاة، حي على الفلاح". يجذبه الصوت عبر حوانيت العطارين، والصناعات التقليدية، والملابس التراثية، فيجد أمامه مكاناً راقياً، تمت تهيئته لمن جاء للتطهر الجسدي، ليتحول بعده الى بيت التطهير الروحي. كثيرون يدخلون ويخرجون، يريحون النفس ويملأونها بعبق الإيمان والتاريخ. والحياة تسير، والأزقة تزدحم بالرائح والغادي. تنطلق في اليوم التالي الى الجهة التي تكرمت بالدعوة والاستضافة العربية المتميزة. كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الوسط. يأسرك عميدها الهادي الجطلاوي بترحيبه وحفاوته، ويلفك رئيس قسم العربية عبدالمجيد المجذوب بوداعته خلقياً، مع صرامته علمياً. ويحيطك أعضاء القسم بحميمية وادعة، وتطلع الى مزيد من التلاقي المعرفي، والتلاقح الثقافي بين المغرب والمشرق. تحتفل الكلية بعرسها الأكاديمي، وهي تبدأ ندوتها العلمية الدولية حول "القيمة"، التي ينظمها قسم العربية في الكلية. يتساءل الباحثون عن أي معنى أراده القسم، فيجيب منسق الندوة محمد بوهلال عن هذه التساؤلات ويؤكد "ثراء المفهوم، وأن تعدد معاني القيمة وتطورها التاريخي يجعلان منها مفهوماً متحركاً قابلاً للتوظيف المتعدد بتعدد السياقات. وأن القيمة لا تنفك عن وعي الانسان بالوجود وبأفعاله، واختياراته. وهذه الندوة تتناول القيمة في الأدب شعراً ونثراً، وفي النقد والبلاغة واللسانيات والحضارة". وهذا ما حدث على مدى ثلاثة أيام، من خلال ثلاثين بحثاً لأساتذة العربية وحضارتها جلهم من المغرب، وبعضهم من المشرق. يدير الجلسة الأولى عبدالعزيز شبيل الباحث في عالم الأجناس الأدبية ترجمة وتأصيلاً، ويلتقي معه كاتب هذه السطور في تشابه الأسماء بين عالمي الإعجام والإهمال، وبين التعريف والتنكير. في تلك الجلسة نادى محسن التليلي بتبني رؤية معاصرة للتراث، وتقديم مشروع قراءة جديد. ويبدو أن كثيرين يتفقون معه قبل الدخول في التفاصيل. وتأتي نائلة السليني في الجلسة الأخيرة، لتلتقي مع التليلي، لكن برؤية رأى بعض الحضور أنها تمس بعض المسلمات. وهنا، يأتي السؤال الكبير حول إمكان التعامل بموضوعية علمية، كما تأمل الباحثة، مع الثابت المقدس؟ في الجلسة الثانية التي أدارها أحمد حيزم، الباحث المتعمق، الذي أخذ بناصيتي القديم والحديث، قدمت سعاد المانع رؤيتها النقدية حول المرأة والقيمة والخطاب من خلال كتاب "بلاغات النساء" لابن طيفور، وطرحت أسئلة منها سر ندرة هذا النوع من المؤلفات. في جلسات مختلفة كان للنحو حضور، تمثل بعضه في بحث أميرة غنيم التأصيلي حول القيمة الزمانية للنواسخ الفعلية، وبحث مها ناصر، الذي تناول القيمة المنطقية في الدلالة اللغوية النحوية. ويقدم الثنائي محمد النويري ونور الهدى باديس بحثين يركز الأول على الاستعارة والقيمة والخلود بين نصين لجميل بثينة ومحمود درويش، والثاني يتناول تحولات الخطاب الأدبي، وأثرها في مسألة القيمة. ويأخذ الشعر والنقد قديماً وحديثاً جزءاً من بحوث الندوة، من خلال بحوث أحمد الجوة، وموسى الربابعة، ورفيقة البحوري، وخليل موسى، ومحمود درابسة. وكان للرواية حضور في هذه الندوة، تمثل في بحوث محمد الخبو ونجيب العمامي والطاهر رواينية. أما القصة القصيرة فجاءت على استحياء في بحث واحد فقط، تناول قيمة الأرض في القصة القصيرة في الجزيرة العربية. وقدم أساتذة آخرون بحوثاً تناولت قضايا مختلفة ضمن إطار موضوع الندوة. وبعض البحوث "تدور على غير أسمائها" بحسب تعبير حسين الواد. نجحت الندوة في شمولية التناول من حيث الموضوعات، التي لامست بعمق جوانب من الفكر والأدب والتاريخ على مر الزمن العربي، خلال قرونه الخمسة عشر. غير ان القيمة الكبرى تمثلت في ما أثارته هذه البحوث من نقاشات علمية، يتسع مداها، فتخلق بالتالي أفكاراً جديدة، وتبعث على إنجاز بحوث أخرى. وكأنني أود لو أن موضوع الندوة ذاته عاد بعد سنوات، ليتم التواصل بين ما طرح سلفاً وما استجد من رؤى حاضرة ومستقبلية. مثل هذه الندوة بحضورها المشرقي، وإن لم يكن كبيراً، تثير التساؤل حول محدودية التواصل المشرقي المغربي، في الإطار المعرفي. وعلى رغم تكرار اللقاءات عبر الندوات واللقاءات الأكاديمية، إلا أنها لقاءات تؤنس أصحابها، وتذيب أي جليد موهوم لدى البعض، ويشعر الجميع بحميمية كبيرة، ويرددون "كلنا في الهم شرق". غير ان هذه الحرارة العلمية، أو الأنس المعرفي، لا يمتد كثيراً الى مستوى بحثي معرفي مشترك، وتواصل علمي وأكاديمي مستقبلي في الشكل المأمول. الكل يعد وقد يحاول، لكن النجاحات ليست كبيرة. وقد يقتنع المرء بأن المستوى الأكاديمي والطموح العلمي لدى أساتذة الجامعات في المشرق والمغرب، يصطدمان ببعض العقبات الإدارية. وهنا لا تصبح المسألة مشرقاً ومغرباً، بقدر ما تكون أيضاً في محاولة الخروج الى عالم أوسع من الدائرة الأكاديمية للجامعة الواحدة، وربما القطر الواحد، كما يعبر عن ذلك الكثير من أساتذة الجامعات العربية. وإذا كان بعض المغاربة يرون أنهم أكثر تواصلاً مع المشرق، فإنه لم يعد لكثير من المشرقيين تبرير في عدم التواصل، خصوصاً أن المتواصلين مع المغرب، يدركون القيمة المعرفية الكبرى، التي ينتجها باحثو المغرب العربي. ولعل في إصدارات كلية الآداب والعلوم الإنسانية في سوسة مثالاً إيجابياً لمثل هذا القول. فتحية تقدير لهذه الكلية ومنسوبيها، وتحية ود الى سوسةالمدينة. * أكاديمي سعودي ورئيس تحرير مجلة "نوافذ".