لم تعد القاعدة القديمة التي تقول إن الإنسان يستطيع الاستغناء عن المتعة والترف ولا يستطيع ان يستغني أبداً عن رغيف الخبز صالحة في أيامنا هذه. فحياة الناس في ايطاليا والشباب على وجه الخصوص تتجه الى تناول المثلجات اللذيذة يومياً. "الجلاتو" الإيطالية، او الآيس كريم كما يسميها العديد من شعوب العالم، او "البوظة" كما يسميها اللبنانيون او "الدوندرمة" كما يسميها العراقيون، اصبحت وجبة غذائية كاملة قادرة على التعويض عن رغيف الخبز. حياة الإنسان يمكن لها الاستمرار من دون رغيف الخبز الذي كانت تقف وراءه الحروب والثورات والفتن والآلام والإبداعات والاختراعات، التي يضاف الى قاموسها الطويل الجهد والعرق. و"الجلاتو" الذي يعيش عصره الذهبي حالياً بسبب موجة الدفء الزاحفة، اصبح بالنسبة الى الشبيبة هنا وجبة طعام رئيسية، تغذيها حروب البزنس العالمي الجديد لكسب المال عن طريق كسب الأذواق في زمن المتغيرات والاستهلاك وظاهرة الاهتمام برشاقة الجسد. انها حرب لا تقل ضراوة وكلفة وسجالاً عن الحروب الأخرى. وبعد ان دخلت على صناعتها الفواكه والخضروات والأجبان، تحولت "سندويشات" يأكلها بعضهم مع البسكويت وأنواع كثيرة من الكعك، وهي تمنح الشعور بالشبع من دون آثار جانبية. ووضع اصحاب محل لبيع "الجلاتو" اسم "فياغرا" على لافتة للاعلان عن نوع جديد منشط جنسياً ويخصص بيعه للبالغين فقط . وأقسم البائع ل "الحياة" ان مسحوق "الحبة الزرقاء" مخلوط في هذا الصنف الذي يصنع على شكل أقراص رقيقة دائرية تقسم أربعة أقسام بطعم الفواكه الطبيعية من دون إضافة اية نكهات صناعية، ويرتفع سعرها الى اكثر من 3 دولارات، وما على المرء الا ان يشاهد طوابير الرجال في قلب العاصمة الإيطالية. "الجلاتو" يرطب الجسد صيفاً، ويحميه بسعراته الحرارية العالية شتاء. وفي مدينة "تروبيا" في إقليم كالابريا الجنوبي، يتدافع الناس لتذوق "الجلاتو" بنكهة بصل المدينة الأحمر القاني ذي المذاق الحلو الذي يعادل سعره سعر التفاح. أما في مدينة رافينا الشمالية، فيصنع "الجلاتو" مع عدد من أنواع الجبن والفطر والرز، فيما تتميز منطقة "ريميني" بنكهات الخيار والجزر والكوسى وأنواع متعددة من الخضروات الأخرى. ويتفنن الإيطاليون الذين يعتبرون أنفسهم ورثة عرب صقلية، في صناعة الآيس كريم بإضافة مواد جديدة من مبتكراتهم، مثيرة للشهية والفضول والجدل في أحيان كثيرة. وآخر ابداعاتهم إضافة مادة "النيتروجين" السائل التي تجعل المزيج يتمتع ببرودة كبيرة ويخلق فقاعات هوائية بداخله. ويعود تاريخ صناعة الآيس كريم الى الإغريق والرومان الذين كانوا يتناولونه بعد وجبات الطعام الدسمة كنوع من المهضمات، فكانوا يعصرون الفواكه او يقطعونها ويخلطونها مع العسل وحبيبات الثلج المتساقطة في الشتاء. الا ان الايطاليين يؤكدون ان عرب صقلية هم أول من اهتم بصناعة الآيس كريم التي جلبوها معهم من بغداد، اذ كان عدد من الطهاة يخزنون كميات كبيرة من الثلج المتساقط في فصل الشتاء داخل المغارات الجبلية المنتشرة في الجزيرة. وفي فصل الصيف تستخرج كميات من هذا المخزون لتخلط مع العسل او السكر، أو مع عصير الفواكه لتقدم كمرطب لذيذ يقبل عليه الكبار والصغار. ومن صقلية نقلها الطهاة العرب الى بلاد الأندلس ومنها الى العديد من بلدان أوربا. وفي السنوات الخمس الأخيرة ازدادت مصانع الآيس كريم في ايطاليا لتصل الى اكثر من 25 ألفاً. وتأسست إضافة الى المدارس المهنية الصغيرة لتدريب الطهاة وأصحاب المقاهي على كيفية صناعة هذا المرطب، أكاديمية الآيس كريم في روما عام 1996 وهي تصدر مجلة شهرية متخصصة تتضمن آخر المبتكرات الذوقية وآخر الصرعات ولقاءات مع المبتكرين، وأسماء وعناوين افضل المنتجات الجديدة داخل البلاد وخارجها، كما تنظم الأكاديمية، التي تمنح شهادة الدبلوم لمنتسبيها الشباب القادمين من جميع المدن الإيطالية والأوروبية بعد فترة دراسة تمتد ستة اشهر، العديد من المسابقات المحلية والدولية، وتمنح الجوائز والشهادات وتقيم المهرجانات السنوية. ومعدل استهلاك الفرد الإيطالي من الآيس كريم 10 كيلو غرامات كل عام، وهو نوع جديد من ال "بزنس" يدر أرباحا تقدر بأكثر من سبعة مليار دولارات سنوياً. وتحذر مجلة "الجلاتو الإيطالي" المستهلكين من ضرورة التفريق بين الأنواع التجارية المنتجة في المصانع الكبيرة، وتلك الأنواع التي تصنع من قبل الحرفيين والتي تتمتع عادة بمذاق أطيب، وتنوع يحمل فنتازيا متجددة ترضي أذواق الجميع. ويقول فرانشيسكو كوري صاحب اشهر محل "جلاتو" في مدينة افيتزانو القريبة من روما ان "الشباب يطلب باستمرار أنواعاً جديدة مبتكرة من الآيس كريم، وهذا سبب يدفعنا للتفتيش والبحث عما يستجد في عالم هذا المرطب الذي نبيع منه كميات كبيرة في جميع فصول السنة، الا اننا لم نفلح بخلطها مع الجبن أو السمك أو الكمى او الفطر كما يفعل أهل الشمال لأنني وبصراحة لا استذوق ذلك على الإطلاق، فقد اعتدنا هنا على انواع مرتبطة بالفواكه وبعض البقوليات كالفاصوليا والحمص والباقلاء، وجميع الانواع التي نقدمها لا تتجاوز العشرين نوعاً، وهي ترضي جميع الاذواق من عملائنا من كل الاعمار". أما الشابة باولا بروتكيني 22 عاماً فهي تكتفي بوجبة طعام واحدة في اليوم ، في البيت او في مطعم الجامعة. اما في المساء فقد اعتادت مع أصدقائها من جامعة لاكويلا تناول وجبة من الآيس كريم للحفاظ على رشاقة جسدها، وهي تجد بهذه الوجبة التي تستبدلها يومياً، من محلات متعددة في المدينة، كفايتها الغذائية، "لأنها ارخص نسبياً من طبق البيتزا او الهامبورغر الذي نمقته جداً".