من قاعدة "السيلية" في قطر حدد الرئيس جورج بوش رؤيته السياسية والأمنية والاقتصادية بالنسبة لمستقبل العراقيين ومستقبل الولاياتالمتحدة في العراق. قال ان أولويات الادارة الاميركية تبدأ بإطعام الجياع وتأمين الدواء ومساعدة المحتاجين قبل المباشرة بتشكيل الحكومة. والمؤكد انه نقل هذا التصور عن موفده رئيس عملية اعادة إعمار العراق السفير بول بريمر الذي أرجأ قرار تأليف الحكومة التمثيلية الى ما بعد توفير الخدمات الاساسية وتثبيت عودة القانون والنظام. وقد تعهد بعض القضاة واساتذة القانون مثل فؤاد جواد رضا ومنعم الخطيب وسرميد الصراف ورقية القيسي بصوغ مشاريع قوانين تخدم الخطة الانتقالية وتكون بمثابة المرشد القضائي أثناء اصلاح مؤسسات الدولة المنهارة. أما بالنسبة للسؤال المتعلق بتوقيت نهاية الاحتلال الاميركي للعراق فقد ربط الرئيس بوش هذا التاريخ بمدى التقدم الذي تحرزه العملية الديموقراطية. ولم يتردد في الإعلان ان القوات الاميركية باقية الى حين إكمال مهمتها الهادفة الى بناء نظام ديموقراطي يحميه الاستقرار والسلام والأمن. ومن المفترض ان تستغرق عملية التحول وقتاً طويلاً جداً، خصوصاً اذا كانت واشنطن مزمعة على جعل العراق نموذجاً للدولة القدوة بين دول الشرق الأوسط. ماذا يعني جورج بوش بالقول انه عازم على بناء ديموقراطية مستقرة في العراق... وما هي الخطوات التي سيعتمدها في سبيل تحقيق هذا الهدف؟ يختلف رجال الإدارة الاميركية حول الرؤية السياسية لدور العراق، وحول اختيار عناصر التنفيذ خلال المرحلة الانتقالية. ومع ان الكل متفق على ضرورة بناء نظام جديد، إلا ان الخلاف يتركز على تحديد المدة المطلوبة لإشراف القوات الاميركية على برنامج التغيير. فالوزير كولن باول يرى ان العراق لم يعد يمثل قوة التهديد لمصالح الولاياتالمتحدة وأمن اسرائيل، لذلك من الأجدى تكليف الأممالمتحدة بمهمات الاشراف على بناء الادارات المدنية، وعلى معالجة القضايا الانسانية والخدمات الاجتماعية. ومع ان التعاطف مع هذا التيار مقتصر على شلة صغيرة داخل الادارة، إلا ان منطقه أقنع غالبية رجال الكونغرس ممن يعتقدون بأن عملية التحول ستكون مكلفة جداً، مادياً وبشرياً. وفي تصورهم ان مراحل الاستقرار في العراق أمنها الحكام الطغاة من أمثال صدام حسين وليس الحكام الضعفاء من أمثال الملك فيصل الثاني. واستناداً الى هذه الخلفية يرى فريق كولن باول ان القوات الاميركية لن تنجح في ضبط الأمن وتوفير أجواء الاستقرار، الا إذا تحولت الى قوة احتلال، الأمر الذي يعرضها لمواجهة مقاومة شرسة شبيهة بمقاومة الجزائريين للاستعمار الفرنسي. الفريق المعارض لهذا المنطق يقول ان انسحاب القوات الاميركية قبل تثبيت النظام سيؤدي الى مزيد من الفوضى، والى عودة حزب البعث لملء الفراغ الأمني. ومن التوقعات المحتملة ان تقود حال الفوضى الى اندلاع حرب أهلية بشعارات طائفية وعنصرية وانفصالية قد تجر الى تدخل تركياوايران وسورية بهدف منع امتداد النيران داخل تخومها. ولهذا يرى الفريق المعارض للانسحاب المبكر انه من الظلم اتهام العراقيين برفض ممارسة الديموقراطية، وبالتمرد على كل حاكم مسالم لا يستخدم البطش وسيلة من أجل فرض الاستقرار والأمن. وحجتهم ان هامش الحرية الذي أُعطي للشعب العراقي خلال الفترة الممتدة من سنة 1921 حتى سنة 1958 كان وسيعاً بالقياس الى أنظمة حكم أخرى في العالم العربي. والدليل على ذلك ان جميع الأحزاب السياسية كانت ممثلة في البرلمان بمن فيها اليساري واليميني... القومي والانعزالي. وكانت المعارضة تنتقد النظام والحكومة من دون ان تخشى انتقام السلطة أو محاسبتها. صحيح ان القصر كان يرسم جدول أعمال الدولة... ولكن الصحيح ايضاً ان نواب المعارضة نجحوا مراراً في تعطيل البرامج الرسمية. وكما وظف لبنان تعددية مذاهبه وتنوع اتجاهاتها لصوغ ميثاق متوازن خدم اكثر من ثلاثين سنة، كذلك وظف العراق تعددية مذاهبه وتنوع أعراقه لخدمة 37 سنة من الاستقرار النسبي. ويقدم الفريق المطالب بضرورة إطالة فترة الوجود العسكري الاميركي، صورة صحافة ذلك الزمان كدليل على ممارسة الحرية الصحافية. والمعروف انه قبل ثورة 1958 صدرت في بغداد والموصل والبصرة أكثر من 23 صحيفة بينها: البلاد روفائيل بطي والزمان فائق السمعاني والأهالي كامل الجادرجي وحسين جميل والأخبار جوزيف مالكوم والشعب قاسم حسن واليقظة سلمان الصفواني والرأي العام محمد مهدي الجواهري والاستقلال البدري. في حين ان الصحف التي انتشرت إبان حكم صدام حسين كانت قليلة جداً ولم يكن للشعب فيها أي رأي سوى رأي النظام مثل "الثورة" و"الجمهورية" وجريدة "بابل" لعدي صدام حسين، والملفت ان البث التلفزيوني في العراق كان متقدماً عن أي بلد عربي آخر بما فيها مصر ولبنان. ذلك ان عملية البث بدأت سنة 1954 بعدما عرضت احدى الشركات البريطانية أول جهاز ارسال في المعرض التجاري ببغداد. في ضوء هذه الوقائع يقول الحاكم المدني الاميركي السفير بول بريمر ان برنامج إعادة البناء يعتمد في الاساس على العنصر البشري، وعلى استعداد الشعب لإحياء المؤسسات السياسية. وهو يتوقع استكمال المرحلة الانتقالية خلال مدة أقصاها ثلاث سنوات، على اعتبار ان المانيا واليابان خرجتا من حال الدمار والفقر خلال مدة لا تزيد على خمس سنوات. ومع انه اعترف بارتكاب بعض الأخطاء لأنه حل وزارتي الاعلام والدفاع، إلا انه لم يعترف بالأخطاء الأخرى يوم أفرغ كل المؤسسات الرسمية من الموظفين. وهكذا دفع كل المطرودين الى التعاون سراً مع فلول حزب "البعث"، الأمر الذي زاد من عدد عصابات النهب والسلب، وجعل جنود الاحتلال هدفاً لرصاص القناصة في بغداد والموصل والبصرة وكربلاء والنجف. ويقول في دفاعه عن هذا القرار ان غالبية الشعب رفضت التعاون مع عناصر النظام السابق، وان المتضررين راحوا ينتقمون ويغتالون بطريقة عشوائية زادت من حدة الفلتان الأمني. لهذا السبب وسواه اضطر الى تفريغ كل المؤسسات الرسمية على أمل استبدالها بعناصر جديدة يصعب انتقاؤها حسب المواصفات المطلوبة. ولكنه فوجئ بوجود أزمة كفاءات لأن هناك ما يزيد على أربعة ملايين عراقي هاجروا خلال العشرين سنة الماضية. وهم يشترطون مقابل اخلاء مواقعهم المتقدمة في أوروبا والولاياتالمتحدة الانتقال الى وطن ديموقراطي مستقر قادر على استيعاب هذه الاعداد الضخمة من الأطباء والمهندسين والاقتصاديين والتجار. والملاحظ انهم يتماثلون في هذا المطلب مع المهاجرين اللبنانيين الجدد اكثر من مليون نسمة الذين يربطون عودتهم ببناء وطن سيد حرّ تتوافر فيه ظروف العمل من دون محسوبية أو استزلام. يبقى السؤال المتعلق بتصور الإدارة الاميركية لشكل النظام الديموقراطي الذي تعده للعراق مجموعة من الاكاديميين وخبراء القانون والإدارة بالإشتراك مع بعض المحامين العراقيين في الخارج. وقد ظهرت في الدراسة الأولى بعض العناوين الرئيسية، منها: أولاً- انشاء نظام فيديرالي. وتعتمد الدراسة في تحليلها على تجربة الاكراد في الشمال وكيف ساعدهم الابتعاد عن مركزية بغداد وضغوطها، على الاستفادة من منطقة الحظر الجوي لبناء مجتمع اكثر تحرراً واكثر بحبوحة. وفي تطرقها الى التنوع العرقي والمذهبي تركز الدراسة على اهمية بناء منظومة يشترك فيها الشيعة والسنة والاكراد والتركمان والكلدان والاشوريون والمسيحيون وسائر المذاهب الاخرى. ويتوقع المنظرون استغلال هذا الموزاييك الثقافي الاجتماعي لوضع نظام دستوري مستوحى من التنوع باعتباره عامل تغيير ايجابي. ويخضع هذا التنظيم الجديد الى تشكيل فيديرالية قائمة على الاقتسام المتساوي بين 18 محافظة. وكل محافظة معنية بانتخاب مجلس محلي يكون فيه الاعضاء ممثلين في مجلس الاعيان. وهذا يعني استبعاد فكرة الفيديرالية الثلاثية التي راجت سنة 1991 بهدف خلق اتحاد قوامه الشيعة في الجنوب والسنة في الوسط والاكراد في الشمال. وتلحظ الدراسة ان الاتحاد الفيديرالي الثلاثي يعزّز فكرة المذهبية والتقوقع ويسعى الى فرض نظرية التنظيف العرقي، الامر الذي يؤدي الى الطرد الجماعي والانفصال والتناحر. وكما حدث في النظام الفيديرالي في المانيا وروسيا سيُصار الى انشاء محكمة اتحادية تنحصر مهمتها في مراقبة توزيع الثروة بين العاصمة والمحافظات. وكل تعديل في مهمة هذه المحكمة يجب ان يحصل على موافقة رئيس الدولة وغالبية اعضاء مجلس النواب واعضاء مجلس الاعيان. ثانياً - رئاسة البلاد ورئاسة الحكومة: تشير الدراسة الى حدوث انقسام بين المشتغلين في اعداد مسودة اقتراحات النظام الجديد. فريق يطالب بعودة الملكية شرط ان تكون رمزية ومقيّدة مثل الملكية في بريطانيا. ولكنها في نظره توفر الاطمئنان للفريق السني الذي تفوقت عليه الاكثرية العددية لدى الشيعة 60 في المئة. كما توفّر لحكّام الخليج شيئاً من التطمين على اعتبار ان العراق عاد الى نادي حكام الوراثة ولم يعد يمثّل ما يمثّله عراق صدام حسين او ايران الجمهورية الثورية. ولكن هذا الطرح لم يجد الصدى المستحب لأن الملكية في العراق فشلت في ان تكون قوة استقطاب وتوحيد. صحيح ان الوصول المتأخر للشريف علي بن الحسين رئيس الحركة الملكية الدستورية قوبل بالترحاب والهتافات… ولكن الصحيح ايضاً ان غياب الملكية مدة 35 سنة عن العراق جعلت المطالب بالعرش رمزاً قديماً مثل الملك الأفغاني السابق ظاهر شاه. وحده الملك البلغاري المخلوع سيميون الثاني نجح في إعادة الاعتبار لنفسه وليس للملكية التي دُفنت مع والده. الفريق الآخر أيّد الطرح الذي اختارته البوسنة كحل لانهاء الحرب الاهلية يوم انتخبت مجلساً رئاسياً مؤلفاً من ثلاثة اشخاص يمثلون مختلف المجموعات العرقية. واقترح انتخاب مجلس رئاسي ثلاثي مؤلف من ممثل للشيعة وآخر للسنة وثالث للاكراد. ومثل هذا الحل قدّمه اثناء الحرب اللبنانية الدكتور مانويل يونس الذي طالب بمجلس رئاسي مؤلف من ستة اشخاص يمثلون الطوائف الست الكبرى في لبنان. وتشترط الدراسة الاميركية، ان يكون انتخاب المجلس الرئاسي العراقي بواسطة البرلمان، وان تكون السلطات التنفيذية محصورة برئيس الوزراء المنتخب مباشرة من الشعب، كما في اسرائيل والمانيا وهنغاريا وايطاليا. والسبب في اضعاف سلطة رؤساء الجمهورية الثلاثة هو الخوف من الاستقواء بالخارج كأن يمدّ الرئيس الشيعي جسور التعاون مع ايران… او كأن يتّكل الرئيس الكردي على أنصاره في تركيا او ايران او سورية. وعليه ترى الدراسة ان توزيع السلطة بين مجلس رئاسي ضعيف ورئيس وزراء تنفيذي مقيد بالسلطة التشريعية يمكن ان ينقل الخلافات من الشارع الى البرلمان. وضمن هذا الاطار تتخيل الادارة الاميركية ان النظام الجديد يمكن ان يؤمن عمل الديموقراطية بصورة دستورية منتظمة. والمؤسف ان هذا الحل المبسط لمشكلة بالغة التعقيد قد تجاهل معالجة القضايا المعيشية الملحة والتي نقلت العراقيين من الشوارع الى الكنائس والجوامع. * كاتب وصحافي لبناني.