تجمع خبراء الآثار والعاديات في لندن يوم 29 نيسان ابريل 2003 لجرد الخسائر الأثرية لمتحف العراق الوطني في بغداد. وكان عنوان المؤتمر "المساندة الدولية لمتاحف العراق"، في اشارة واضحة تكررت اثناء المؤتمر الى أن المجتمع الدولي تعهد حماية التراث العراقي. وتعد حالات السرقة والنهب التي شهدها المتحف من أفظع مآسي العراق، ومآسيه لا تعد ولا تحصى... ينظر العالم الى العراق وأحواله تتقلب يوماً بعد يوم... الحاضر صعب والمستقبل مجهول... حتى الماضي لم يسلم... كان هدف التجمع الطارئ هو تنظيم المساعي لاعانة متحف بغداد على السيطرة على الفوضى التي تعمه، وبحث كيفية التوصل الى القطع المسروقة واعادتها الى العراق. وكان لافتاً حضور الدكتور دوني جورج، مدير عام الدراسات والبحوث في الهيئة العامة للأثار والتراث العراقية، الذي أتى من بغداد ليشرح تفاصيل الاحداث التي أدت الى نهب المتحف وليتشاور مع زملائه من مختلف دول العالم. ورافقه في رحلته من بغداد البروفسور نيل مكغريغر، مدير عام المتحف البريطاني، الذي ذهب الى بغداد الاسبوع الماضي ليتفقد المتحف بنفسه. وكان المتحف البريطاني من أوائل المؤسسات التي أبدت رغبة في المساهمة بجهود "منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة" يونيسكو لحماية التراث العراقي وآثاره، علماً ان المتحف البريطاني يمتلك اكبر مجموعة من الآثار العراقية خارج العراق. ومثّلت الحكومة البريطانية في المؤتمر وزيرة الثقافة والرياضة والاعلام تيسي غاول، وأبدت دعماً للجهود المبذولة من "يونيسكو" والمتاحف العالمية، وأكدت سعيها لمنع دخول الأثار المسروقة الى المملكة المتحدة. وصرحت بأن الحكومة البريطانية رصدت 300 مليون جنيه استرليني لاعادة اعمار العراق، وان جزءاً من هذه الاموال سيخصص بالاتفاق مع الولاياتالمتحدة لاعادة اعمار المتاحف العراقية. وخلال مؤتمر صحافي حاشد، روى دوني احداث يوم 8 نيسان 2003، حينما كانت بغداد تشهد دخول القوات الاميركية وانفلات الأمن إذ "تبخرت" السلطة العراقية واضطر العاملون في المتحف الى تركه خوفاً من اطلاق النيران بين ميليشيات تدافع عن النظام السابق، دخلت الى حدائق المتحف، والدبابات الاميركية. وعندما خلا المتحف العراقي من المسؤولين عن امنه فتحت ابوابه أمام السارقين. بعضهم محترف وباحث عن تحف محددة، وغيرهم جاهل قيمة ما يسرقه أو يدمره. ووصف الدكتور دوني ما حدث ب"جريمة القرن ... لأن ما نُهب ليس مُلك العراقيين وحدهم، بل مُلك البشرية كلها". وعندما تسأل الحضور عن المسؤولين عن عمليات السرقة والتدمير، يرد الدكتور دوني تكراراً: "اننا لا نعلم شيئاً... كل شيء غامض الآن". سرقة 120 غرفة وذكر دوني ان السارقين دخلوا نحو 120 غرفة في المتحف، وما لم يسرقوه، كسّروه ونثروا الوثائق والسجلات على الأرض، ما يجعل عملية جرد ما سُرق صعبة جداً على المسؤولين في المتحف. وعلى رغم ان المتحف مغلق الآن وعمليات الجرد ستستغرق اشهراً طويلة، إلا ان دوني قال انه يتوقع ان 75 في المئة من القطع الأثرية في المتحف التي يتجاوز عددها 170 الف قطعة، سلمت من النهب والتحطيم. ولكنه شدد على ان المعلومات ما زالت محدودة جداً، إذ ان الأرقام في هذه الحالات لا تعني الكثير. وفي حديث خاص ل"الحياة"، ردد الدكتور دوني ان الجنود الاميركيين كانوا على بعد 50 متراً، ورفضوا ان يحموا المتحف حينما استنجد بهم العاملون فيه، وناشدوهم ان يمنعوا اقتحامه "ففي وقتها لم يكن موجوداً عراقي واحد يستطيع حماية المتحف، بل كانت هناك دبابات اميركية ولكنها لم تحمه. وامام اعينهم دخل السارقون ولم يفعلوا شيئاً". واصر الجنود على انهم لا يستطيعون ان يحموا المتحف من دون أوامر. ولكن بعد انتظار 4 أيام، حينما حاول العاملون حراسة المتحف أتى الجنود ليحرسوه. وأكد دوني "عندنا حماية كاملة الآن لكل مجمع المتحف على مدار 24 ساعة". وذكر ان موظفي المتحف قاموا بتخبئة الكثير من القطع والمستندات قبل الحرب، وان هذه الاشياء ما زالت محمية وسلمت من أي اذى. وبالنسبة الى المتاحف العراقية الأخرى، مثل متحف الموصل، أسف الدكتور دوني أن ليس لديه أي معلومات عنها بسبب انقطاع الاتصالات الداخلية. ولكنه قال ان "متحف الموصل ضُرب بقذيفة، وسمعنا انه سُرق ايضاً. ولكنني انوي التنسيق مع ادارة الشؤون المدنية الاميركية وهم يطلبون منا الأن ان نحدد لهم احتياجاتنا. وأنوي أخذ سيارات منهم لنذهب الى الموصل وندقق في ما حصل هناك". ولكنه شرح انه بعد قيام شيوخ الموصل باتفاق مع القوات الاميركية بتسليم المدينة من دون قتال، أخلّت القوات الاميركية بالوعد... ودخلت القوات الكردية لمدة يومين، فسرقت ونهبت وأحرقت بعد ذلك دخلت القوات الاميركية". وعلى رغم اصرار بعض الحاضرين على تحميل قوات التحالف مسؤولية الأذى الذي أُلحق بالمتحف، قال منير بوشناقي، مساعد الامين العام ل"يونيسكو"، في حديث الى "الحياة" ان "الوضع الحالي في العراق صعب وغير دقيق... لهذا من الصعب على منظمة مثل يونيسكو ان تعطي تصريحات عن مسؤولية ما جرى. ولكن المدير العام ليونيسكو قرر ارسال بعثة خبراء ليتفقدوا الامر، وبناءً على تقريرهم ستتخذ إجراءات معينة". ورداً على سؤال عن دور الدول المجاورة للعراق في حراسة حدودها مع العراق والتفتيش عن الأثار المسروقة، قال بوشناقي: "كتبت شخصياً الى كل وزراء الثقافة للدول المجاورة للعراق، وهم ابدوا تجاوباً. وشددت عليهم ليحرضوا على وزارات داخليتهم ليمنعوا دخول أي آثار عراقية عبر حدودهم". وأضاف انه اجتمع مع سفراء الدول المجاورة الذين أبدوا تعاوناً في السعي لاعادة المسروقات الى العراق. غياب الرقابة في هذا الإطار نبه دوني الى أن الحدود العراقية مفتوحة من دون أي رقابة أو تفتيش على ما يخرج من البلد. وان هذه قد تشكل كارثة لأن من السهل تهريب الاثار التي نهبت. وشرح انه غادر العراق من طريق الأردن، وان قوات التحالف التي كانت على الحدود العراقية لم تفتش المسافرين، وطلبت النظر الى جوازات السفر فقط. ولكن السلطات الاردنية كانت أكثر حذراً وحصلت على 12 حقيبة مملوءة بالوثائق والآثار المهربة. وحمّل قوات التحالف مسؤولية الاثار التي تُهرب، والقى باللوم على بعض الصحافيين الذين يُخرجون هذه الأثار والمسروقات معهم. وكان عتبه الاكبر على القوى العراقية "وقسم منها لديه قوات مسلحة، هم عراقيون، لو تركوا الاثار كما يحصل الآن، يعني ذلك ان الاثار ستخرج من البلد وتحصل فوضى، المفروض على كل واحد ان يحمي عراقه. الحكومة العراقية ذهبت، لكن العراق باق للعراقيين". وبسبب الفوضى التي تعم العراق وخصوصاً المتحف العراقي، لا يستطيع احد ان يحدد القطع الاثرية التي فُقدت، ولكن المتحف العراقي، بالعمل مع "يونيسكو" والشرطة الدولية "انتربول"، وزّع لائحة مختصرة من 20 قطعة سُرقت، وهي من أهم ممتلكات المتحف. وقال دوني ان أهم القطع التي سُرقت هي إناء الوركاء، الذي "لا يقدر بثمن يعود الى ما قبل 3200 - 3500 قبل الميلاد. وهو إناء عقائدي، رمزي، منحوت بمشاهد ترمز الى درجات الكائنات على الارض... هو شيء رائع جداً". وعلى رغم الدمار الذي أُلحق بالمتحف، والحزن الذي يعيشه الدكتور دوني، وكل من يهتم بالتاريخ والحضارة، الا ان هناك بوادر جيدة تدعو الى الأمل. فمن جهة، أبدت الدول التي كانت ممثلة في مؤتمر المتحف البريطاني، حماسة لمساعدة العراق لترميم متاحفه والسعي الى العثور على أثاره المنهوبة. ومن جهة أخرى، وربما الأهم، روى دوني ل"الحياة" قصصاً عن عراقيين يعيدون قطعاً من المتحف "هذا يحصل يومياً. وبداية نسّقنا مع حسينية وجامع في المنطقة. وناشدناهما المساعدة. وبدأ الناس يعيدون الآثار الى الشيوخ الذين أعادوها الى المتحف. واذاعت قناة الراديو التابعة لقوات التحالف ان هذه التحف لا بد من ان تعود الى المتحف، من دون ان يُحاسب اي شخص اخذها سابقاً. وتجاوب العراقيون مع هذه التصريحات. ومن القطع التي أعيدت قطعة نحاس تعود الى قبل 4000 عام". وتعمل الآن منظمات مع متاحف وخبراء من مختلف انحاء العالم للعثور على القطع المسروقة وترميم المتاحف العراقية. وأهم أنجاز لمؤتمر "المساندة الدولية لمتاحف العراق" هو ان الدكتور دوني عاد الى العراق مع انباء لزملائه هناك أنهم ليسوا وحيدين في المشقة التي تواجههم لاسترجاع "تراث البشرية" كما سمى البروفسور مكغرغور تراث العراق.