من البداية جعل صمويل هنتنغتون "صدام الحضارات" حتمية "لا مفر منها، فهي تشكل مستقبل العالم. ولتأكيد أفكاره فسر التاريخ بحسب وجهة نظره، وأعاد ترتيب حوادثه ليحشر مرحلة "صدام الحضارات" في التطور التاريخي. ونلاحظ انه لم يستخدم الديانة كمعيار حضاري إلا عندما جاء على ذكر الحضارة الإسلامية. فجعل للإسلام حدوداً دامية. فالإسلام، كما يدعي، ولع بالعنف منذ ظهوره، والقرون الماضية في تاريخ الإسلام كلها صراع وعنف مع أطرافه الخارجية وبين أجزائه الداخلية. وليقنع القارئ اختار حوادث من هنا وهناك بطريقة انتقائية وتجاهل الحروب الطاحنة التي كانت ولا تزال بين الكاثوليك والبروتستانت مثلاً. وكتاب "صدام الحضارات" يستهدف المسلمين بالدرجة الأولى، وبالأخص العرب. فالعامل الديني ليس إلا واجهة تستخدمها الأطراف الداخلية لحساب قوى خارجية. وإذا كان الأمر كما يدعي هنتنغتون، لماذا لم يستخدم العامل الديني لتحرير فلسطين؟ والإسلام ليس مسؤولاً، ولا مشاركاً في الجرائم لتي ارتكبت بحق الإنسانية في "قرن المذابح المليونية"، كما يسميه بريجنسكي. فالذين قتلوا في حروب القرن العشرين يعدون حوالى 87 مليون نسمة، غير المشوهين والمعوقين... وهؤلاء مسؤولية الحضارة الغربية وليس للإسلام علاقة بقتلهم. والصراع في "صدام الحضارات" هو مصلحة للغرب، فالصراع ليس صراع ثقافات، ولا صداماً بين الأديان. فالأديان لا تتحرك وحدها بل لا بد من أن يحركها محرك. فالحروب القبلية والصراعات العرقية والاثنية هي من صنع واعداد واخراج الغرب وأميركا. فالغرب وأميركا هو الذي صنع قابلية التصعيد، فشدة الصراع الدامي بين القبائل الأفريقية في رواندا، انعكست على أوغندا وزائير وبوروندي والكونغو والسودان، عبر فرنسا وأميركا. والتغيير في توازن القوى بين الحضارات يجعل صعباً على الغرب تحقيق أهدافه. ولكي يقلل خسائره عليه أن يتصرف بمهارة فائقة في المصادر الاقتصادية، واستخدام هذه المصادر الجزرة والعصا في التعامل مع المجتمعات الأخرى في توظيف دولة غربية ضد دولة غربية. ولا تتدخل الدول الأساسية مباشرة في صراع الحضارات الأخرى، بل تقوم بدور الوسيط، وتتفاوض مع كل طرف من الأطراف للاحتواء، أو لاحتواء الصدع بين دول أو جماعات من حضارتها. وتقوم بتوسيع القيم والمؤسسات والمممارسات المشتركة مع شعوب الحضارات الأخرى. وتظل خصوصية الحضارة الغربية الأميركية انها الدولة الأساسية الأقوى في الحضارة الغربية. والخلاصة أن رؤيا المستقبل، كما يريدها الغرب وأميركا، تسعى الى الهيمنة على العالم، واحتواء شعوب العالم ودمجها في أنماط تابعة للمركز الرأسمالي العالمي وفق مصالحه باسم المقاربات الإيديولوجية، وبمنهجية خطط لها بأساليب تبدو في إطارها العام براقة، وتبعث الأمل والطمأنينة في نفوس المتعطشين الى الحرية، ومنهكي الفكر، ومظلومي العالم. باريس - د غسان الصافي [email protected]