مهرجان الحريد    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع "كوليبالي"    مشروعات غطاء نباتي ومكافحة التصحر.. أمير الشرقية يدشن منتدى «الاستثمار البيئي»    محافظ الطائف يناقش إطلاق الملتقى العالمي الأول للورد والنباتات العطرية    حتى لا نفقد درراً !    رؤية المملكة 2030 في عامها الثامن    «رؤى المدينة» و«هيلتون» يوقعان اتفاقية لافتتاح ثلاثة فنادق    «أكواليا» تستعرض جهودها في إدارة موارد المياه    "القروض الخضراء" لتمويل المشروعات صديقة البيئة    "تاسي" أخضر و7 صفقات خاصة ب318 مليونا    "سلمان للإغاثة" يُدشِّن البرنامج الطبي التطوعي لجراحة القلب المفتوح والقسطرة بالجمهورية اليمنية    الاحتلال يواصل قصف المدن الفلسطينية    البحث عن حمار هارب يشغل مواقع التواصل    تأملاّيه سياسية في الحالة العربية    انطلاق تمرين "الموج الأحمر 7" بالأسطول الغربي    القيم تتصدع في غزة    يوفنتوس يتعادل مع روما في الدوري الإيطالي    في مؤجلة من الجولة ال 28.. الأهلي يستقبل الهلال في كلاسيكو الجوهرة    "جاياردو" على رادار 3 أندية أوروبية    في انطلاق الجولة 31 من " يلو".. القادسية يسعى للصعود من بوابة " أحد".. والبكيرية يواجه العدالة    إبعاد "حكام نخبة أوروبا" عن روشن؟.. القاسم يردّ    أمراء ومسؤولون وقيادات عسكرية يعزون آل العنقاوي في الفريق طلال    العوفي يحتفل بزفاف نجله حسن    باسم يحتفل بعقد قرانه    الصمعاني: مرحلة جديدة من تطوير قضاء التنفيذ    «الجوازات»: صلاحية جواز السفر 3 أشهر للدول العربية و6 لبقية الدول    أبها تستضيف أول ملتقى تدريبي للطلاب المشاركين في برنامج الفورمولا 1 في المدارس    وغاب البدر من سماء الإبداع    الدور الحضاري    رحيل «البدر» الفاجع.. «ما بقى لي قلب»    المعمر، وحمدان، وأبو السمح، والخياط !    ورحل البدر اللهم وسع مدخله وأكرم نزله    عزل المجلس المؤقت    "زرقاء اليمامة".. نهاية رحلة فنية زاخرة    إستشارية: الساعة البيولوجية تتعطَّل بعد الولادة    وصول التوأم السيامي الفلبيني "أكيزا وعائشة" إلى الرياض    طريقة عمل كروكان الفواكه المجففة بالمكسرات وبذور دوار الشمس    الدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي: "ندعوا دول العالم إلى ضرورة التحرك لوقف جريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني"    منافسات الجولة ال31.. تنطق غداً بثلاث مواجهات    آل معمر يشكرون خادم الحرمين الشريفين وولي العهد    معارك السودان تستمر    كلوب: مدرب ليفربول المقبل لن يواجه صعوبات    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير عام هيئة التراث بالمنطقة    ميسي يسجل ثلاثة أرقام قياسية جديدة في الدوري الأمريكي    20 ألف مستفيد من خدمات مستشفى الأسياح    تنمية جازان تفعل برنامجًا ترفيهيًا في جزر فرسان    توقعات بهطول أمطار رعدية خفيفة على معظم مناطق المملكة    اللحوم والبقوليات تسبب "النقرس"    بأمر خادم الحرمين.. تعيين 261 عضواً بمرتبة مُلازم تحقيق في النيابة العامة    «المظالم» يخفض مدد التقاضي و«التنفيذ» تتوعد المماطلين    السعودية.. دور حيوي وتفكير إستراتيجي    تحت رعاية ولي العهد.. وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل ويشهد حفل التخرج    رعى حفل التخرج الجامعي.. أمير الرياض يدشن مشروعات تنموية في شقراء    النملة والهدهد    لا توجد حسابات لأئمة الحرمين في مواقع التواصل... ولا صحة لما ينشر فيها    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    كيفية «حلب» الحبيب !    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصدر المقاومات قوى وهيئات تقدم لحمتها على الدولة والمجتمع المؤتلفين وتقيدهما بقيدها . حرب "الدولة" القومية تبرز في حلة حرب العشائر "الشعبية"
نشر في الحياة يوم 07 - 04 - 2003

في اليوم الخامس على ابتداء حرب العراق، غداة تعثر القوات الأميركية والبريطانية على الطريق من الناصرية الى النجف، وجه صدام حسين، او من ينوب منابه، نداءً خص به "الأخوة شيوخ القبائل والعشائر والأفخاذ والحمائل والسلف في عراق الجهاد الأغر". ودعا النداء هؤلاء الى "اصطياد" "أرتال العدو" عندما "ينتهك حمى قبائلهم وعشائرهم". وحضهم على ألا ينتظروا امراً "من المراجع التي اعتادوا ان يتلقوا التوجيه منها". ونصب النداء "كل شيخ قبيلة وعشيرة وفخذ، بل كل عراقي غيور وعراقية ماجدة، ان يكون بيرق جهاد وعنواناً كبيراً في ربعه وجماعته". ونوه "المناضل" الرئيس، تكريماً لمذهب العشائر، ب"سيف جدنا عليّ" بن ابي طالب وب"ثورة العشرين".
وكان جهاز الدعوة والتحريض العراقي، وعلى رأسه وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف، ونائب رئيس الجمهورية طه ياسين رمضان، لخص تعثر التحالف في إسقاط هليكوبتر طوافة برصاص مسلح اهلي من العشائر وأسر اربعة جنود اميركيين ومقتل ثلاثة أو أربعة آخرين. ولما لم ينتفض سكان جنوب العراق، ومعظمهم من الشيعة، على الحاكمين ببغداد، ولم يقوموا عليهم وعلى موظفيهم وجنودهم وحزبييهم، ولم يقتلوهم ويمثلوا فيهم، على ما فعلوا قبل اثني عشر عاماً، عزا صدام حسين، وجهاز دعوته وشطر كبير من القنوات التلفزيونية وسياسييها ومعلقيها، تردد الحملة العسكرية الى ما سموه المقاومة العراقية.
وتصدرت "العشائر"، وهي تلخيص المراتب والجماعات التي أحصاها وسماها صدام حسين تفصيلاً، المقاومة. ونُعتت هذه ب"الشعبية". وزاد طه ياسين رمضان صفة "الثورية" على صفاتها الأخرى. فدعا التظاهرات والمسيرات العربية الى التخلص من صفة "الحضارية" التي يلزمها بها "وزراء الداخلية" على قوله، وأوجب عليها ان تكون ثورية "بل يجب ان تكون ثورية"، على مثال مقاومة العشائر العراقية.
وأدخل صدام حسين، وابنه قصي، ونوابه ووزراؤه وألويته وأفرقاؤه جمع فريق، الرتبة، الوحدات "شبه" العسكرية، وأولها "فدائيو صدام" ثم الحرس الجمهوري، في المقاومة التلقائية. وآذنت العملية "الاستشهادية" التي نسبت الى احد ضباط "الفدائيين"، باجتماع روافد المقاومة هذه على اساليب الحرب الشعبية والثورية، العربية والإسلامية المعروفة. ولم يتردد معارضون عراقيون، بعضهم من كبار الضباط السابقين، في البناء على صفة الحرب التي نعتها بها حاكمُ العراق وجهازه. فحيا حامد الجبوري وطارق الدليمي وإياد السمرائي والشيخ محمد مهدي الخالصي وغيرهم صحف 28 آذار/ مارس، "المقاومة العراقية الباسلة"، وخلصوا منها الى انفتاح "الآفاق أمام جبهة وطنية واسعة وعريضة". وأوكلوا الى الجبهة العتيدة "إنجاز مهمة التحول الديموقراطي المنشود و احترام إرادة الشعب و إعادة العراق الى مكانه الصحيح ... وإعادة إعمار البلاد وتنميتها".
وبعثت الحادثتان، هبوط المروحية الأميركية الاضطراري وانفجار السيارة بصاحبها وبجنود حاجز تفتيش اميركي، تيارات اهلية سياسية، خارج العراق، على المديح والثناء. فذهب زعيم "عشائر" لبناني الى ان العشائر العراقية مثال يجدر بالعرب الاقتداء به، وهو خير من "فتح قناة السويس" على ما في "المقارنة" من غرابة تعصى فهماً غير عشائري ربما للوقائع والأمور. ورأى الحزب اللهيون الى الحادثتين انتهاجاً لطريق شقوها هم وسبقوا إليها، وحملوا جماعات ومنظمات عربية وإسلامية اخرى على انتهاجها، ولقي حملهم هذا نجاحاً عظيماً لدى منظمات فلسطينية "مجاهدة"، أبلت البلاء المشهود في الميدان الذي مهدته المنظمة الخمينية. وأجمعت الدعاوة السورية المنظمة، الرسمية والمعارضة، على الرأي نفسه.
واستجابةُ تيارات ومنظمات وجماعات وصحافة متفرقة ومختلفة المشارب تقويمَ القيادة العراقية، ورأيَها في بعض الأعمال العسكرية الأهلية ونسبتها الى المقاومة الشعبية العفوية والتلقائية، هذه الاستجابة لا تستوفي الدعاوةُ تعليلها. ولا يختصر عمل اجهزة الدعوة والتحريض، ولا الإعلام وأثره ودوره، السبب فيها. وهي لم تقع الموقع الذي وقعته، ولا تزال تقعه، وتلقَ القبول الذي لقيته، إلا لأنها فكرة غالبة وسائدة شفعت بها، تنيط مقاومة الأجنبي، وأصالةُ هذا المقاومة وقوتها، بنواة الهوية والشعب و"الأمة". والعشائر، مشفوعة بالعروبة واستطراداً بالاسلام على رغم تنديد قديم وثابت بالأعرابية، هي هذه النواة الصلبة والعصية.
فبدا، بمعزل من التعمد الدعاوي، ان بعض الوقائع الحربية في ام قصر وصفوان وضواحي البصرة والناصرية والنجف، توافق الصورة الثابتة في الأذهان والمخيلات والأهواء العربية والمشتركة، والمتحصلة من اختبارات طويلة. وتوكل الصورة هذه المقاومة والأصالة بالعشائر، او بالعشيرة ومثالها، بما هي نواة العروبة المنيعة على الأجنبي وتهجينه وتغريبه. وعلى هذا، نُسي انصراف "الطبقة" الحاكمة العراقية، طوال ثلث قرن، إلى إنشاء هرم فرعوني من الأتباع والمحاسيب والأنصار المأجورين، على المراتب والمستويات كلها، من أعلاها وأقواها نفوذاً الى أضعفها وأبعدها من مصادر النفوذ. وأُغفل اختبار هذا الهرم، وهو حزبي امني وعسكري وإداري وشخصي اهلي أو عشائري في آن، في حرب طويلة أكلت حياة مئات الآلاف من العراقيين ومثيلهم من الإيرانيين. وأغفل كذلك امتحانه امتحاناً قاسياً ومدمراً بواسطة الاعتقال والنفي والإذلال والإرهاب والتعذيب والقتل.
فلم ترَ الأعين والمشاعر العربية في الصور والأخبار المتلفزة القليلة التي اوكل جهاز الدعاوة والتحريض الصدّامي بها الكناية عن مقاومة شعبية عريضة وعميقة، ما يشكل عليها فهمه. وأول ما يُتوقع ان يُشكل فهمه هو "المعجزة" التي حملت القيادة الحاكمة على امر هرم اجهزتها الأمنية والعسكرية وشبه العسكرية والحزبية بترك صدارة التصدي للقوات الأميركية والبريطانية "للأخوة الشيوخ" ولعامة "العراقيين الغيورين" و"العراقيات الماجدات". فقدر الجهاز الصدامي على تلبيس "المقاومة"، وتشبيهها على الأعين والأفهام. وصدق كثيرون، وربما يقيم معظمهم على تصديقهم، ان حوادث متفرقة قليلة، بعضها ظاهر التلفيق، هي عبارة جامحة وخالصة عن تولي عامة العراقيين، وخصوصاً شيعتهم وعشائرهم، صدام حسين و"جهاده". وتوليهم بطشه وطغيانه بذريعة التصدي لإخضاع العراق وكأن قيادة صدام حسين ثمرة مداولة وإجماع، ونهب خيراته وكأن العراقيين كانوا اصحابها، وتقسيمه والتقسيم استعارة للائتلاف الطوعي الفيديرالي.
ولعل توقع المقاومة الشعبية والقومية، وصدورها عن الجماعات البعيدة من اجهزة الحكم والدولة والمقيمة على "طبيعتها" و"سجيتها" الأصيلتين بمنأى من المدن الفاسدة والمفسدة، صدى قوي لفكرة تاريخية وسياسية عميقة الجذور في الأذهان والأفهام العربية. ولا تكذب الحوادث المختارة التي تغذي ذاكرة انتقائية هذه الفكرة. ففي الحجاز، وفي العراق نفسه ولبنان وفلسطين والأردن وسورية - قبل تبلور الكيانات السياسية الإقليمية المركبة والمنظمة - كانت بعض اجزاء القبائل، وبعض وجهائها، في مقدم التصدي للقوات الأوروبية المنتصرة على السلطنة العثمانية.
وحين انقسمت النخب العربية العثمانية على نفسها، غداة ظهور إخلاف الوعد البريطاني ب"مملكة عربية" تجمع المشرق كله تحت تاج واحد، مال معظم وجهاء المدن وأعيانها الى الإدارات الاحتلالية فالانتدابية، وعقدوا الاتفاقات معها، ولو على مضض. فخرجت على المساومة، أو التسوية، جماعات طرفية، جغرافية واجتماعية، تنزل البوادي او تقيم في المعاقل الأهلية المتجانسة السكن والنسب والمعتقد، على بعض الحدة من مراكز السلطة. وبعض من خرجوا على المساومة هذه، وثاروا على معنى الثورة "الرمضانية"، نسبة الى طه ياسين رمضان، كانوا من الفروع الثانوية في هرم الأنساب والقوة القبلي والعشائري.
فقاومت عشائر جنوب العراق صعود القوات البريطانية من شط العرب الى بغداد طوال خمسة اعوام، بين 1915 و1920. وكانت مقاومتها، وهي توجتها "ثورةُ العشرين"، حرباً محلية ووطنية أو أهلية وبلدية في الحرب الكبيرة أو العظمى. وينسب بعض رواة الأنساب والحوادث، اليوم، وقائع هذه الحرب الى تشيّع أهل الأهواز و"السواد"، على ما كانت هذه البلاد تسمى، بين بادية الشام جنوباً وغرباً وبين الأهواز شرقاً، والنجف شمالاً. ولكن تمييز اللحمة المذهبية الدينية من اللحمة العصبية الدموية والمحلية أمر غير يسير. وحين ينصرم الظرف الذي دعا الجماعة الدينية المذهبية الى الالتحام أو الاشتراك في جامع واحد، تعود الجماعة الى كثرتها ومنازعاتها وأحلافها، وتستقر على سيرتها من التقطع والتفرق. فالجامع الديني المذهبي هو صيغة الإئتلاف والوحدة بين عصبيات متقطعة ومتفرقة، تقيم على حالها هذه من الخلاف والمنازعة، ولا تريد "تجاوز" هذه الحال ولا أتصور تجاوزها.
ومهما كان من أمر "ثورة العشرين" هذه، ومن أمر العوامل فيها، فما شاع عنها، واستقر منها في ذاكرات العراقيين وكثرة من العرب في البلدان المجاورة، هو تصدر العشائر الشيعية العراقية مقاومة الغزو والاحتلال الأجنبيين. ويعني هذا في ما يعني، وربما أولاً، أن غير العشائر، من أهل المدن والبلدات في الوسط وأهل الزراعات والجبال في الشمال، هادنوا الغزو والاحتلال، أو لم يقاوموهما إلا مقاومة ضعيفة. ولم تلبث المقاومة الضعيفة أن تبددت في المساومات السياسية والإدارية والاقتصادية والمفاوضات التنظيمية والانتخابات، على سيرة أهل المدينة ونخبها وطبقاتها الوسطى وعمالها وأجرائها وبطاليها العاطلين من العمل.
ويعني هذا في ما يعني كذلك، أن غير الشيعة، ومعظمهم من أهل المدن والزرع والجبال، مالوا الى الأجنبي، وتولوا الحكم والإدارة، وغنموا المنافع، من طريقه وجزاء مهادنته وتوليه. ويبدو المعنيان، أو الأمران، تعليلاً وافياً لضعف حصة الشيعة من السلطة والنفوذ المركزيين البغداديين، ولبقائهم على الضعف هذا. ويُخلص من هذا الى أن جزاء المقاومة هو القهر، والى أن بعثها على "الأجنبي" المحتل والغاصب - وهو في الأثناء صار رميماً أو انقلب من حال الى حال جديدة، وعلى من حل محله، هو السبيل الى إحقاق الحق الأصلي والثابت.
وكانت أرياف أو ديرات عربية أخرى، في مقتبل احتلال القوات الأوروبية المشرق وبلدانه، مسرح "حركات" قبلية، أو أهلية غلب عليها من تساقطوا من القبائل والعشائر البدوية وتوطنوا، منذ وقت قريب، أراضي زراعية على حدود السهول الداخلية والجبال أو البادية. فكانت هذه حال أطراف شمال فلسطين وجبل عامل لبنان الجنوبي لاحقاً والبقاع، والغوطة الدمشقية وسهل حمص وحماه، وجبل السماق الى الغرب من السهل، وضواحي حلب. ودامت هذه "الحركات" - وهذه تسمية لبنانية محلية للانتفاضات الأهلية - من 1915 الفرات الأسفل، أو 1918، الى 1922. وحين خمدت وبردت استأنفتها، على نحو أقوى وأعرض، ثورة 1925-1928، الدرزية السورية، وكان ابتداؤها بجوار دمشق وغوطتها. وسميت ثورة العشائر الدرزية السورية "الثورة العربية الكبرى"، شأن الحركة الفلسطينية، في 1936-1939، التي قامت على تعاظم هجرة اليهود الأوروبيين الى فلسطين الانتدابية غداة قوانين نورنبرغ النازية بألمانيا 1935، وائتلاف هيكل دولة يهودية متماسكة من المستوطنات والهيئات الصهيونية المتفرقة.
واندلاع "الحركة" هذه، وغيرها مثلها، في وسط جماعة أهلية متشابكة النسب، متماسكة المراتب والقيادة الرئاسة، موحدة المعتقد، ومتصلة السكن وبعيدة من المدن، على حدة من طرق المواصلات، وبإزاء "عدو" دخيل على عوامل القوام الاجتماعي والتاريخي التي تقوم بها الجماعات الأهلية - هو الاندلاع الأقرب الى متناول النخب السياسية والاجتماعية، القديمة أو التقليدية منها والجديدة. فهذه الجماعات، وهي على الدوام عشائرية ومذهبية ومحلية معاً وجميعاً، هي مستودع مقاومة أنواع السلطات الخارجية والمركزية كلها، لا تستثني سلطة منها، "قومية" كانت أو دينية أو عسكرية.
فليس في مستطاع سلطة تنزع الى قدر من الإدارة الواحدة والمترابطة إلا ان تقتحم على هذا الضرب من الجماعات، المستقلة بنفسها، ديراتها ومعاقلها وحماها، وتعمل تعبث فيها تقويضاً وتصديعاً. وعلى هذا لم يعصم الدين الواحد والمشترك الدول، وأبنيتها الإدارية والمالية والعسكرية الامبراطورية، من تمرد العشائر والقبائل، أو من انسحابها من "الأقاليم" السياسية والإدارية، والعودة الى الترحال والبداوة. وتمتنع القبائل والعشائر من "الإدارة" على أنواعها: تمتنع من إحصاء السكان، ومن جباية الضريبة، ومن الخدمة العسكرية، والتعليم. فهذه كلها تؤدي الى التوطن، والى إسلاس القياد لسلطة أعلى وغريبة. وتؤدي الى انهيار المراتب القديمة، والإقلاع عن الحرب والاقتتال، وهما مصدر المراتب السياسية والهوية والحرية، ومناط المفاضلة بين الأفراد والجماعات.
فكان حظ السلطنة العثمانية، ثم خلافة بني عثمان، من مقاومة العشائر والقبائل والجماعات الأهلية، على قدر حظ الأمراء "الوطنيين" والمحليين من هذه المقاومة حين تصدوا لسوس بلادها بلاد العشائر... بسياسة تؤدي الى توطينها ومراقبتها وعقلنة سيطرتها عليها. فلم تنفع "الوطنية" المشتركة، ولا المعتقد الواحد، في لجم النزعات الاستقلالية أو في إضعاف الاستماتة في المقاومة. فالعشائر الدرزية السورية التي ثارت بالقوات الفرنسية المحتلة وعليها، في عشرينات القرن العشرين، قامت في ثلاثينات القرن التاسع عشر بتقطيع أوصال الجيش المصري وهو يسير من فلسطين الى تركيا، ويمر باللجا الحوراني، بين الأردن وسورية اليوم. ونزل المقاتلون الدروز من معقلهم الجبلي بحوران، وقطعوا طرق تموين قوات إبراهيم باشا ابن محمد علي ومدده بالرجال، وأثخنوا قتلاً في المصريين "العرب" والمسلمين من غير رأفة ولا شفقة.
فكانت حربهم هذه أعظم إنجاز عسكري سطروه ربما في تاريخ مديد، مليء بالقتال والحرب. وأسهم انجازهم بسهم وافر في تقويض أول محاولة توحيد ولايات المشرق بمصر. ولم يكونوا وحدهم. فشاركتهم الإنجاز، على قدر أقل وأضعف، القبائل السارحة بين مدين وبين تدمر، وعشائر بني عاملة، من شيعة جبل عامل. وقام على المصريين موارنة الجبل ومسيحيوه. فاجتمعت مشارب متفرقة على رفض إجراءات الدولة المصرية الخديوية وهي التجنيد وتوحيد الضريبة على "الرأس" والجباية المتشددة والإدارة الإقليمية المنظمة والمساواة بين أهل المذاهب والطوائف.
وهذا التاريخ لم ينقض ولم تطو صفحاته ومعانيه وصوره. فعندما أراد صدام حسين استمالة العشائر العراقية المنتفضة عليه في 1991، رد على شيوخها الأراضي التي صادرها الإصلاح الزراعي، وجدد تخويلهم سلطة القضاء في الخلافات والخصومات، وأعاد للقبائل سلطتها على جمعيات المهاجرين منها الى المدن وكانت "السواني"، أو الأعراف القبلية، هي "دستور" المهاجرين هؤلاء الى المدن العراقية في الثلث الثاني من القرن الماضي. واعتذر الى الشيوخ عما بدر منه، ومن الدولة المركزية، من إجراءات تحديث وعصرنة اجتماعيين وثقافيين كان حزب البعث حسبهما من مهماته، قبل أن يستولي على السلطة بالعراق وليس بسورية حيث لم تداعب مثل هذه "الأوهام" أذهان القيادة، وفي سنوات الاستيلاء الأولى. وليس انبعاث اللغة القبلية "الإعلامية" على ألسنة الوزراء العراقيين، اليوم، إلا من القبيل نفسه.
ولا تزال السياسة تجد في البنيان القبلي والعشائري، وفي ثقافته وذاكرته وتاريخه، معيناً غنياً. فما أنجزه "حزب الله" اللبناني، أو يحسبه انجازاً، إنما هو، بدوره، تجديد لتقاليد التماسك والحرب والرئاسة العشائرية في وسط اجتماعي مدني وبلدي. وعمدت قيادة الحزب على انتزاع أجزاء الشيعة اللبنانيين من تفرقهم سكناً ومهناً وأسراً ومصالح وميولاً وأفكاراً أو "ثقافات"، وصهرهم في قبيلة واحدة، ونسب أصيل واحد، يتخطيان الانقسامات الموروثة من تاريخهم اللبناني الحديث، بإزاء عدو واحد سوغ احتلاله، وسوغت أعماله العسكرية التعبئة الأهلية عليه، جمع، بدوره، من فئات العداواة والخلافات كلها. فعلى المثال القبلي، محيت الفروق المتأتية من خارج العصب المتشابك والمتضافر، وحُملت على الافتعال والسطحية وموالاة "الظالم" الأجنبي. وتكفلت "القبيلة" بأعباء التضامن، وأطرحت خارجها أصحاب "الأهواء" و"الأحزاب"، وأسكتت الاعتراضات، وجسدت نفسها في زعيم، قريب من العصمة، وعرضت على الخارج غلافاً أملس يجمعها كلاً متجانساً.
وكان ضعف الروابط، جراء الحروب الملبننة المتطاولة، بالمرافق الاجتماعية المتفرقة، شرطاً من شروط انجاز التوحيد والدمج، ولو جزئيين. ورعى ضعف الروابط هذا، والتوحيد والدمج المتأتيان منه، الإقبال على مقاومة جامحة العنف. وحضن تحمل الخسائر البشرية والمادية والثقافية المترتبة على جموح المقاومة الى أقاصي العنف، وسوغها. فنكص "حزب الله"، وراعياه الإقليميان، بالشيعة اللبنانيين الذين تولوه ووالوه الى حال أبوية أسطورية وبطولية صبغت على الدوام بصبغتها "الحركات" العربية العشائرية.
ومثّلت الحركة الخمينية اللبنانية على الانقلابات العسكرية المستولية على بعض دول المشرق والمغرب. فهذه الانقلابات لم "تنجح"، ولم تستول على دولها، ويستتب لها الأمر، إلا حين شفع الانقلابيون منظمتهم العسكرية أو الحزبية، ولحمتهم السلكية والسياسية، بلحمة عصبية أقوى من الأولى. فذهبت الانقلابات "الناصرية" أدراج الرياح في سورية والعراق، ولم يبق إلا تلك التي كان سندها المذهبي والقبلي، أو الأهلي، قوياً. ولولا هذا السند من القذاذفة في ليبيا، والتكارتة في العراق... لما استقر الاستيلاء للمسؤولين، ولما تماسكوا على النحو الذي يتماسكون عليه منذ ثلث قرن في مجتمعات مضطربة ومتقطعة.
وتحقق خريطة "المقاومة"، اليوم، هذه الملاحظات التي مرت. وفي مقابلتها، ونظيرها، تنهض كتل من غير لحمة ولا عصبية ولا "أصالة". وهي نتاج العلاقات الاجتماعية المحدثة والضعيفة، ونتاج خليطها وتنافرها. وتنسبها حداثتها، وروابطها بالعلاقات الاجتماعية الغربية والغالبة، وثقافتها الهجينة والساعية في تأصيل هارب، الى "العمالة". وعليه ف"الديموقراطية"، اليوم وبالأمس وغداً من غير شك، عمالة، في أثناء حملة التحالف في العراق، وفي أي وقت آخر. وليس الجمع، المستحيل الى اليوم، بين الحداثة السياسية والاجتماعية وبين التوطن، أقل المآزق العرقية عنتاً وقسوة.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.