امتدت شرارة الحرب العالمية الثالثة التي دعيت بالحرب على الإرهاب وتحولت إلى حرب على النظم الممانعة أو الساعية إلى أخذ دورها المستقل على الساحة الدولية، من أفغانستان إلى العراق، ومنها إلى ترتيب منطقة الشرق الأوسط على قاعدة الحلفاء الظرفيين الذين يملكون حافزاً لتقديم كل ما تريده الولاياتالمتحدة، بعد تغيير الذين استهلكوا واستنفدت أدوارهم، ما خلق انقساماً عالمياً سيبتلع الانتصار الأميركي على نظام صدام حسين ويؤدي إلى فرز بدأت إرهاصاته القوية تظهر في أفق السياسة الدولية. فالإدارة المحافظة لن تستطيع استيعاب الآثار السلبية التي ستولدها الحرب على العراق المترافقة مع الحرب على فلسطين، والتي ستتحدد تبعاً لطول مدة المعارك، ولنسبة الضحايا المدنيين، إلا إذا انسحبت القوات الأميركية بعد فتح الطريق لنوع من الحكومة المشتركة الموقتة للقيام بمهمة التهدئة والإعداد لانتخابات ديموقراطية بعد تعديل الدستور وبناء دولة القانون والمؤسسات. على أن يترافق ذلك مع تسليم الأممالمتحدة الوضع في العراق ومساعدتها في تطبيق قراراتها على كل دول الشرق الأوسط المعنية، خصوصاً اسرائيل، تمهيداً لشرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل وحل الصراع العربي - الصهيوني بقيام دولة فلسطينية على أراضي 1967. فهل يمكن أن تتخلى واشنطن بعد "انتصارها" الثاني عن أهدافها المشبوهة وتتراجع عن عقيدتها الأمنية في الحروب الاستباقية والزام الأممالمتحدة مرجعية شرعية وحيدة؟ تحاول واشنطن أن تسوق في الإعلام صورتها كمنقذ للشعب الأميركي وللعالم كله من نظام غير مسؤول يمتلك أسلحة الدمار الشامل، وكمنقذ للشعب العراقي من ديكتاتور أذاقه الويلات، وكمنقذ للدول العربية المجاورة للعراق من جار شرس طماع لا يمكن إرضاؤه أو الحدّ من خطره في الحاضر والمستقبل. لكن هذه الصورة أثناء تسويقها يمزقها السلوك الأميركي نفسه، إذ تتبدل شعارات الحملة العسكرية الأميركية - البريطانية بين يوم وآخر، بحيث تتخذ فعلاً صورة حملة استعمارية، كما يلعب الخبث دوره في العلاقة مع الدول الحليفة للولايات المتحدة، خصوصاً بريطانيا التي سيسلمها الأميركيون مسؤولية حقول الألغام البشرية في مدن جنوبالعراق، حين ينصرفون الى بغداد. وتتلخص القراءات العربية المتفاوتة للحرب على العراق في تيار يوالي أميركا وينزّه مراميها ويعتبرها المنقذ من الديكتاتوريات والتخلف، ويؤيد مرجعيتها على حساب الأممالمتحدة الضعيفة، وآخر معاد للسياسة الأميركية يرى فيها إمبريالية جديدة تسعى الى أهدافها المصلحية الخاصة فقط على حساب الشعوب والدول كلها. وتدخل القراءة الأخيرة في مأزق القدرة على الخروج من هذا النفق المظلم، وفقدان الأمل بتغيير ميزان القوى لمدة زمنية طويلة، كونها لا تتناول الأسس المادية والرمزية للأوضاع الحالية، بل تغوص في الخطابية النضالية وتتمنطق بعقلية الفرسان، من دون رؤية عقلانية متوازنة لتوفير شروط خيار الحرب أو عناصر خيار السلم. وهناك قراءات متنوعة تقع بين معاداة السياسة الأميركية في نزوعها الإمبراطوري وأهدافها الملتبسة وغير الشرعية، وترفض انفراديتها وحروبها الاستباقية كآلية لتنفيذ "القانون" الدولي، وامتهان الأممالمتحدة وتدثيرها بالتبعية، لإحكام السيطرة على العالم. كما أنها ضد الاستبداد المقيم في غالبية الدول الفقيرة، عبر الدول الأمنية الديكتاتورية "التقدمية" والدول الرجعية الدينية الأوتوقراطية. أما إذا انقلبت الصورة إلى النزوع الإمبراطوري الذي ينفرد في وضع ترتيبات تعني سيطرته فقط، فإننا سنشهد تفريخ الحروب الداخلية، ومزيداً من الفوضى، بعد حماية المفاصل الحيوية للهيمنة، وإبعاد النفط كلياً عن أي قوة أخرى غير الأميركية، ما يوسّع شرارة الحرب لتطاول بلداناً أخرى، في نوع من فرض اتفاق جديد على غرار "سايكس - بيكو" يسهم في تناسل الأقطار العربية وتجزئتها إلى "ميني أقطار" على مثال توزيع العراق بين السنّة والشيعة والأكراد وربما التركمان، الأمر الذي يهدد العرب بالاندثار كطموح وحدوي على غرار السلطنة العثمانية والاتحاد السوفياتي. وتستهدف الحرب العالمية الثالثة بعد حروبها لابتلاع الشرق الأوسط، الوحدة الأوروبية، وضبط المنافسة، والحجر على الملكية الفكرية، وضبط الحمائية واحتكار الاختراعات والاستئثار بالاكتشافات العلمية أدوية الأمراض المستعصية وغزو الفضاء والأسلحة الدقيقة وجذب الاستثمارات وترسيخ دور الدولار كمقياس، والسيطرة الجيوبوليتيكية والاستراتيجية، وإضعاف دور روسيا ونزع سلاحها النووي، ومراقبة الصين وحصرها في نطاق نمو مراقب ومضبوط، وإبقاء آسيا في يد اليابان شرط عدم إفساح المجال امام انبثاق وحدة آسيوية تضم النمور والتنانين، واللعب في علاقة غير سويّة مع هونغ كونغ وتايوان وكوريا الجنوبية، والإمساك بالنفط، والاعتماد على الحروب واستعمالها في جذب الاستثمارات، وتطبيق مبدأ "الإصلاح بعد الانصياع" وإعطاءه مسحة حضارية مدنية كبديل للتبعية المتخلفة. إن شعار تغيير النظام الاستبدادي كمستدع ومستودع دائم للاستعمار، يتراجع امام خطورة تغيير العالم بحسب رؤية صقور الإدارة الأميركية، وسيؤكد مستقبل العراق شبهة الأهداف الأميركية والتباس مراميها وأنانية طموحاتها، ولو اننا نرى بأم أعيننا ما فعلته وستفعله حول العالم، خصوصاً تلك النرجسية الذاتية التي تصرّ على انها وحدها في هذا العالم مؤهلة للعب دور القائد "المخلص" و"الطهراني" من كل الآثام والشرور. وتمثل الدعوة إلى معالجة مضاعفات الحرب التي تحمل في جوهرها معنى التدخل والمشاركة لإعادة السوية إلى السياسة الدولية، تحت مرجعية الأممالمتحدة، الحل الوحيد الذي يرمم البنيان الدولي ويمنع تفاقم انقساماته لئلا تؤدي إلى اختناقات يمكن إذا تضخمت وتأزمت أن تفجر حرباً عالمية ثالثة. فهل ينجح تيار السلم الرافض للحرب والداعي الى اعتماد السياسة في حل القضايا الدولية في تهدئة "الثور" الأميركي الهائج ليسترد عقله من اجل التناغم مع الاستقامة الدولية التي نهضت لتمنع عن العالم الانزلاق والسقوط في مهاوي الحروب التي تهدد حياة الكرة الأرضية؟ * كاتب لبناني.