ساد اعتقاد عام بأن توازن القوى الذي اتصفت به سنوات الحرب الباردة كان عاملاً مهماً من عوامل الاستقرار السياسي والأمن الدولي الذي شاع في مختلف بقاع العالم. الى جانب ذلك، تم اقناع غالبية مثقفي العالم بأن الولاياتالمتحدة ساهمت، بشكل ايجابي فاعل في تحقيق الأمن والنمو الاقتصادي بالنسبة الى معظم الشعوب والدول، اذ جاءت تلك المساهمة من خلال الدور الاميركي في تحقيق توازن القوى وتقديم المعونات الاقتصادية والعسكرية للكثير من دول العالم. إلا انه على رغم ذلك الاعتقاد وتلك القناعة يشير تاريخ سنوات الحرب الباردة الى ان غالبية دول وشعوب العالم، خصوصاً العالم الثالث، لم تنعم بالاستقرار أو الأمن ولم تعش فترات نمو وازدهار اقتصادي يذكر. وفي الواقع لم تسهم اميركا، ولم يكن في نيتها ان تسهم في تحقيق الأمن والاستقرار لكل الأمم والشعوب، بل لبعضها فقط، وذلك بالمقدار المطلوب لخدمة المصالح الاميركية، ومن بينها طبعاً احتواء النفوذ السوفياتي. مما لا شك فيه ان توازن القوى بين اميركا والاتحاد السوفياتي خدم بعض الدول خدمة كبيرة، وفي مقدمة تلك الدول اليابان ودول أوروبا الغربية. ففي ظل توازن الرعب النووي توقفت الحروب في القارة الأوروبية ونعمت كل دول أوروبا تقريباً بالأمن والاستقرار. وبسبب المعونات الاقتصادية الاميركية وتوفر الأمن والاستقرار والمظلة النووية الاميركية التي شملت الدول الغربية الحليفة عامة، نجحت دول أوروبا الغربية واليابان في اعادة بناء اقتصادياتها والحد من الانفاق على التسلح وتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة نسبياً نقلتها خلال عقود الى مقدمة الدول الصناعية المتقدمة. ومع نهاية الحرب الباردة في العام 1989 كانت شعوب أوروبا الغربية واليابان قد اصبحت تتمتع بمستويات معيشية مرتفعة وأنظمة ديموقراطية مستقرة وحريات شخصية كبيرة وقدرات على الخلق والابتكار عالية. ان توازن القوى الذي خدم دول أوروبا الغربية واليابان بشكل خاص وحقق لها الأمن والاستقرار والنمو الاقتصادي كان عامل اضطراب وعدم استقرار بالنسبة الى غالبية دول العالم الثالث. كما ان الدور الاميركي السياسي والأمني وحتى الاقتصادي كان عاملاً سلبياً بالنسبة الى معظم الدول الصغيرة والشعوب الفقيرة، حيث ساهم في ضياع معظم فرصها المحدودة لتحقيق النمو والتنمية والاستقرار. ولقد كانت الدول والشعوب التي وقعت بالقرب من مناطق التماس بين القوتين العظميين حيث تضاربت مصالحها وكانت من اكثر الشعوب تضرراً. ان بروز الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة كقوتين عظميين في اعقاب الحرب العالمية الثانية، وامتلاك كل القوتين السلاح النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل فرض على تلك القوتين تجنب المواجهة العسكرية المباشرة. حيث انه ليس بالإمكان شن حرب من دون مواجهة، فإن الحرب الباردة اصبحت حرباً سياسية وأمنية وعقائدية واقتصادية وعسكرية اتخذت من العالم الثالث ومصالح شعوبه ومستقبل أجياله ساحات وأدوات للمواجهة. وبينما عاشت أوروبا بشقيها الغربي والشرقي أطول فترات الاستقرار عاشت غالبية دول العالم الثالث اسوأ فترات عدم الاستقرار وغياب الأمن وانعدام الحريات. برز الاتحاد السوفياتي في اعقاب الحرب العالمية الثانية كقوة تغيير ثورية استهدفت بالدرجة الأولى النظام الاقتصادي الرأسمالي والنظام السياسي المؤسس على فكرة الديموقراطية. وهذا دفع الاتحاد السوفياتي الى تبني سياسة هجومية قامت بالتحريض ضد الغرب ونظم حياته الاقتصادية والسياسية من ناحية، والعمل على تفعيل الثورات في العالم الثالث بناء على افكار عقائدية اشتراكية - ماركسية. وفي المقابل، برزت الولاياتالمتحدة في اعقاب الحرب العالمية الثانية كقوة محافظة استهدفت الحفاظ على الأمر الواقع وحماية التركة الاستعمارية الأوروبية التي ورثتها وضمتها الى مناطق نفوذها. وهذا دفع اميركا الى تبني سياسة "الاحتواء" التي استهدفت محاصرة الاتحاد السوفياتي والحيلولة دون قيامه بتوسعة مناطق نفوذه وتقويض اسس الفكرة الاشتراحكية والعقيدة الماركسية. ولقد ترتب على ذلك اتجاه اميركا الى الوقوف، وبشدة وعناد، ضد كل محاولات التغيير في العالم الثالث عامة، حتى التغيير الذي استهدف التخلص من نظم الكبت السياسي وحماية الحريات العامة ومحاربة الاستغلال والفساد. الى جانب ذلك، قامت اميركا بالتحالف مع كل الحكام وأنظمة الحكم الاستبدادية التي انخرطت في خدمة المصالح الاميركية وقبلت أو ارغمت على ان تكون أدوات وساحات مواجهة مع الاتحاد السوفياتي. بينما تجنبت أوروبا الحروب بشكل عام خلال سنوات الحرب الباردة ولم تخسر إلا اعداداً صغيرة من قواتها العسكرية في حروب استعمارية خلال فترة شهدت تصفية الاستعمار واستقلال الكثير من شعوب العالم الثالث، كانت سنوات الحرب الباردة بالنسبة اليها فترة دمار بشكل عام، اذ بالإضافة الى خسارة ما يقدر بنحو 8 - 10 ملايين شخص، أضاع العالم الثالث عامة العديد من الفرص الاقتصادية والموارد المتاحة، وهذا جعل شعوبه الفقيرة أصلاً تتحمل العبء الحقيقي للحرب الباردة وتدفع بالدم والفرص القليلة المتاحة تكاليفها الباهظة، وحتى المعونات الغذائية التي قدمتها اميركا لبعض الدول، ومنها اندونيسيا ومصر، تسببت في اغراق الاسواق المحلية وساهمت في خلق قطاع الزراعة وإهماله من قبل الدولة. وهذا يعني تعدد الدور الذي لعبته اميركا خلال فترة الحرب الباردة لم يساهم في تحقيق الأمن أو الاستقرار أو التنمية بالنسبة الى غالبية شعوب العالم، خصوصاً بالنسبة الى شعوب العالم الثالث، ومن بينها طبعاً الشعوب العربية، بل كان الدور الاميركي عامل اضطراب وقوة ارهاب وأداة هيمنة وتخلف. بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وفقدان الفكرة الاشتراكية مصداقيتها برزت اميركا كقوة عظمى وحيدة في هذا العالم. وانسجاماً مع نظريات الهيمنة، اتجهت اميركا الى الترويج لفكرة الهيمنة والى الادعاء بأن هيمنتها على العالم هي الضمانة الوحيدة لتحقيق الأمن وحماية الاستقرار والمساهمة في ظلهما في تحقيق التنمية بأشكالها المختلفة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية - الثقافية. إلا ان المراقب لسياسات اميركا والقارئ الواعي لأهدافها، خصوصاً في ظل ادارة الرئيس بوش الحالية، يرى من دونة عناء يذكر ان المواقف والتوجهات الاميركية تفتقد اليوم، كما افتقدت في الماضي القريب، المنحى الاخلاقي والالتزام المبدئي لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية على الساحة الدولية. منذ البدء بحملة ما يسمى بالحرب على الارهاب زادت الاعمال الارهابية في العديد من دول العالم والتي يأتي معظمها كرد فعل على الاعمال الاميركية. اما التهديدات الاميركية بالعدوان على بعض الدول وفي مقدمها العراق، واعلان نواياها على تغيير الشرق الأوسط وأنظمة الحكم فيه، خصوصاً في مصر والسعودية وسورية، فقد أدت الى تعميق عوامل عدم الاستقرار، ليس فقط في الدول العربية، بل وايضاً في دول آسيوية وأوروبية قريبة ومجاورة عدة. وفي ضوء ضعف عوامل الاستقرار وتراجع الأمن وتصاعد العمليات الارهابية والتهديدات الاميركية دخل الاقتصاد العالمي ازمة جديدة تهدد بانتشار المجاعات وزيادة حدة الفقر. وخلافاً للادعاءات الاميركية بوقوفها الى جانب الحريات العامة وحماية حقوق الانسان أدت الحرب الاميركية على الارهاب وادعم الاميركي المطلق وغير الاخلاقي لسياسة شارون الاجرامية الى تراجع حقوق الانسان في اميركا نفسها وفي فلسطين وباكستان وغيرها من دول اخرى. وهذا يعني باختصار ان اميركا لم تكن في الماضي القريب وليست هي اليوم قوة لحفظ الأمن الدولي ولا عاملاً لتحقيق الاستقرار ولا أداة لدفع عملية التنمية الى الأمام. ان ما يهم اميركا هو مصالحها كما تحددها النخبة الحاكمة، وليس صالح البشرية أو احتياجات المغلوبين والمظلومين في هذا العالم. * استاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة الاخوين، افران - المغرب.