سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"الحياة" حاورت رئيس المكتب السياسي ل"حماس" في محطات الماضي واسئلة الحاضر والمستقبل . خالد مشعل : هاجمني عميلا "الموساد" في عمان بجهاز يضخ السم في الجسم بلا حقنة . هدد الملك حسين بإغلاق السفارة الاسرائيلية فأرسل نتانياهو العلاج وأفرج عن الشيخ أحمد ياسين 1
دخل الصغير مبتسماً ومصافحاً. سألته عن اسمه فأجاب: يحيى مشعل. رنّ في ذاكرتي اسم يحيى عياش "المهندس" الذي أقض مضجع اسحق رابين ونجح شمعون بيريز لاحقاً في اغتياله. رنّ اسم الرجل الذي هندس اول العبوات لأول الاستشهاديين في "كتائب عز الدين القسام" الجناح العسكري لحركة "حماس". ادرك خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة ما يجول في خاطري فسارع الى القول: "ولد يوم استشهاد يحيى عيّاش فاخترنا له هذا الاسم". سألت الأب لاحقاً عن المستقبل الذي يتطلّع اليه بعد موقعه الحالي، فأجاب: "احسن خاتمة للمرء هي موته شهيداً". وحين سألته عن مسؤولية من يرسل الشبان لينفجروا بالآخرين، روى لي قصة سيدة فلسطينية كتبت الى قيادة "القسام" تعاتبها لأنها رفضت اعطاء نجلها فرصة الاستشهاد. انحنت القيادة امام ارادة الام التي واكبت التحضيرات الاخيرة لنجلها ولبست أجمل فساتينها لتقبّل التهاني حين بلغها نبأ استشهاده. بين اسم الصبي وطموحات والده وقصة والدة الشهيد غمرني شعور غريب، يدمغ الفلسطينيون ابناءهم بالأسماء والروايات لئلا يجرؤ احد على التنازل عن شبر. ما أصعب لغة منتصف الطريق حين يتقاتل الناس على بشر وشجرة وغيمة، على ذاكرة ووجود كأن المكان لا يتسع الاّ لمنتصر ومهزوم. وشعرت بأن النزاع الذي ولدنا بعد اندلاعه سنرحل قبل ان نرى حلاً نهائياً له يلغي ظلم الاحتلال ومعه مصانع الشهداء. أتعبني خالد مشعل وربما أتعبته. يريد التحدث عن الحركة لا عن شخصه. وأنا اريده ان يتحدث عن الاثنين معاً على رغم معرفتي ان "حماس" تنظيم علني وسري في آن، وان ليس من عادة قادته الغوص في ظروف نشأته ومسيرته الميدانية وآلية صنع القرار فيه وعلاقاته العربية ومتاعبه الدولية وقنوات تمويله. كنت اعرف ان خالد مشعل لا يزال في خضم المعركة وان الحصار المضروب على "حماس" يحول دون كشف تفاصيل قد تلحق ضرراً بها او بمنتمين اليها. وفي المقابل كنت اعتبر ان ليس من حق "حماس" التي تحولت "رقماً صعباً" يصعب تجاهله في مسار النزاع الفلسطيني الاسرائيلي بفعل ثقلها وضرباتها المدوية، ليس من حقها الا ان تقدم روايتها لقصتها وبلسان من كان حاضراً منذ اللحظة الاولى. تعثرت محاولتان لإجراء الحوار على رغم الشهور الفاصلة بينهما. وكان السبب قدراً من التحفظ لدى القائد الفلسطيني، وقدراً غير قليل من الطمع لدى سلسلة "يتذكر". وساهمت المسافة الزمنية والتطورات في الساحة الفلسطينية والمنطقة في توفير الظروف الملائمة مما اتاح ل"الحياة" القيام بزيارة لذاكرة "حماس" ورئيس مكتبها السياسي. بعد توقيع "اتفاق اوسلو" في 13 ايلول سبتمبر 1993 كان الواضح ان النضال الفلسطيني دخل منعطفاً كبيراً وخطيراً. راودتني فكرة جمع الشهادات والروايات. وهكذا طافت سلسلة "يتذكر" على عدد من اللاعبين البارزين: جورج حبش واحمد جبريل ونايف حواتمة، ومحمود عباس ابو مازن ومحمد عودة ابو داود وورثة وديع حداد وتلامذته وعاطف ابو بكر رفيق "ابو نضال" وعدوه الاول. ومع تصاعد ثقل الاسلاميين في المواجهة الفلسطينية الاسرائيلية كان لا بد من الانتقال الى اللاعبين الجدد وهكذا كان اللقاء مع الدكتور رمضان شلح الامين العام ل"حركة الجهاد الاسلامي في فلسطين". ولأن القصة تبقى ناقصة تماماً في غياب "حماس" كان لا بد من خالد مشعل. لماذا خالد مشعل بالتحديد؟ في 25 ايلول سبتمبر 1997 تناقلت وكالات الانباء خبر تعرضه لمحاولة اغتيال في عمان. فشلت المحاولة ولم يقبل العاهل الاردني الراحل الملك حسين بأقل من ان تحضر اسرائيل سريعاً العلاج القادر على مكافحة السم الذي دخل جسم المستهدف وان تفرج ايضاً عن الشيخ احمد ياسين قائد الحركة ورمزها الاول. وسألت نفسي يومها لماذا غامر رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو بالموافقة على عملية من هذا النوع في عاصمة دولة عربية وقّعت مع اسرائيل معاهدة سلام؟ سألت نفسي وسألت بعض المواكبين ل"حماس" وكان الجواب: لأن دور مشعل اكبر من لقبه وأخطر. فإضافة الى مشاركته في تأسيس الحركة، التي ولدت قبل اعوام من اعلان قيامها وشيوع اسمها، ساهم مشعل في نسج العلاقات وفتح القنوات التي جعلت "الخارج" يؤمن ل"الداخل" مستلزمات الصمود والاستمرار والتوسع. في هذا الحوار سيتحدث مشعل عن تحول "الاخوان المسلمين" في فلسطين الى حركة "حماس" التي استقطبت ايضاً شرائح اسلامية اخرى. سيروي قصة الولادة السرية على مراحل، ثم الولادة العلنية في بدايات الانتفاضة الأولى في كانون الأول ديسمبر 1987. سيحكي قصة العمل العسكري و"جنرالات القسام" والاعتقالات والعمليات الاستشهادية. وسيتطرق الى العلاقات الفلسطينية - الفلسطينية وعلاقات "حماس" بسورية والأردنوقطر ودول اخرى. لم يكن عالم ما بعد 11 ايلول سهلاً على "حماس". وعلى رغم عدم ضلوع الحركة في أي هجوم مسلح خارج الأراضي الفلسطينيةالمحتلة اتخذت اميركا اجراءات ضدها بوصفها "ارهابية"، وادرج الاتحاد الأوروبي جناحها العسكري في لائحة الارهاب، وقلصت دول عربية علاقاتها معها. براعة "حماس" خففت وطأة الحوار. مواقفها تتسم بالصلابة والمرونة معاً. تتشدد وتتساهل وتقرأ المتغيرات من دون ان يتغير برنامجها البعيد المدى. طالت جلسات الحوار وتعددت. وتباينت وجهات النظر في قراءة الأحداث واتسع صدر خالد مشعل لكل الأسئلة. ولد خالد مشعل في 28/5/1956 في بلدة سلواد في قضاء رام الله. بلدة محافظة ومتدينة يعمل ابناؤها في الفلاحة وجذورهم عميقة فيها. روايات والده عبدالرحيم عن مشاركته في مقاومة الانتداب البريطاني وفي ثورة 1936 تركت بصماتها على عقله ووجدانه. في الستينات توجه والده الى الكويت للعمل فيها. وبعد حرب 1967 التحقت العائلة به والتحق خالد بإحدى المدارس فيها. من مدرسة خالد بن الوليد الى متوسطة الحريري الحريري العتيق النائم في كتب الأدب العربي كان المناخ الفلسطيني هناك يسترجع صدى الهزيمة المؤلمة في 1967 ثم صدى التماع صورة الفدائيين في معركة الكرامة في 21 آذار مارس 1968. تديّن العائلة علّمه الصلاة والصوم منذ نعومة أظفاره، لكنه انتقل الى التديّن الحركي في ثانوية عبدالله السالم بعد مرافقته عدداً من الشبان من "الاخوان المسلمين". وفي 1971 انضوى في تنظيم "الاخوان". في مناخ الغضب الفلسطيني الذي اتسعت الكويت له، شاهد الشاب ياسر عرفات وصلاح خلف وخالد الحسن. مرات عدة كاد ان يغادر مقاعد الدراسة للالتحاق بالعمل الفدائي، لكن تفوقه الدراسي كان يدفعه الى التأجيل لاعتقاده بأن التحصيل العلمي سيساعده لاحقاً على أداء دوره الوطني. على مقاعد جامعة الكويت 1974 - 1978 انشغل طالب الفيزياء بالهموم الوطنية والاسلامية. ولا تزال ذاكرته تحتفظ بدوي حرب 1973، وفصول الحرب في لبنان، واحياء الفلسطينيين "يوم الأرض" في 1976، فضلاً عن توجه زملاء لتنفيذ عمليات في الداخل الفلسطيني، ثم رؤية الرئيس أنور السادات يزور الكنيست الاسرائيلية في 1977. رأس في الجامعة كتلة "قائمة الحق الاسلامي" التي خرجت بعد مناكفات مع "فتح" والكتل الأخرى، على اتحاد الطلبة بعد ثلاث سنوات لتشكيل ما عرف ب"الرابطة الاسلامية لطلبة فلسطين". ويقول مشعل: "كانت هذه الرابطة من اللبنات التمهيدية لحركة "حماس" التي بنيت لبناتها الأولى في غزة والضفة والشتات الفلسطيني. كان جسم الحركة يتشكل هنا وهناك". بعد الجامعة مارس التدريس. تزوج في 1980، وهو أب لثلاث بنات وأربعة صبيان. وفي النصف الأول من الثمانينات كانت "حماس" تولد سراً في أماكن عدة وعلى دفعات، وكان مشعل شريكاً في تلك المحطات قبل أعوام كثيرة من تحوله مسؤولاً علنياً. عندما اجتاح العراق الكويت كان في عمان في اجازة. بعد عشرة أيام وقبل تعليق حركة الطيران تماماً توجه الى بغداد ومنها الى صفوان الحدودية وبعدها في ساعة متأخرة الى الكويت. كان الدخول مغامرة بسبب عدم معرفة الواصلين بحظر التجول وكاد الرصاص ان يلامسهم. أمضى اسبوعاً في الكويت "رتبت أموري وعدت الى بغداد فأنا مسؤول في حركة ولا يسعني البقاء محاصراً". انتهت المرحلة الكويتية وبدأت مرحلة أخرى. يحمل خالد مشعل جوازاً أردنياً ويفترض ألا تكون هناك مشكلة في اقامته. لكنه ليس "مواطناً" عادياً في البلد الذي تحكم حساباته الأردنيةالفلسطينية اعتبارات شديدة التعقيد خصوصاً بعدما أقام الأردن علاقات مع اسرائيل تنفيذاً لخياره ألا يكون الأول في ذلك وألا يكون الأخير. في عمان، القريبة من خط التماس، كبر دور خالد مشعل بالتوازي مع تصاعد دور "حماس" في الداخل وانطلاق قوافل الاستشهاديين. وفي 1996 انتخبه رفاقه رئيساً للمكتب السياسي. لكن الحدث الأكبر والأخطر جاء بعد عام حين وافق رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو على اقتراح "موساد" شطب مشعل في عمان، فيما الشيخ أحمد ياسين معتقل في سجن اسرائيلي. وكانت غلطة نتانياهو مكلفة. غضب الملك حسين. وكان عامل الوقت ضاغطاً. وحدها اسرائيل تملك الدواء الذي ينقذ مشعل الممدد في المستشفى من السم الذي تسرب الى جسمه. ولم يكن أمام نتانياهو غير ارسال الدواء والتجاوب مع طلب العاهل الأردني اطلاق الشيخ أحمد ياسين زعيم الحركة. أما لماذا الإصرار على اطلاق ياسين فالجواب عليه يكمن في حسابات الملك الراحل. لم تشطب المحاولة مشعل. سلطت الأضواء عليه وحولته رمزاً. اتسع دور الرجل البارع الذي يصوغ المواقف المتشددة لحركته بعبارات منطقية تكاد توحي باعتداله. صلب ومرن. محاور لا يوصد الباب، يترك خيط الصداقة حياً حتى مع من يختلف معهم. قبل الخوض في تفاصيل "حماس" ولادة ومسيرة وفي العمليات الاستشهادية وتبريراتها وذيولها وآلية صنع القرار، سألناه ان يقدم الرواية الكاملة لمحاولة اغتياله وقصة خروجه من الأردن الى المحطة القطرية. اعتقد ان الوقت حان لمعرفة الرواية الكاملة لمحاولة اغتيالك. كيف حدثت؟ - صباح الخامس والعشرين من أيلول سبتمبر 1997، خرجت من مكان إقامتي في الشميساني، خلف حدائق الملك عبدالله، وذهبت إلى مكتبي في شارع الغاردنز في عمان. كان ثلاثة من أولادي الصغار برفقتي في طريقهم إلى صالون الحلاقة. وكان عدد الحراس المرافقين واحد أو اثنين قليلاً، كما كانت العادة. كنا نعتقد بأن الأردن لا تحصل فيه عمليات اغتيال. وكان تركيزنا على الحماية محدوداً في ذلك الوقت. عندما نزلت من السيارة وقبل الوصول إلى مكتبي حصلت الحادثة. في الطريق، كنت أجلس إلى جوار السائق الذي لاحظ ان سيارة تراقبنا وتلاحقنا من أمام البيت إلى مسافة نصف كيلومتر عن مركز العمل. وهي سيارة سياحية. وفي العادة يخبرني مرافقي إذا حدث أمر كهذا. هذه المرة لم يفعل. وقبل الوصول إلى المكتب سبقتنا السيارة وتجاوزتنا. وعندما وصلنا إلى مدخل البناية، واسمها مركز شامية، حيث كنت اقيم في الطابق الخامس، توقفت سيارتي على الرصيف وهناك محلات تجارية أمام البناية. ولاحظت شخصين، يرتديان الجينز ولهما شكل الأجانب، يبعدان عن مقدم سيارتي نحو مترين. ارتبت في أمرهما. كانا يرتديان نظارات سوداء ويبدو عليهما هاجس انتظار فريسة. ترددت في النزول من السيارة وتحدثت مع سائقي. شكلهما غير طبيعي وهو أثنى على كلامي. خرجت مع أخذ الحيطة. فعادة أنزل من مقعدي في جوار السائق وأسير. من باب الحيطة، استدرت من وراء السيارة وتحاشيت الرجلين. ولما وصلت الى مدخل البناية هاجمني من ارتبت في أمرهما. شهر أحدهما جهازاً بحجم مسدس علمت في وقت لاحق أنه يضخ مادة كيماوية سامة بطريقة مبتكرة فتدخل مسام الجلد من دون حقنة. وتم تشغيل الجهاز الى يسار رأسي وأذني. اهتزّ جسمي وتيقنت انني أتعرض لمحاولة اغتيال، وفوجئت. عادة يتم الاغتيال بالرصاص. وكان مستخدم الجهاز يلف يده بالشاش ليحمي نفسه من الأذى الذي قد يلحقه السم به. وقيل ان المهاجمين حملا إبرة فيها مصل مضاد للسم. ماذا حصل لك؟ وماذا فعل المهاجمان؟ - لم أقع أرضاً وفرّ الرجلان. وتعالجت على الأرجح بواسطة المادة التي على الأرجح كان الرجلان يحملانها. وتذهب إحدى الروايات الى ان نتانياهو تعرض لضغوط من أجل تسليم مصل العلاج. فمن نفذ العملية اعتبرها ناجحة لأن السمّ دخل الى جسمي. أما محمد أبو سيف، مرافقي الذي كان يتبعني بسيارة اخرى، فلحق بالمهاجمين اللذين لم ينتبها الى وجوده. فرا بالسيارة المستأجرة التي كانت تنتظرهما على بعد ثلاثمئة متر، بالقرب من مطعم الثروات. وحاولا إعاقة مرافقي ونجحا في ركوب السيارة. وأحسن مرافقي بإصراره على ملاحقتهما، ووقف في وسط الشارع المتفرع عن شارع الغاردنز وأوقف أول سيارة سلكت هذه الطريق. وألح على سائقها طالباً منه مساعدته على ملاحقة سيارة أخرى بسبب حادثة خطيرة. تصرف الرجل بشهامة وطارد السيارة التي دخلت مناطق سكنية وشوارع فرعية. وشاهد الرجلين يهمان بمغادرة السيارة، ويتجهان، مشياً على الاقدام، نحو شارع المدينة المنورة. تركا في السيارة المستأجرة كل أدوات الجريمة التي كانت بحوزتهما، والتي قيل انها أخذت الى السفارة الاسرائيلية. وشارع الغاردنز قريب من منطقة الرابية حيث السفارة الاسرائيلية. تبعد السفارة الاسرائيلية كيلومتراً واحداً عن مكان الجريمة. وذهبت كل الادوات المتروكة في السيارة اليها. فعميلا الموساد اللذان دخلا الاردن بجوازات سفر كندية، كما عرف لاحقاً، اطمأنا وابتعدا عن مسرح الجريمة. واتجها الى مكان تنتظرهما فيه سيارة أخرى. لم يخطر في بالهما أن مرافقي لحق بهما. وبعد ملاحقتهما راجلاً، بلغهما وتعارك معهما بالأيدي. لم يكن في حوزتهما مسدسات، لكن أحدهما كان يحمل أداة مسننة حادة، ضرب بها محمد أبو سيف على رأسه، وأصابه بجرح غائر، وعولج بخمس عشرة غرزة. وكان أبو سيف صائماً صيام تطوع في ذلك اليوم. تجمهر الناس حولهم ، وأعلم مرافقي المتجمعين أن من يتعارك معهما من ال"موساد" وحاولا قتل خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس". فلم يكن من المتجمهرين سوى محاصرة المهاجمين ومنعهما من مواصلة القتال. وحمل أحد الرجلين صخرة كبيرة ليقتل أبو سيف بها. وصادف العراك مرور ضابط في جيش التحرير الفلسطيني، فأخذ الرجلين في سيارته الى مركز أمن أردني في منطقة وادي السير. وفي المركز، شرح محمد أبو سيف الحالة لرجال الامن فاعتقلوا الرجلين. في هذه الاثناء لم نكن ندري ما يجري مع ابو سيف. فأنا ذهبت مباشرة الى مكان آمن حيث اتصلت بالمكتب السياسي وأطلعته على الحادثة وتفاصيلها. لم أذهب الى بيتي وتركت أولادي مع السكرتير الذي يعمل في مكتبي. أكدت للإخوة أن شيئاً حصل في جسمي في اثناء عملية الاغتيال. وفي أثناء حديثي اتصل المرافق هاتفياً بمكتبي وأبلغنا بالقبض على عميلي الموساد. فأدركنا ما الذي جرى. بعد نصف ساعة على الحادثة وبعد مشاورات مع المكتب السياسي نشرنا الخبر في وكالة "فرانس برس". وبثته في الحادية عشرة إذاعة مونتي كارلو. وبدأت الاتصالات مع الحكومة الأردنية عبر مدير الاستخبارات الأردني. في البدء نفت الحكومة الأردنيةالخبر ولم تكن لديها معلومات عما حصل. وذهب وزير الاعلام الأردني الى ان الحادثة طوشة او هوشة بين مرافقي خالد مشعل وسائحين كنديين. ولكن عندما أصبح عملاء ال"موساد" في مخفر أمن أردني، وبعد إلحاحنا على وزير الاعلام عاد المسؤولون الى تأكيد الخبر. وعلمنا لاحقاً أن المسؤول عن ال"موساد" في الاردن اتصل بالقصر. ويبدو ان نتانياهو، رئيس الحكومة الصهيونية السابق، أمر هذا المسؤول بالتدخل لتغطية فشل العملية وللمحافظة على العميلين المعتقلين في الاردن. بعد ساعتين بدأت أشعر بأعراض السم. في البدء كنت أشعر بدوي في الأذن. فقدت توازني وتقيأت. اصطحبني من كنت في رفقته الى المستشفى الاسلامي. ويتطلب الدخول اليه اجراءات، في حين كان الأمن الأردني يبحث عني. وتجمهر القوم حولي في جناح المستشفى والفريق الطبي، وجاءت قيادة المكتب السياسي وقيادة جبهة العمل الاسلامي والمسؤول عن شرطة العاصمة الأردنية. وعندما وصل الخبر الى القصر وانكشف الامر، تدخل الملك الحسين، متبنياً موقفاً جريئاً وشجاعاً. أمر بنقلي الى مدينة الحسين الطبية. فهو اقتنع بأن ما تعرضت له عملية من صنع ال"موساد". وفي وقت كنت أفقد فيه توازني ووعيي، دار جدل حول ذهابي الى المدينة الطبية أو عدمه. بدأ الاوكسيجين ينخفض في دمي ولم يكن الاطباء يعرفون ما يجري. تبين لاحقاً ان المادة السامة التي استهدفت بها تعطل مراكز التنفس اللاإرادي في الدماغ. فالانسان يتنفس بشكل لاإرادي خلال النوم. ومع السم يتوقف هذا النوع من التنفس، ويموت الانسان. راهن الاسرائيليون على انتهاء الامور بشكل طبيعي. وفي أدبيات ال"موساد" وفي المداولات الامنية المصغرة في عهد نتانياهو، ورد أنهم أرادوا عمليةً هادئة من دون متفجرات وإطلاق نار تفادياً لإحراج أنفسهم مع الأردنيين بحكم اتفاقية وادي عربة المبرمة عام 1994 مع الاردن. وأصبحت العملية بسبب فشلها صاخبة، ونقلت مساء الخميس الى المدينة الطبية وأصابتني حال نعاس شديد وبدأت أفقد الوعي تدريجاً. وضعوني تحت التنفس الاصطناعي بينما غبت عن الوعي من مساء الخميس وحتى صباح السبت. في فترة الغيبوبة هذه تصرف الملك حسن بحزم وشجاعة. قدرت موقفه وراسلته لاحقاً في فترة مرضه. اتخذ موقفاً انسانياً وجريئاً في وقت لم تحسن الحكومة الأردنية التصرف في هذه المسألة. وعرف لاحقاً، ان الملك حسين اتصل بالرئيس الاميركي بيل كلينتون، وهدد بإغلاق السفارة الاسرائيلية. ومع فشل نتانياهو في هذه العملية، ولاستيعاب تداعياتها، أرسلت إبرة العلاج. وقبل ذلك، استدعى الملك طبيبه الخاص من عيادة مايو كلينيك الذي فحص دمي وأبلغ الملك بوجود خيارين: إما أخذ عينة من الدم وفحصها في الاردن أو في العالم العربي حيث لا قدرة على كشف هذه المادة، وإما ارسال العينة الى الولاياتالمتحدة الاميركية لنعرف نوع السم. وشدد على ان الطريق الاقصر هو الاتصال بالجهة التي دست السم وطلب العلاج منها. وعندما حقنوني بالإبرة استعدت وعيي بعدما كنت في حالة حرجة. ومكثت في المستشفى أسبوعاً. ماذا عن خروج الشيخ ياسين؟ - طبعاً، أنا سعدت لأن محاولة اغتيالي الفاشلة كانت سبباً في الافراج عن الشيخ أحمد ياسين. وكنت من الذين زاروه في جناحه في مدينة الحسين الطبية. أدى فشل المحاولة والاحراج في اسرائيل الى بحث حكومة نتانياهو عن مخرج للتخلص من ضغط الملك حسين، ولاسترجاع عملاء ال"موساد". وقيل ان الأمن الأردني قبض على عملاء آخرين وان السفارة الاسرائيلية طوقت. فإفراج اسرائيل عن الشيخ ياسين وعن عدد من السجناء الفلسطينيين هو نوع من رد الاعتبار الى الاردن وتغطية على فشل ال"موساد". من طرح فكرة اطلاق الشيخ ياسين؟ - جاءت فكرة الافراج خلال التفاوض بين القصر في عمان والاسرائيليين. وأذكر ان الملك حسين ألقى خطاباً في الزرقاء تكلم فيه عن محاولة اغتيالي وذكرني بالخير، واشار الى احتمال الافراج عن الشيخ ياسين. وكان الملك موجوداً في المدينة الطبية قبل تماثلي للشفاء. وزارني قرابة الواحدة والنصف ليلاً لمدة خمس دقائق. شكرته وهنأني بالسلامة. سألته عن قصة الشيخ ياسين فأبلغني أنه سيصل في الليلة نفسها. ومن نافذة غرفتي وعند الساعة الثانية فجراً، رأيت طائرة هليكوبتر لم أعرف هل كانت أردنية أم اسرائيلية. ثم شاهدت الشيخ ياسين على كرسيه. بعدها نقل الى أحد الاجنحة. وعلى رغم عدم قدرتي على المشي، أصررت، عند الساعة الثالثة على رؤية الشيخ أحمد. سلمت عليه وقبلته. وكان هذا أول لقاء لي معه في حياتي. سبق لي لقاء بعض الإخوة من الذين أُبعدوا الى مرج الزهور عام 1993 مثل عبدالعزيز الرنتيسي. وكان الشيخ ياسين في السجن في ذلك الوقت. بعد صفقة التبادل، ساعة خروجي من المستشفى حضر الملك حسين والأمير الحسن والأمراء وعدد من المسؤولين الدينيين وأبو عمار. التقيتهم، في حضور الشيخ ياسين، في إحدى الغرف وشكرنا الملك. امضى الشيخ ياسين أسبوعاً في الاردن الى ان تمت صفقة التبادل. وأقلته طائرة أردنية من المدينة الطبية الى غزة، وتسلمت طائرة اسرائيلية عملاء ال"موساد". وألقى الشيخ ياسين كلمة قبل ذهابه والتقطت الصور ومن بينها صورة لي برفقته ورفقة الدكتور موسى ابو مرزوق ومحمد نزّال. متى كانت المرة الاخيرة التي قابلت فيها الشيخ ياسين؟ - رأيته للمرة الاخيرة في أثناء توقفه في السودان عام 1998. بداية الجولة كانت شكوى الشيخ ياسين من أذنه. وفي اتصالاتنا مع السعودية عرضنا عليهم مجيئه للحج والعلاج. وقامت الحكومة السعودية بجهد مشكور. واعتبرنا خروجه من غزة فرصة للقيام بجولة ورتبنا له جولة شملت السعودية والامارات والكويت وطهران واليمن وسورية والسودان ومصر، وعاد بعدها الى غزة. هل وردت فكرة إقامته في الخارج؟ - كلا لم يكن الامر وارداً بالنسبة الينا واليه. فمقصدنا أن نكون جميعاً داخل فلسطين. لا أحد يتبرع بنفي نفسه وإبعادها. هل ساهمت محاولة الاغتيال في صعودك داخل حركة "حماس"؟ - من دون شك، سلطت المحاولة الاضواء عليّ وعلى الحركة عموماً. وزاد بروزي الاعلامي. وأنا اعتبر ان أوضاعنا داخل "حماس" مرتبطة بالتاريخ الشخصي لكل منا، وبأدوارنا، ومعرفتنا بعضنا لبعض. لكن الأضواء الاعلامية تسلطت عليّ أكثر من قبل. هل تعرضت لمحاولة اغتيال ثانية؟ - بطريقة مباشرة ومحددة لا. ولكن كانت هناك تحركات تابعناها ورصدنا خيوطها الاولى. لم نحبط محاولة في آخر لحظة. نعم كانت لدينا معلومات عن محاولات لاستهدافي. وأوحى بعضها بأن هناك محاولات تعقب في بعض دول الخليج. ولكن لم تنضج المحاولة ولم تبلغ مرحلة اللحظة الاخيرة. وكانت محاولة اغتيالي درساً لنا في إعادة النظر في اجراءاتنا الأمنية، خصوصاً بعدما تعزز دور الحركة في النضال الفلسطيني وامتداد المعركة العسكرية بين الحركة والكيان الصهيوني. ومضت اسرائيل في استهدافنا في الداخل والخارج مما حدا بنا الى التيقظ وزيادة الإجراءات الأمنية على قيادات الحركة وكوادرها. في أي عاصمة تنام مرتاح البال؟ - أنام في كل الأماكن من دون القلق وهواجسه. الموت قدرنا كبشر ومن يركب طريق الخطر يتوقع كل شيء ولا يخشى شيئاً. ونحن مؤمنون بالله تعالى، نعلم ان الآجال محددة ومقدرة. ولكن هناك مناطق أكثر أمناً من غيرها. وخياراتي في الحركة محدودة بين الدوحةودمشق. أنا مستقر في الدوحةودمشق. هناك سر في الدوحة، دولة تستضيف قادة "حماس" وتدير "الجزيرة" وتستضيف قاعدة عسكرية اميركية! ما هذه البراعة القطرية؟ - يضحك تسأل عن براعة قطر ام عن براعة "حماس"؟ يدخلنا هذا السؤال الى ملفين، الأول ملف الإبعاد عن الأردن عام 1999 وملف علاقاتنا العربية. لدينا فلسفة في العلاقات. كانت علاقتك جيدة مع الملك حسين بعد محاولة الاغتيال؟ - نعم. التقيته مجدداً بعد اسبوعين من المحاولة. وراسلته اثناء مرضه، ومن المفارقات ان آخر رسالة منه وصلتني قبل يوم من وفاته. كيف كانت علاقتكم بقطر؟ - اقامت الحركة علاقة مع قطر منذ كان الأمير حمد بن خليفة ولياً للعهد. ونشأت علاقة طيبة مع القطريين. وبعد تسلمه مقاليد الحكم، بقيت علاقتنا قائمة. ربطتني علاقة شخصية مع الأمير ووزير خارجيته الشيخ حمد بن جاسم بن جبر. وليست علاقتنا بقطر جديدة بل هي تاريخية. وعندما أغلق الاردن مكاتب الحركة في نهاية شهر آب اغسطس يوم كنت في زيارة لإيران، اتصلت بعدد من الدول العربية، وأبلغتهم ان خطوة الاغلاق لا مبرر لها، وأننا لا نريد الدخول في مواجهة مع أي دولة عربية. واتصلت بالشيخ حمد بن جاسم بن جبر، وأطلعته على ما حصل، وطلبت منه القيام بجهد لحل هذا الوضع. بعد ثلاثة اسابيع من الأزمة، عدنا الى الاردن، وأدخلت سجن "الجويدة" مع المهندس ابراهيم غوشه. وماذا كان مبرر إغلاق مكاتب الحركة؟ - أراد الاردن انهاء العلاقة معنا. وقيل ما لا أصل له من الصحة لجهة حملنا اسلحة وارتكابنا مخالفات. نحن اردنيون، ولم نقم بأي مخالفة. وحقق معنا مدعي امن الدولة. وبعد دخولنا السجن، توسطت قطر، فأصرّ الأردن على مغادرتنا أراضيه اذا أفرج عنا. هل كنتم تعلمون أنكم ستتوجهون الى قطر؟ - كلا، لم يشارونا أحد في ما حدث. عند خروجنا من السجن في الاول من تشرين الثاني نوفمبر 1999، أخذونا الى مطار ماركة حيث فوجئنا بطائرة تنتظرنا. وأجبرنا، وكنا معصوبي الأعين ومقيدي الايدي، على دخول هذه الطائرة التي مضت بنا الى قطر. وكان على متنها محمد عبدالله المحمود، وزير الدولة للشؤون الخارجية. هل يعني ذلك ان الشيخ حمد بن جاسم هو من قام بالتسوية؟ - نعم. وضعنا الأردن تحت الامر الواقع. فذهبنا الى الدوحة. وأطلعنا الوزير محمد عبدالله المحمود انه منع من مشاورتنا في أمر مجيئنا الى قطر. كم مكثتم في الدوحة؟ - أقمنا شهوراً وسنوات في الدوحة. وحاولنا، بمساعدة القطريين، معالجة الأزمة مع الاردن. لكن محاولتنا باءت بالفشل. وأدى ذلك الى أزمة بين قطروالأردن. واخذنا نتنقل بين الدوحةودمشق. متى جئت الى دمشق؟ - ما زلت أتردد على الدوحة. ومنذ نحو سنتين، أقضي معظم وقتي في دمشق. هل حاول الشيخ حمد بن جاسم التوسط بينك وبين الرئيس ياسر عرفات؟ - في بداية الانتفاضة، لم تكن العلاقة مع السيد ياسر عرفات تحتاج الى وساطة أحد. والتقيت الأخ أبو عمار في مؤتمر القمة الاسلامي في الدوحة، وبقيت على اتصال هاتفي معه. وفي جولات الحوار الفلسطيني - الفلسطيني التي سبقت اعلان الهدنة، بذلت قطر جهداً كبيراً. وكذلك فعلت مصر التي اسضافت جولات الحوار. هل عرض الشيخ حمد بن جاسم الذي يلتقي شمعون بيريز، اجراء وساطة بين "حماس" واسرائيل لوقف العمليات؟ - كلا، لم يحاول. ولقاءاته مع بيريز معروفة. وقطر تتحمل مسؤولية سياستها الخارجية. ونحن لا نتوقع أن يعرض علينا أحد هذا النوع من الوساطات لأن سياسة "حماس" معروفة. ونحن لسنا في وارد إقامة أي اتصال من هذا النوع مع العدو الصهيوني. واقتصرت الوساطة القطرية على الحوار الفلسطيني- الفلسطيني. وابو مازن له علاقات وثيقة بالقطريين، الذين استضافوه في الماضي. هل قدمت قطر مساعدات الى "حماس"؟ - كلا، قطر مثلها مثل الحكومات العربية لا تقدم المساعدات الينا. المساعدات تأتي من لجان شعبية وجمعيات خيرية. وقد ينظم التلفزيون القطري يوماً لدعم الانتفاضة، وجمع التبرعات. غداً حلقة ثانية