الضجة التي رافقت اعتقال صدام حسين بالشكل المهين الذي رأيناه على شاشات التلفزيون يجب ألا تحجب الحقيقة الأصلية في موضوع العراق، وهي ان الحرب شنت لأسباب كاذبة تماماً، فلا أسلحة دمار شامل، ولا تهديد ممكناً، ولا علاقة مع القاعدة... لا شيء من 29 كذبة عرضتها واشنطنولندن وهما تستعدان للحرب. الثابت في موضوع صدام حسين هو انه ارتكب جرائم حرب رهيبة على امتداد عقود حكمه الظالم المظلم، وان أسوأ هذه الجرائم ارتكب في الثمانينات، وانتهاء باحتلال الكويت، عندما كانت الولاياتالمتحدة حليفته وتساعده هذه حقيقة لا أقصد بها ولو تلميحاً ان الولاياتالمتحدة شجعته، وإنما هو شجع نفسه بوجود أقوى دولة في العالم الى جانبه. الثابت كذلك، وهو ما أنا في سبيله اليوم ان صدام حسين كان معارضاً للسلام في الشرق الأوسط، وقد حاول دائماً كسب شعبية بالاستفادة من الاجماع العربي على القضية الفلسطينية، ولعب دوراً معطلاً تنبه له أكثر الاخوان في قيادات الفصائل الفلسطينية، وهو دعا قادة حماس والجهاد لزيارة بغداد مرة بعد مرة، ووعدهم بمساعدات مالية غير محدودة، إلا أنهم رفضوا التعامل معه، وقد حدثتهم عن الموضوع في حينه، وكتبت عنه في هذه الزاوية. وظلت قدرة صدام حسين على تعطيل العملية السلمية محدودة لبعده عن المواجهة، ثم الحصار الذي فرض على العراق. غير ان قدرة آرييل شارون على تعطيل العملية السلمية بلا حدود، وطالما ان الاميركيين ازالوا عقبة صدام في وجه السلام، فإنه يبقى ان يزيلوا عقبة مجرم الحرب الأقدم آرييل شارون. إدارة بوش لن تخطط لتحالف ضد شارون، فهي لا تزال تعتبر اسرائيل ديموقراطية... ديموقراطية القتل والتدمير ومعسكرات الاعتقال النازية، غير ان السلام في الشرق الأوسط لن يجد فرصة إلا اذا زال شارون عن الخريطة كصدام، فهذا ثابت آخر أفرزته الحرب الأميركية على العراق. ولعل من القراء من سمع كيف أن شارون نقل التهمة عنه بعد اعتقال صدام حسين، فقال ان اطاحته درس لسورية والسلطة الفلسطينية، مع ان الدرس هو لشارون وحده. بقدر ما ان شارون شبيه صدام حسين في الجريمة، فإن سورية نقيض عراق صدام حسين، وعندي للقراء قصة تغني عن شرح. بعد عودة "الحياة" الى الصدور في لندن سنة 1988، اتصل بنا مسؤولون عراقيون، أذكر منهم نزار حمدون الذي عرفته سفيراً لبلاده في واشنطن ثم الأممالمتحدة، وطلبوا ان توزع "الحياة" في العراق. وكلف مجلس الادارة الزميل جورج سمعان، رئيس التحرير الحالي، ومدير التحرير في حينه، أن يذهب الى بغداد لترتيب توزيع "الحياة"، فذهب وفي جيبه طلب موقع لعرضه على السلطات المعنية. أخونا جورج، وهو موجود ويمكن مراجعة التفاصيل معه، قابل كبار المسؤولين، بمن فيهم طارق عزيز، وانتهى مع لطيف نصيّف جاسم، وزير الاعلام في حينه. كانت جلسة حميمة، وقال الوزير ان العراق يرحب ب"الحياة"، وأكد انها ستكون في بلد حر ومن دون رقابة البتة. وهمّ جورج بإخراج طلب التوزيع من جيبه، لولا ان الوزير أكمل قائلاً ان هناك شرطاً صغيراً واحداً. وسأله جورج بارتياب: ما هو؟ وقال لطيف نصيّف جاسم: لا تنشروا أي شيء عن سورية. واستغرب الزميل هذا الطلب "الصغير" وسأل الوزير كيف لا ننشر أي خبر عن سورية، فقد يزورها رئيس دولة أو تجري اتصالات مع الأميركيين، أو تعلن موقفاً من القضية الفلسطينية. ورد الوزير العراقي وقد بدأ صوته يرتفع بطريقة ديموقراطية: قلت لك ولا خبر... ولا خبر عن سورية. سورية غير موجودة على الخريطة. وعاد جورج سمعان الى لندن وأوصى مجلس الإدارة بنسيان التوزيع في العراق، وهكذا كان. وعندما احتلت الكويت أغلق مكتبنا في بغداد، وأنكرنا مراسلنا وأنكرناه صوناً لحياته، ولم نعد إلا بعد سقوط النظام، فكانت "الحياة" أول صحيفة عربية توزع في العراق. النظام السوري كان دائماً أول عدو لنظام صدام حسين وأكبر عدو. وفي حين أن أنظمة عربية أيدت صدام حسين في حربه على إيران، ولزمت أنظمة اخرى الصمت، فإن دمشق كانت العاصمة العربية الوحيدة التي انتصرت لطهران، وتعرضت لحملات عراقية وعربية أخرى، وصمدت في موقفها، فيما كانت الولاياتالمتحدة تساند نظام صدام وتشجع الرئيس الأحمق على خوض مغامرات أخرى، حتى وقع على رأسه باحتلال الكويت. ان كان هناك من شبه بعد سقوط صدام فهو مع آرييل شارون، مجرم الحرب الذي يبني سداً في وجه السلام، ويعرض أرواح الاسرائيليين والفلسطينيين الى مزيد من الأخطار. كان إسقاط صدام انجازاً للقوات الأميركية فهو ما كان ممكناً من دون تدخلها، والخطوة التالية مع تعذر اسقاط شارون في حرب مماثلة، هي عزله سياسياً والتمهيد لقيام حكومة اسرائيلية تعمل للسلام.