القاعة تغصّ بالمشاهدين. كل شيء جاهز لانطلاق العرض. إلتقط الجمهور انفاسه تلك الليلة في "مسرح المدينة"، في انتظار أن يحدث شيء ما. الأنظار مسلّطة إلى الخشبة: هناك طاولة تتوسّط المسرح، تقوم مقام مكتب على الأرجح، خلفها كرسيّ فارغ، سيبقى فارغاً طوال الوقت، لأن "البحث عن موظّف مفقود" مسرحيّة بلا مسرح ولا ممثلين قدّمت ضمن اطار "أشغال داخليّة - منتدى عن الممارسات الثقافيّة" الذي نظّمته جمعيّة أشكال ألوان" في بيروت. على جدار العمق ثلاث شاشات، الأولى كبيرة في الوسط خلف الطاولة وإلى اليسار واليمين، على مستوى أعلى وبحجم أصغر قليلاً، هناك شاشتان اضافيتان. لكن أين الممثلون؟ ماذا يضمر لنا هذه المرّة ربيع مروّة، مؤّلف العرض ومخرجه وممثله؟ أيّة مفاجآت يخبئ، هو الذي يأتي، مع كلّ عمل جديد، من حيث لا يتوقّعه أحد... دائماً عند الحدود الواهية بين الواقعي والمتخيّل؟ أين ربيع مروّة أصلاً: تراه "ينتظرنا في الخارج"؟ احالة إلى مسرحيّة سابقة له بعنوان "تفضّل يا سيّدي، نحن ننتظرك في الخارج". فجأة نرى "صورة" الممثّل على الشاشة المركزيّة. يبدأ بمخاطبتنا كمن يلقي محاضرة، أو يقدّم ريبورتاجاً، أو يذيع برنامجاً... نبحث عن الأصل، عن الحضور الجسدي. فنحن جئنا إلى المسرح لنتفرّج على الممثل بلحمه ودمه. ولكن عبثاً: الخشبة ستبقى فارغة، وسنكتشف أن ربيع مروّة معنا على مقاعد الجمهور. كأنّه أراد أن يتفرّج على نفسه هو الآخر، فجلس مثلنا في الصالة، في مواجهة كاميرا صغيرة، تحيله حضوراً افتراضياً على شاشة فيديو وسط المسرح. هذا الفنّان الذي تربطه أواصر قربى بالكندي روبير لوباج، والأميركي بيتر سيلرز، يلعب على تفاوت مستويات السرد، وتعدد زوايا النظر المتضاربة احياناً الى الحقيقة الواحدة. وهو يمضي، من خلال عمله الجديد، في استعمال الامكانات السمعيّة - البصريّة، والتقنيات المتعددة الوسائط الميلتيميديا، لدفع العرض المسرحي إلى حدوده القصوى، إلى اللامسرح واللاتمثيل، حيث تنعدم الجاذبية "التقليديّة" وتضيع الفروق بين الأنواع والأشكال والقوالب التي يمكن تصنيف "العرض" في خانتها. ولغياب الممثّل عن "الحلبة"، ووجوده في مكان مستتر تاركاً صورته تنوب عنه، صلة عضويّة بموضوع "البحث عن موظّف مفقود". يشتغل ربيع مروّة في عمله الجديد على شعريّة الاختفاء - أو التواري - بأبعاده الرمزية، وباعتباره الطريق الوحيد - ربّما - الى الحريّة، في مجتمع أفراده محاصرون بالجماعات والطوائف والعشائر والأحياء والمناطق. يحكي لنا الممثل، بضمير المتكلّم، كيف كان يقتطع الاعلانات عن المفقودين في الصحف، ويجمعها في دفتر أشبه ب"سجلّ اختفاء" اذا استعرنا عنوان فيلم شهير لإيليا سليمان. إنّه ينظر الى الاختفاء بصفته "من علامات الحداثة"!، أي هروباً عبر "الفسوخات" من طغيان الجماعة. يقول إن ما يشغله هو الاختفاء بصفته وجوداً معلّقاً، "موت الفكرة لا موت الجسد". حين يكون الفرد "موجوداً وغير موجود، عايش ومش عايش... غائباً وسوف يعود"... ما يفترض تأجيل كل شيء حتّى الدموع في المآقي... الغياب إذاً، خياراً جمالياً، ومجازاً وجودياً وسياسياً، هو حجر الأساس في عمل ربيع مروّة. غياب الممثل والمؤلف والنصّ، غياب "البطل" والشخصية والموضوع، هل نضيف: غياب الدولة والمؤسسات الشرعيّة والعدل والمنطق؟... مع أن العمل أبعد ما يكون عن الادعاء الايديولوجي!. وغياب "المسرحيّة" التي جئنا نشاهدها من أساسها. إذ ليس هناك، في نهاية الأمر ظاهريّاً طبعاً، لكنّ الظاهر هو هنا جوهر العرض سوى قصاصات جرائد مجموعة بعناية، ومثبتة في ثلاثة دفاتر مدرسيّة مختلفة الاحجام والألوان، يقلّبها بين يديه "الممثّل - الراوي" الذي يؤدي شخصيته "الحقيقية" في الحياة. يقرأ منها مقتطفات، معلّقاً وشارحاً ومتأملاً وملخّصاً، في محاولة لترتيب خيوط حكاية شائكة ومعقّدة، مقلقة وغريبة. وشيئاً فشيئاً تتضح معالم الحكاية، وتتشكّل المسرحيّة أمامنا عبر سعيه إلى حلّ اللغز، وتقصّي الأسرار، واستحضار الغائب. إنّّها حكاية "مفقود افتراضي": موظف فئة رابعة خرج من مكتبه في وزارة المال في بيروت، ذات يوم من أيلول سبتمبر 1996... ولم يعد. وترافق اختفاؤه مع انفجار فضيحة اختلاس بلايين الدولارات في وزارة المال. وقع ربيع مروّة بالمصادفة على خبر اختفاء الرجل في الصحف، وراح يرصد كل ما ورد عنه خلال تلك الفترة في ثلاث صحف لبنانيّة، من الخبر العابر، مروراً برسائل الزوجة إلى الرؤساء الثلاثة والأب إلى الرأي العام و"الموظّف الذي عنده ذرّة ضمير"، وشهادات المعارف والاصحاب، والسؤال المحيّر: كيف لموظّف فئة رابعة، معجب جداً بالوزير دلول، ويهوى الفنون الجميلة ويحبّ الطبيعة وعائلته والملاكمة، أن يفرّ وحده بكلّ هذه البلايين؟، وآراء القضاة بقضايا الفساد، وتقارير الشرطة، ومقالات الصحافيين الذين كتبوا "الرواية الكاملة..."، وردود المعنيين التي نشرتها الصحف "عملاً بقانون المطبوعات"، و... وصولاً الى مانشيتات الصفحة الأولى. ذلك أن الحدث الأمني العابر صار قضية وطنية، وكبرت الفضيحة وتشعّبت وتطوّرت، ووجد "المتواري" مقتولاً، وتوارى آخرون وقتلوا، وتراشق سياسيون تهم الخطف والقتل والاختلاس، وازداد عدد الضحايا والقتلى والمتهمين والمشبوهين والمتورطين... بما في ذلك "الرؤوس الكبيرة" التي لن نعرف عنها شيئاً طبعاً! توثيق وتوليف حكاية بوليسية مشوّقة. نبقى نشكّ في كونها "حقيقية"، نتصوّرها من نسج الخيال، مع انّ ربيع مروّة يستعمل الأسماء الحقيقية، ويستشهد بمراجع ثقات... ومع أن كاميرا ثانية يحركها مصوّر في أعلى الصالة فوق ربيع، تنقل لنا على شاشة اليمين لقطات مقرّبة للمقالات الصحافيّة وعناوينها وتاريخ صدورها، وللصور التي ترافقها، صور المفقود الأساسي، والمفقود الثاني الذي اتهم بقتله ثم قتل بدوره... والأقرباء والشهود والأطراف الأخرى التي تلعب دوراً في سياق الأحداث. إننا أمام عمل توثيقي فعلي، بالأسماء الحقيقيّة والوقائع والتواريخ، ومواقف سياسيين بارزين، وتحليلات صحافيين معروفين، ووقائع حصلت فعلاً، لكنّ المادة الأرشيفية تستحيل، بسحر ساحر، حكاية غرائبيّة، تعكس واقعاً عبثياً، وتختصر مرحلة من أبشع مراحل الجمهوريّة الثانية الغارقة في الفساد وغياب دولة القانون والشفافية والعدالة. نجح ربيع مروّة في تحقيق عمل صعب فريد من نوعه في المسرح العربي، على رغم بساطته الظاهرة. فبعد البحث المضني والجهد التوثيقي الذي تطلب عملاً استقصائيّاً فعلياً، كان لا بدّ من التغلب على ثقل المادة الأرشيفيّة، والطابع التقريري "العادي" للحكاية. ولعل قوّة العرض تكمن أساساً في عملية التوليف، واختيار العناصر والمعطيات ودمجها تبعاً لسياق معيّن، وترتيب التفاصيل في قالب درامي، ديناميكي ومشوّق ومثير. ويرافق ربيع ممثّل آخر صامت حاتم إمام، جالس في مكان آخر من الصالة، يدوّن وقائع الحكاية على لوح أبيض، ونتابعه من خلال كاميرا أخرى على الشاشة الثالثة إلى يمين المسرح، ما يتطلّب من المشاهد التركيز على أكثر من مستوى في آن واحد.. هكذا كان في وسعنا أن نقرأ، تبعاً لورودها في كلام الراوي، أسماء المشبوهين والمعتقلين على ذمّة التحقيق في القضيّة، بحسب التقارير الامنية... والمدن التي قيل إن المختفي هرب إليها... والادارات الرسمية التي طاولتها فضائح الاختلاس، وأسماء السياسيين الذين لهم علاقة ما بملفّ اختفاء أو قتل الموظّف ر. سليمان، وتقديرات المبلغ المختلس من "الماليّة"، التي لا تنفكّ تتغيّر حسب المصادر ومراحل تطوّر القضيّة. وكل ذلك ينتج عنه "خريطة" معبّرة في نهاية العرض... خصوصاً أننا لن نعرف من قتل الموظّف المفقود، ولماذا قتل؟ ومن صفّى زميله السابق وقاتله المفترض ف. موصللي؟ كما أننا لن نعرف من وراء اختلاس البلايين، ولا كم تبلغ تلك الأموال المختلسة تتراوح بين 3 بلايين و40 بليوناً!... وهي تارة بالدولار وطوراً بالليرة اللبنانية، ودائماً نقلاً عن مصادر رسميّة، ولا أين هي الآن... ولن نعرف علاقة المختفي وقاتله بهذا الزعيم أو ذاك... لن نميّز الحقيقة من الكذب وماذا يهمّنا أصلاً من كلّ ذلك؟! أما اداء ربيع مروّة الذي يبدو عاديّاً - وهو ليس كذلك - فأعطى العرض حيويته ونبضه ومقدرته على التأثير، خصوصاً أنّ الاداء مرتبط بكتابة النصّ ارتباطاً وثيقاً. استعمل الممثّل الذي أقنعنا بأنّّه لا يمثّل، والمؤلّف الذي كدنا نصدّق أنّه لا يفعل سوى قراءة ما نشرته الصحف، كل مهارات السرد، وأكثرمن الاستطرادات الذاتية التي تحيل الى واقع الراوي نفسه، وصولاً الى معاناته في جمع القصاصات ولصقها بالمقلوب أحياناً!... كما غلّف اشاراته وتعليقاته الصغيرة بنبرة منحازة على رغم حيادها المفترض، فإذا به يضحك الجمهور في لحظات مأسويّة، أو يدفع المشاهدين الى شهقات دهشة واستغراب، أو صيحات استنكار واستهجان وادانة، قبل أن تغرق الصالة في صمت حائر، وهي تسمعه ينهي "مداخلته" بقراءة تحذير إلى المشاهد... وهو التحذير نفسه الذي سبق ل"اليد" أن كتبته على شاشة اليمين في مستهلّ العرض بمثابة جنريك البداية قبل أن يكون المشاهد استوعب تماماً ما يجري: "هذا العرض لا يحاول البحث عن الحقيقة، ولا غير الحقيقة... لا عن متهم ولا عن بريء. وبالتأكيد لا عن مجرم ولا عن ضحية. ولا يهمّه أن يمدح أحداً، ولا قصده أن يشهّر بأي شخص. هذا العرض عرض مسرحي فقط، وبين الحقيقة والكذب هناك شعرة، لا أعرف إذا كانت شعرة معاوية. لكنني سأحاول قطعها، وأنا أفكّر بما قاله الشاعر: يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحا/ كعاشقٍ خط سطراً في الهوا ومحا". في مسرحية "البحث عن موظّف مفقود"، كلّما تهنا في الوهم... اقتربنا من الحقيقة! يشتغل ربيع على الالتباس بين النصّ الواقعي والنص المؤلّف، يموّه الفروقات بين الأصل واحتمالاته الأخرى. لكنّ رعد يسعى الى تقديم العمل الفنّي المركّب في مظهر الوثيقة، كأن يختلط الوعي الموضوعي والوعي الذاتي. أما ربيع مروّة فيشتغل هنا، في الاتجاه المعاكس، إذ يقدّم الواقع بصفته عملاً فنياً مركّباً: الواقع إذ يضاهي الخيال غرابة. يواصل هذا الفنّان المشاكس الذي يصعب تصنيفه، لعبة البحث عن معنى الفرجة، وأقصى احتمالاتها، ووظائفها اليوم في زمن الانترنت والوسائط المتعددة. يستنتج - مرة أخرى - استحالة قيام العرض بالمعنى المتعارف عليه، فيحوّره متوسّلاً تقنيات جديدة، ويبحر خارج السرب، مبتعداً عن الاشكال السائدة، بل المستهلكة، في المسرح العربي الراهن. يذهب الى اللامسرح واللاتمثيل، فيعطينا لحظات نادرة من "المسرحة" والفرجة والتواصل. ربيع مروّة يحاول أن يقول لنا إن المسرح بات في مكان آخر. وهذا ما يصعب أن يقتنع به - أو يسلّم به - معظم المخرجين العرب وجمهورهم ونقادهم... حتّى هذه اللحظة على الأقلّ!