"أنا رجل مريض، أنا انسان خبيث. لست أملك شيئاً مما يجذب أو يفتن. أحسب انني اعاني مرضاً في الكبد. على انني لا أفهم من مرضي شيئاً على الاطلاق، ولا أعرف على وجه الدقة أين وجعي. وأنا لا أداوي نفسي ولا داويت نفسي في يوم من الأيام، على رغم انني احترم الطب والأطباء. وانني من جهة أخرى أؤمن بالخرافات الى أقصى حد، أو قولوا انني أؤمن بها الى الحد الذي يكفي لاحترام الطب انني أملك من الثقافة ما يكفي لأن لا أكون مؤمناً بالخرافات، ولكنني أؤمن بها مع ذلك. لا... لا، لئن كنت لا أداوي نفسي، فإن مرد ذلك الى خبث وشر! لا شك في انكم لا تتنازلون الى حيث تفهمون هذا، ولكنني أنا أفهمه". بهذه العبارات التي يوجهها شخص يطل بها فجأة، الى جمهور من قراء لا يراه ولا يعرف أصلاً ما إذا كان له وجود، يفتتح الكاتب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي، واحداً من أغرب أعماله، بل من أغرب الأعمال الأدبية التي ظهرت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر: "في قبوي"، هذا النص العجيب والسوداوي، الذي يقع في أقل من مئة صفحة على الأقل في الترجمة العربية الرائعة التي قام بها الراحل سامي الدروبي ضمن اطار ترجمته لأعمال دوستويفسكي الكاملة، والذي يتجه كثر من النقاد الى اعتباره الأساس الذي بنى عليه الكاتب روايته الكبيرة "الجريمة والعقاب". والحال ان الباحثين والنقاد لا يزالون الى اليوم يترددون في تصنيف هذا النص: هل هو قصة طويلة، هل هو لكتاب ذكريات، اعترافات؟ كتاب فلسفة عدمية؟ نص يبحث عن الخلاص" والحقيقة أنه يبدو لنا كل هذا، في الوقت نفسه، بخاصة إذا عرفنا كنه الظروف التي كتب دوستويفسكي نصه هذا في خضمها: كان ذلك أوائل العام 1864 في وقت كانت فيه زوجته تعاني ألاماً وأمراضاً قاسية أوصلتها الى الاحتضار. فكانت تلك الفترة فترة شديدة الظلام في حياة الكاتب الذي كان في الثالثة والأربعين من عمره. ولئن كان دوستويفسكي قد نشر الجزء الأول من النص في مجلة "العصر" عدد كانون الثاني/ يناير من ذلك العام، فإنه تباطأ في انجاز القسم الثاني، حتى وان كان قد ذكر في رسالة الى أخيه 12 نيسان/ ابريل ان هذا القسم "يضع القصة على سكة جديدة غير متوقعة". وإذ ماتت الزوجة بعد كتابة هذه الرسالة بأيام، توقف دوستويفسكي عن انجاز نصه لأيام أخرى، ثم استكمل العمل، حتى اكتملت الأحداث، قاسمة النص حقاً الى قسمين: الأول يأتي على لسان "البطل" على شكل مونولوغ طويل، أما الثاني فتتداخل فيه شخصيات وأحداث أخرى تبدو وكأنها تخرج "البطل" من قبوه الذي ينزوي فيه مثل فأر، لكنها في الحقيقة تضعنا على الأسباب التي قادته الى ذلك القبو. ومهما يكن من أمر فإن دوستويفسكي نفسه يحدد كنه عمله هذا بقوله: "هذه "ذكريات" وصاحبها. والذكريات نفسها من صنع الخيال. على أن بشراً كخالق هذه الصفحات يمكن أن يوجدوا بيننا، بل يجب أن يوجدوا بيننا، بسبب الظروف التي تحكم تطور مجتمعنا. لقد أردت ان أظهر الناس، بقوة تفوق ما الفنا من قوة، على طبع من الطباع التي تعيش في زماننا هذا. هو واحد من ممثلي الجيل الذي يبقى، بعد زواله، هو نفسه. فأما الجزء الذي عنوانه "القبو" ففيه يقدم الشخص نفسه، ويفصح عن قناعاته، ويبدو انه يوضح أسباب مجيئه، أسباب ولادته الاجبارية في مجتمعنا. وأما الجزء الثاني فهو "الذكريات" الحقيقية لبعض أحداث حياة هذا الرجل". فكيف يقدم لنا هذا الشخص نفسه: انه رجل أناني الى أبعد حدود الأنانية، شرير حتى حدود السادية، لا يستقر له فكر ولا يقر له قرار ازاء نفسه وازاء الآخرين. حر، لكنه غيور من حريته التي لا قيود لها. أما الآخرين الذين يحيطون بهذا الشخص، فإنهم في معظمهم منتمون الى تلك الطبقة البيروقراطية الصغيرة من موظفي الدولة الذين نزعت عنهم اليد الحديد لحكم القيصر الى بشر انتزعت منهم انسانيتهم وشخصيتهم. وبدا كل منهم مقطوعاً تماماً عن جذوره. ومع هذا، على رغم ان دوستويفسكي يقدمهم الينا هكذا، كما يقدم "بطله" على هذا النحو، من الواضح ان الكاتب لا يرغب في أن يصور لنا صورة لا خلاف فئة اجتماعية. كل ما في الأمر أن هذه الشخصيات تبدو لنا، على مدار صفحات النص، أشبه بصورة للشخصية الرئيسية خلال فترة ما من حياته. في معنى ان كل ما هو مرسوم هنا، انما هو مرسوم للإمعان في تقديم رجل القبو، ووضعنا - وضعه - في مواجهة حقيقته. وما القبو هنا بقبو حقيقي طبعاً، بل هو السرداب الداخلي، جحر الفئران المتمكن من أعماق هذا الرجل، إذ يعيش فيه منزوياً بعيداً من العالم، كئيباً، شبه ميت، فاقد أي شعور وأي ايمان، غير تواق في التواصل مع أي كان. كل رغبته تكمن في التعاطي مع حريته التامة ومع حقه في اللاعقلانية. وها هو يعلن ثورته على كل الذين يرغبون في جعله يتخلى عن لا عقلانيته وهذيانه. انهم يريدون ان يخضعون لمنطق فحواه أن ظ 2"2=4. لكنه هو يتمرد، حتى على هذه المسلّمة. ويتساءل: ماذا إذا كانت هذه المعادلة لا تعجبني؟ وفي القسم الثاني يعود رجل القبو سنوات عدة الى الوراء ليحدثنا عن حياته وسط زملاء العمل في الكتب. انه يعيش في منأى عنهم. لا يحبه أحد منهم، وهو لا يسعى الى ذلك الحب. وحتى حين يتواصل معهم، فإنما يفعل ذلك لكي يزيد من كراهيته لهم وكراهيتهم له. وهو يروي لنا كيف انه فرض نفسه مرة ليشاركهم مأدبة تقام لوداع زميل لهم ضابط. انه يدفع حصته من تكاليف المأدبة، ويشاركهم، ولكن فقط، لكي يبدي للضابط، خلال المأدبة، أقصى درجات الاحتقار والكراهية. وإذ يتوجه الجميع الى بيت للدعارة بعد المأدبة، يرافقهم - من دون أية رغبة حقيقية، وحتى من دون أن تكون لديه امكانات ذلك المادية -، يقترض ليرافقهم. وهناك يكون من نصيبه المومس ليزا، لكنه بدلاً من أن يمارس الحب معها، يبدأ بوعظها بكل قسوة وبشتمها بسبب الحياة التي يعيشها. لكن "المعجزة" تحدث هنا: انها، بدلاً من أن تسخط عليه إذ يمعن في شتمها، تجهش بالبكاء... ويبدو واضحاً انها وقعت في حبه، وإذ تلحق به الى غرفته في اليوم التالي محاولة الارتباط به، يبدو واضحاً خوفه من الحب فيطردها مفضلاً العزلة في القبو، على أية علاقة تعيده الى الحياة. وينتهي الأمر بليزا الى مبارحة المكان غاضبة. وهنا يلحق بها هو مستغفراً وسط الثلج والصقيع، لكنه يعجز عن ادراكها، فيعود الى "قبوه" "مثقل القلب بالعذاب". لكنه سرعان ما يهدأ، إذ يرى ان الاهانات التي ألحقها بليزا ستطهر روحها. إذ ليس ثمة شيء مثل الألم يطهر القلوب... والحال ان هذا البعد الأخير، والذي تفسره صفحات في الرواية منعتها الرقابة يومها، ولم يعد دوستويفسكي يرى لاحقاً دافعاً لاعادتها الى النص حين نشره، يعطي "في قبوي" بعده المسيحي الحقيقي. ذلك أن الألم كمطهر للروح، ثم الإيمان كوسيلة وحيدة للخلاص في الصفحات الغائبة، أمران لا يجب أن يغيبا عن ذهن القارئ حتى يدرك تماماً مرمى دوستويفسكي. ومهما يكن من الأمر فإن هذا العمل ظل عصياً على ادراك وقبول معاصري دوستويفسكي، إذ ظل منبوذاً - يُستنكف حتى عن ضمه الى الأعمال الكاملة - طوال القرن التاسع عشر. فإذ أتى القرن العشرين، أعيد الى "في قبوي" اعتباره واكتشفت غرابته كما اكتشف عمقه. ورأى فيه كثر مفتاحاً أساسياً لفهم أعمال دوستويفسكي 1821 - 1881 الكبرى، مثل "الجريمة والعقاب" و"الأخوة كارامازوف" و"الأبله" و"المراهق" و"الشياطين".