هما اثنان، ارتبط اسماهما ببعضهما بعضاً منذ مئات السنين. هو جميل الذي هام في حبها إلى ما لا نهاية، فتخلى عن نصف هويته ليكتسب هويتها وحده. أما هي فبثينة التي خضعت لمشيئة أهلها وتزوجت غيره، تاركة حبيبها ينظم أشعاره وحيداً. جميل بن معمر أو كما عرف ب"جميل بثينة" تمسك بحبه حتى بات من طرف واحد. فاختزله، في اسم بثينة وحدها... حتى إذا سئل: ممن أنت؟ أجاب: "من قوم إذا عشقوا ماتوا". تصدى للتقاليد الصارمة كان جميل بن معمر شاعراً حجازياً من قبيلة عذرة التي رمت رحالها في وادي القرى على مقربة من المدينة. عاش مع عائلته على تربية المواشي والإبل وفق الحياة البدوية آنذاك. وعي على ابنة عمه بثينة التي كانت ترافقه لرعاية الماعز والإبل في الأراضي القريبة من القبيلة. أحبا بعضهما بعضاً، وكبرا معاً على عهد الزواج في ما بعد غير آبهين ببيئة كانت تنظر إليهما بعين الشك. فجميل كان يردد الأبيات الغزلية لبثينة على مسمع من الجميع، صاماً أذنيه عن نصائح قومه الذين كانوا يطلبون منه أن يخفي حبه. ولما باتا في عمر يسمح لهما بالزواج، تقدم جميل من والد بثينة طلباً ليدها... إلا أن التقاليد كانت سبقته إليه وأقامت حاجزاً لا يقهر أمام حبهما. فهل يعقل أن يعرّض والدها شرفه وشرف كل عائلته للإنتقاد والإنتهاك، فيزوّجها لمن ملأ الدنيا قصصاً وأبياتاً عنها ليظن الناس من حوله أنه كان له صلة بها قبل الزواج؟ ورفض الوالد طلب جميل وطرده من بيته مانعاً عنه رؤية بثينة. ولما أصر جميل على موقفه وعلى تكرار زياراته محاولاً رؤية حبيبته خاف الوالد من العار واعتقد أنه سينهي القصة بتزويج ابنته من رجل آخر من قبيلة ثانية. وجنّ جنون جميل الذي زاد الكيل كيلين، ورأى في رفض جمعه بحبيبته زيتاً يسكب على نار حبه الذي تأجج ولعاً ببثينة. وتابع إرسال مراسيله إلى بثينة المتزوجة... حتى نفذ صبر والدها وشكاه إلى والي المدينة مروان بن الحكم الذي أهدر دمه وطالب بقتله قبل أن تتفاقم المسألة وتتحول حرباً دامية بين قبيلتين، سببها حبيب يصّر على حبه مهما كلف الثمن. واضطر جميل إلى مغادرة القبيلة هرباً ممن يريدون قتله. ولم يحمل معه سوى اسم بثينة وأشعاره التي كان يزيدها قصائد كلما زاد شوقه لرؤية حبيبته. الوشاة كثر وقلّ الأصحاب من حول جميل بعدما لم يرتدع ولم يسمع صوت العقل، فبدأ يلوم الجميع على فقدانه حبه الوحيد والأوحد. ولما لم يعرف شيئاً عن أخبار بثينة، راح يرسمها أجمل الجميلات في مخيلته، ماحياً من تقاسيم وجهها وقوامها كل ما هو نافر أو قبيح، قائلاً: هي البدر حسناً والنساء كواكب / وشتّان ما بين الكواكب والبدر! واستمر في تغزله المبالغ فيه بجمال بثينة، مفيضاً عليها من المحاسن إلى درجة أن صورتها لم تعد على حقيقتها... إلا في عين عاشقها الولهان. وأضحى وصفه لها يضرب كمثل للمبالغة في التغزل. واقتنع أن مبالغته في حبه يعود سببها إلى أنها سلبت عقله، وكأنه غير مسؤول أبداً عما جرى له، إذ يقول: ولو تركت عقلي معي ما طلبتها / ولكن طلابيها لما فات من عقل وبات الجميع يصبو إلى التعرف إلى "بثينة جميل" التي يجب أن تكون استثنائية شكلاً وروحاً، ليسترسل جميل في حبه لها على هذا الشكل، إذ هل يعقل أن تتمكن مجرد صبية حلوة من سلخ شاعر عن بيئته ومن جعله هارباً، لا يرتدع ولا يخاف ولا يوقف الغزل؟ ويروى أن بثينة دخلت يوماً على عبد الملك بن مروان الذي بادرها بالقول: "والله يا بثينة ما أرى فيك شيئاً مما يقوله جميل". وتقول رواية ثانية أنه قال لها: "ما رأى فيك جميل؟ فردت عليه فوراً: "الذي رآه الناس فيك حين استخلفوك...". فضحك طويلاً لسرعة بديهتها. ومع مرور الوقت، زاد هيام جميل الضائع في الصحارى بحثاً عن حبيبته، وغرق في بحر من الخيال متمنياً فقط أن تصل قصائده إلى بثينة... المتزوجة والتي لم يذكر أي مرجع أنها بقيت على وفاء حبه، على رغم أن جميل كان يضعها في المنزلة نفسها التي أوجد نفسه فيها، مقتنعاً كل الإقتناع بأنها لا تزال تحبه وهي في انتظاره. واستسلم جميل كلياً لرومانسية حبه الخيالي، معتبراً أن الحب يتلازم دوماً مع الشقاء والحزن، وكأنه يدفع ثمناً محقاً للحظات عابرة من الفرح القديم. فنحر نفسه طوعاً على مذبح الحب، متلذذاً بهذا الألم الذي يعصره، وبات يعانق لحظات الألم بلذة مطلقة ويدوس بفرح على شوك الفراق الذي يدمي قلبه، لمجرد أنه إثبات حي على أنه عاشق يحبّ. فيقول: خليليّ في ما عشتما هل رأيتما / قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي؟! وبقي جميل مشرداً في بلاده، ينظم القصائد لبثينة الصبية التي أضحت عجوزاً وعلى رأس عائلة كبيرة من الأولاد والأحفاد. وهكذا بقي وفياً لها حتى آخر لحظات حياته التي انتهت في مصر، ينظم لها الشعر، غير نادم على أي ثانية من عذابه وعلى الثمن الباهظ الذي دفعه لحبه العذري لها، قائلاً: مضى لي زمان، لو أخيّر بينه، / وبين حياتي خالداً آخر الدهر / لقلت: ذروني ساعة وبثينة / على غفلة الواشين، ثم اقطعوا عمري! ... لكن لسوء حظه، لم تسأل يوماً بثينة عن حياته ولم تطلب من أحد أن يفدي حياتها بساعة تمضيها مع جميل.