نمو الجولات السياحية ودعم الاقتصاد الوطني    «الحونشي»    حظي عجاجه والحبايب (قراطيس) !    هل بقيت جدوى لشركات العلاقات العامة؟    المسار الموثوق    أبها يتغلب على الخليج بهدفين في دوري روشن    نادي الرياض يتعادل مع 10 لاعبين من النصر    القمر يقترن ب «قلب العقرب» العملاق في سماء رفحاء    الاستثمار الثقافي والأندية الأدبية    "منشآت" تختتم أسبوع التمويل بمناقشة الفرص والحلول التمويلية لروّاد الأعمال    الهلال يتفنن بثلاثية أمام الطائي    تنوع أحيائي    د. رائد الحارثي: الذكاء الاصطناعي هو الحل للجدولة    ماذا بعد طلب «الجنائية» توقيف قادة في إسرائيل وحماس؟    مشروعات عصرية    مجدٌ يعانق النجوم    ثانوية السروات تحتفي بتخريج الدفعة الأولى من نظام المسارات    يونايتد المتعثر يقف أمام سيتي الطامح لكتابة المزيد من التاريخ    نزاهة: حادثة التسمم الغذائي بأحد مطاعم الرياض لن تمضي دون محاسبة    الراجحي يتحدى مرتفعات «باها اليونان» في كأس العالم    إثراء يختتم قمة الاتزان الرقمي "سينك" بنسختها الثانية    فيصل بن خالد يرأس اجتماع الجهات الأمنية والخدمية المشاركة في منفذ جديدة عرعر    فيلم "نورة"يعرض رسميا في مهرجان كان السينمائي 2024    فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة الشرقية يكرم موظف سوداني    موعد احتفال الهلال بلقب دوري روشن    انطلاق الهايكنج في الحريق    مستشفى أبها للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للربو"    مستشفى الحرجة يُنظّم فعالية "التوعية عن ارتفاع ضغط الدم"    وزير الخارجية يستقبل وزير خارجية النمسا    عرض ضخم من الهلال لجوهرة البرتغال    القبض على وافد بتأشيرة زيارة لترويجه حملات حج وهمية ومضللة    علامة HONOR تكشف عن بنية الذكاء الاصطناعي المكونة من 4 مستويات وتمضي قدماً مع Google Cloud من أجل مزيد من تجارب الذكاء الاصطناعي في VivaTech 2024    دفعة جديدة من العسكريين إلى ميادين الشرف    الداخلية: دخول مكة والبقاء فيها ممنوعان للزائرين    السعودية تدعم عمليات الإنزال الجوي الأردني لإغاثة الفلسطينيين في غزة عبر مركز الملك سلمان للإغاثة    السعودية تفوز بعضوية مجلس منتدى النقل الدولي ITF    إصدار 54 ترخيصاً صناعياً جديداً خلال مارس 2024    أمير حائل يشكر جامعة الأمير محمد بن فهد    رفع كسوة الكعبة المشرَّفة للحفاظ على نظافتها وسلامتها.. وفق خطة موسم الحج    أدبي الطائف يقيم الأمسية السودانية ضمن لياليه العربية    تمكين المرأة.. وهِمة طويق    تخريج 700 مجند من دورة «الفرد»    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 142 مجندة من الدورة التأهيلية    جنة الأطفال منازلهم    لقاء علمي يستعرض تجربة بدر بن عبدالمحسن    مغني راب أمريكي ينهي حياته في بث مباشر    معرض «لا حج بلا تصريح» بالمدينة المنورة    د. خوقير يجمع رجال الإعلام والمال.. «جمعة الجيران» تستعرض تحديات الصحافة الورقية    الخريجي يقدم العزاء بمقر سفارة إيران    دشن هوية «سلامة» المطورة وخدمات إلكترونية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يتفقد سير العمل في الدفاع المدني    الاستعداد النفسي أولى الخطوات.. روحانية رحلة الحج تبعد هموم الحياة    توريد 300 طن زمزم يومياً للمسجد النبوي    الأمير سعود بن مشعل ترأس الاجتماع.. «الحج المركزية» تستعرض الخطط التشغيلية    الكاتب العقيلي يحتفل بتخرج إبنه محمد    آل مجرشي وآل البركاتي يزفون فيصل لعش الزوجية    "أبرار" تروي تحديات تجربتها ومشوار الكتابة الأدبية    استشاري: حج الحوامل يتوقف على قرار الطبيب    جناح الذبابة يعالج عيوب خلقية بشرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بيروت تحتفل بالروائي السوداني الطليعي . روايات الطيب صالح تلتئم في "رباعية" الأرض ... والهجرة
نشر في الحياة يوم 03 - 02 - 2002

يعود الروائي الكبير الطيب صالح الى بيروت بعد طول انقطاع ليتذكّر ويذكّر قراءه بدورهم ان هذه المدينة هي التي كانت منطلقه الى عالم الرواية وإلى العالم العربي والغربي إذ فيها اصدر روايته الشهيرة "موسم الهجرة الى الشمال" ورواياته الأخرى مثل "عرس الزين" و"بندرشاه" وسواهما. وكان الشاعر الراحل توفيق صايغ سبّاقاً الى تبني رواية "موسم الهجرة" مشرّعاً لها صفحات مجلة "حوار" في العام 1966.
وعودته الى بيروت شاءتها "مؤسسة رياض الريس"، أشبه باللقاء الاحتفالي في مناسبة إصدارها كتاباً جماعياً عن هذا الروائي الطليعي تحت عنوان "الطيب صالح: دراسات نقدية" تحرير الناقد حسن ابشر الطيب. واللقاء يقام مساء غد الاثنين في فندق ماريوت قاعة الصنوبر.
هنا قراءة لعالم الطيب صالح عبر رؤية جديدة تقارب بين رواياته جاعلة منها "رباعية" روائية.
لا تزال أعمال الطيب الصالح على قلّتها وعلى رغم انقطاع كاتبها سنوات عن النشر، مثار جدل في حقل الرواية العربية الحديثة. ولا تزال روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" من أكثر أعماله شهرة ورواجاً واستقطاباً للنقاد والقراء على السواء. وكأنّ هناك اتفاقاً شبه كامل من الدارسين على اعتبارها نموذجاً لصراع الحضارتين الشرقية المستعمَرة والغربية المستعمِرة. ومن شأن هذه الثنائية، إن صحّ استقطابها العمل أم لم يصح، تعزيز شهرة الرواية لما تتمتع به من جاذبية في الشرق كما في الغرب، وما توحي به من قراءات تصبّ في مآسينا الاجتماعية التاريخية المتزايدة والمتسارعة يوماً تلو يوم. وعلى رغم هذا فإن التركيز على هذه الثنائية، أدى في واقع الأمر إلى قراءة "موسم الهجرة" بصورة مجتَزأة. كما أدى إلى قطع الصلة بينها وبين سائر أعمال الطيّب القائمة في الجوهر على وحدة متكاملة. فالكاتب نفسه حين يتحدّث عن أعماله يقول: "لو نظر المرء إلى هذه الروايات الثلاث على أنها وحدة واحدة: "دومة ودّ حامد"، "عرس الزين" و"بندرشاه"، لتبيّن له أن القرية هي الشيء الثابت في تجربتي". وكباحثة في أعمال الطيّب صالح، أجيز لنفسي أن أضيف "موسم الهجرة" إلى هذه الثلاثية البديعة، لتشكلّ معها "رباعية". رباعية يصح تسميتها ب"رباعية ودّ حامد" أو "رباعية الطيّب صالح". أربعة أعمال متكاملة الأجزاء والفصول. متكرّرة في التجليات والشخصيات، هذه التي تولد وتشب وتشيخ وتموت عبر الفصول الأربعة. وعبرها تعاني رياح الزمن الذي يبدو ثابتاً قبل أن تهبّ عليه رياح الحداثة وتلحق به التغيير.
تجربة واحدة
لا غرو في أن أعمال الطيّب صالح كلها، بما فيها "موسم الهجرة"، هي تجلّيات لتجربة أساسية واحدة هي تجربة الحداثة كما عاشتها قرية ودّ حامد. وعلى رغم "خروج" "موسم الهجرة" إلى العالم الغربي البريطاني في الشمال، تبقى هذه التجربة المفتاح الضروري للدخول إلى عالم الطيّب صالح. وتبقى العثرة أمام انتشار رائعته "بندرشاه"، بجزأيها "ضوّ البيت" و"مَريود"، اعتبارها عملاً منفصلاً عن متمّماته وما سبق. هذا الاعتبار الذي أفقده شرط القراءة الضروري أي المفهومية، لتبدو الرواية في عين القارىء، على قلّة صفحاتها، مشوّشة غامضة وملتبسة التباس رؤية الجزء منفصلاً عن السياق. وكي يتعرف القارئ بمحيميد في "ضوّ البيت" ومريود في "مريود" لا بد من أن يمرّ "بالراوي" الأصلي أساساً. الراوي الذي هو في كلّ الأعمال عين القرية وضميرها. إنه الراوي في "موسم الهجرة" والراوي في "عرس الزين" وفي المجموعة القصصية الأولى "دومة ود حامد". وهو محيميد في بندرشاه. وبندرشاه امتداد لروايات سابقة. تتقاسم معها الزمن كما تتقاسم المناخ وتشاركها العناصر. مشاركة لا تقبل التجزئة، هذه التي لحقت بقراءة "موسم الهجرة" كما بعلاقة سائر فصول "الرباعية" بعضها ببعض. وكان يجدر بالكاتب أن يقدّمها كذلك بصورة أكثر وضوحاً لمواجهة التجزئة التي أدّت إلى قطع الأواصر في "ود حامد" وشرذمت لحمتها وشتّتت شخصياتها ولخبطت مسارها. كما وأخلّت بمحورية الرواية ونقطة جاذبيتها. جاعلةً من الفرع أصلاً. ومن "مصطفى سعيد"، بدل الرّاوي، ممثلاً لهذا العالم الدرامي الفريد، ومن جين موريس التي قتلها مصطفى في لندن، شخصية أكثر قطبية من حسنة بنت محمود التي دخلت تجربة الحداثة قبل غيرها وسنّت قانون التغيير في القرية. وراوي "موسم الهجرة" هو الشخصية الرّئيسة في الرواية وقطبها الذي تتمحور حوله بقية الشخصيات. وما مصطفى سعيد، في الواقع الدرامي، سوى البطل الدخيل على ودّ حامد الذي، في زمن التقلبات والهزائم، انتزع لنفسه حيّزاً من البطولة والسردية. وفي زمن التقلبات والهزائم حظي في نفوس بعض القراء بالفتنة التي هي للراوي في نفوس البعض الآخر. مثل هذا الخلل في القراءة، أدى إلى التعتيم على سائر الثنائيات في موسم الهجرة. وهي ثنائيات لا تقلّ شأناً عن ثنائية شرق/غرب. مثل ثنائية البطولة والسردية والغريب والمقيم والجد والحفيد وثنائية الدنس والطهرانية. في العودة إلى تعدّد الثنائيات في قراءة أعمال الطيب الصالح، نستبدل الفرع بالأصل، والشعاع بالمحور وندخل عالم ودّ حامد بكلّيته ونعيد أواصر الاتصال بين فصول "الرباعية". فهي متوّحدة في مقوّماتها. مسرحها قرية "ود حامد". والنيل عصب حياتها... هذا النهر الأفعى الذي يتغنّى به البسطاء والعظماء بدءاً بأخناتون وانتهاءً بمصطفى سعيد في غوايته نسوة بريطانيات. ولعلّ القرية هي استبدال درامي للسودان، وهي على أيّ حال في خلد ساكنيها أشبه بالكون نفسه، ومثله قديمة. فما من شاهد تاريخي يشهد عليها، كما يقولون. كأنما هذه البلدة بأهلها وعمارها قد انشقت عنها الأرض. والدومة، أي شجرة النخيل، التي قامت حولها القرية، تبدو قديمة هي أيضاً، وراسخة في وعي أهلها كما في جذور لا وعيهم...
وود حامد القرية، مثلها مثل الدومة المزار، هي في الأصل مكان طاهر. واسمها من الأدلّة على طهرانيتها. فهو اسم أحد أولياء الله الصالحين. وكل حدث يأتيها إنما هو مرسوم في سجل معلوم، يُقرأ حين يأتي يومه. هكذا كان لا يمكن الغريب الأشقر ذو العينين الزرقاوين والجلد الأبيض الأشبه بالقطن المندوف، -"ضوّ البيت" - أن يخرج على ودّ حامد من النهر شبه ميّت، لو لم يكن قدراً. والعمر الذي كتب له فيها من جديد، وزواجه ابنة القرية، ما كان ليحدث وما كان لهؤلاء ان يقبلوه بينهم لو لم يكن مجيئه قدراً مرسوماً في سجّلهم كما الفصول بل وكما الحياة نفسها والموت.
وكما قبل الناس في "موسم الهجرة" بالمأساة التي لم تحدث لا في الأولين ولا في الآخرين، حين قتلت حسنة ابنة القرية الوديعة، الزوج الذي أجبرت على الزواج به. والنفوس التي تهتزّ تحت وطأة الحدث لا تلبث أن تستعيد حسّها القدري. فما يحدث لا يعدو كونه قدرياً: "ذاك اليوم المشؤوم... وهو لا يمت إلى إرادة إنسانية بل شيطانية...البلدة كلّها كأنما حدّت عليها الشياطين في تلك الليلة".
والقدرية على رغم استتبابها تخلي المكان للشفاعة. إنها شفاعة "ود حامد" الوليّ حامي القرية ومحصّنها. يقرّب ناسها من الخالق ويحميهم من الملمّات. يتبدل اسمه من عصر الى عصر ومن رواية الى أخرى لكن دوره لا يتبدّل. إنه الحنين في "عرس الزين". يخرج من القرية "ليجتمع برفاق له من أولياء الله الصالحين. يضربون في الأرض ويتعبّدون". الولي الذي لولاه لصار الزين قاتلاً. لا أحد يعرف كيف في تلك اللحظة المأسوية التي كاد الزين يقضي فيها على الفاسق سيف الدين، عاد وتراجع. "كانت قبضة الزين قد أحكمت على رقبة سيف وكاد هذا يلفظ نفسه الأخير حين ارتفع صوت الحنين وقوراً هادئاً يقول: الزين المبروك... الله يرضى عليك. وانفكت قبضة الزين. وقال سيف أشهد أن لا إله إلاّ الله..." العبارة التي حين يصعد المؤذّن بلال إلى مئذنة المسجد وينادي بها، تحسّ كأنّ ود حامد كلّها بأنسها وحيوانها وشجرها وحجارتها قد اهتزّت وأصابتها قشعريرة.
مثل هذا الفيض الوجداني هو من ملامح الصوفية التي تعمّ عالم الطّيب. فهذا محيميد الذي نأى عن الدين، زهاء ثلاثين عاماً، يجد نفسه لا يدري كيف، هب من فراشه عند الفجر توضأ وخرج: "في المسجد شعر بذلك الإحساس القديم، مزيج من الخوف والتماسك، والتفت إلى عبد الباسط فرآه ساجداً وقد طال سجوده. ثم سمعه ينهنه ببكاء مكتوم... وكان محيميد يتأرجح تحت وطأة الشك واليقين. يحس حين يركع أنّه وصل وحين يسجد يكتشف أن قلبه فارغ من كلّ شيء".
والشفيع للابتعاد عن التهلكة، ليس فقط الوليّ والمؤذّن، بل هو الجدّ أيضاً. هذا الذي في "موسم الهجرة" يعيد عناصر الأشياء في خلد حفيده الراوي إلى ثباتها. ويمنح روحه الطمأنينة إذا زعزعتها حكايات مصطفى سعيد التي تعج بالزنى والقتل والانفلات. إذاً ما حدث... يرجع "ويصل بيت جدّه. يسمعه يتلو أوراده استعداداً لصلاة الصبح. صوت جدّه يصل، كان آخر صوت يسمعه قبل أن ينام وأول صوت يسمعه حين يستيقظ". والجد هو الجدّ. ذاك الراسخ في "ودّ حامد"، مثله مثل الدومة والنهر والمسجد. يعاود الظهور وبحضور طاغٍ في أعمال الطيّب الصالح، مرّة حاملاً الطمأنينة ومرّة التهديد والتنكيل. إنه طاغي الحضور إذ لا يمكن الأحداث أن تفلت من حكمه أو قبضته. وهي إن أفلتت لا بدّ لإفلاتها من أن ينذر بمأساة، كما حدث في "موسم الهجرة" حين قتلت حسنة زوجها الثاني ودّ الريس. والجدّ ليس بشخص محدد فقط بل هو رمز أو حضور يتراءى عبر سلسلة طويلة من الأجداد. وكذلك يتصل به عدد مرادف من الأحفاد والأبناء، اتصال حلقات السلسلة بعضها ببعض، واتصال الماضي بالحاضر والمستقبل، اتصال يتنامى درامياً ويتنوّع. فبعض هؤلاء الأجداد ينتمي إلى عالم الواقع الأليف. وينتمي البعض الآخر إلى العالم الفنتازي الغريب الصلف أو حتى الدموي. ومهما تنوّعت الأوجه، فهناك في "ود حامد" حلف معقود بين الجد والحفيد، في الواقع كما في الأوهام أو الهوّامات. معقود على حساب طرف مقهور هو الأب، المنكَر في ودّ حامد والمنفيّ أو المعتقل في السجون. باسم الماضي والمستقبل انتُزعت منه السلطة على الحاضر. فالأب كما يقدم الكاتب رواية ضوّ البيت هو "أحدوثة لكونه ضحية ابنه وأبيه". هذه الكثافة في الرؤية التي قلّما تتيسر لكاتب، تحمل في طيّاتها، في ما تحمل، الجانب الشائك في مسألة توالي الأزمنة. وتقدّم للفرضية التي هي في جوهرها، ذات صلة بتوالي الأزمنة... يقول الطيّب - إنّ مريود امتداد لشخصيات مستمرّة تسير في خط لا نهائي. إنه الحفيد الأثير لدى جدّه. يختاره في كلّ حقبة ليكون خليفته ويقوم بالدّور ويغدو دون سائر أبنائه ظلاً له على الأرض. في موسم الهجرة يترك له الدار وفروة الصلاة وإبريق النحاس والمسبحة والعصا. وفي سائر الأعمال يتقاسمان في ما بينهما العمر والرغبات والأفكار والأشياء "مثل أخوين توأمين اقتسما حصيلة أعمارهما بالتساوي، فلا الحفيد يصغر جدّه ولا هذا يكبر حفيده". وحين يشتدّ التماثل، يتحوّل الحفيد الرّاوي إلى طاغية على صورة جدّه بندرشاه. يتلذّذ بالدم والتعذيب. "ويشاركه اللذة كما يشاركه التنكيل بالأب".
الخلفية التاريخية
هكذا تتوالى العناصر في ودّ حامد، النهر والشجرة والزرع والمسجد والجد والحفيد وتتكرّر وتترسخ رسوخ الدومة. محاولات كثيرة جرت من قبل لتغييرها وكلّها باءت بالفشل. في الأقصوصة الأولى للطيّب الصالح التي تحمل عنوان "ودّ حامد" يصف الراوي معاندة البلدة الحداثة، وفشل كل المشاريع التي حاولت الحكومة إقامتها. وما الفشل سوى "أنّ مخطّطي المشاريع، لسبب مجهول كانوا جميعاً يتصوّرون إقامتها في مكان واحد حيث تقوم الدومة". والتعرّض للدومة يماثل في نفوس أهلها هتك الأعراض، فكيف بك لو وصل الأمر إلى قطعها؟ يقول الراوي: "لو أنك في تلك اللحظة جئت بامرأة عارية وأوقفتها وسط هؤلاء الرجال لما أثارت دهشتهم كما فعلت تلك الجملة. لو أن الموظف قال لهم إن كلاً منهم ابن حرام لما أغضبهم كما أغضبتهم عبارته تلك. لذا استصاح الخطيب الجماهير، اسألوه كيف أباح لنفسه وأرسل جنده ليدنسوا ذاك المكان المقدّس؟ وحمل الناس الصيحة. واستجابت الأفئدة لحادثة الدّومة... وتبخرت المشاريع فلا طلمبة ماء ولا مشاريع زراعية ولا محطة باخرة. "ومتى تقيمون كل هذا؟" يسأل زائر ودّ حامد الرّاوي فيجيبه: "حين ينام الناس فلا يرون الدومة في أحلامهم". يقيمون هذا في زمن التغيير الذي وقع في موسم الهجرة. فلم تنفع به شفاعة الأولياء لينزل بالبلدة كالقدر، نزوله في سائر البلدان التي تعرضت للغزاة، أمثال السودان الذي فتحه كتشنر بسلاح الرّشاش وهزم به المهدي. وجيء به لكتشنر، مقيّداً بالسلاسل، وهذا قال له: لماذا جئت أرضي تنهب وتخرّب؟ "الغازي هو الذي قال هذا لمالك الأرض"!
كانت تلك هي الخلفية التاريخية ل"موسم الهجرة". الخلفية التي توقظ آلامنا وتفتح جروح مآسينا وتسهّل تواطؤنا فتتحوّل "الدراما" إلى مساحة ملائمة نسقط عليها آراءنا وغضبنا وتجلّيات عصابنا. وفي هذه المساحة الجذّابة، قد يدغدغ مصطفى سعيد غرورنا حين يناضل بطريقته الملتوية ونرجع نضاله إلى السجل التاريخي فقط لا إلى نرجسيته المريضة. هكذا نقرأ "موسم الهجرة" قراءة تاريخية لا درامية تاريخية في آن واحد. نتتبع فيها ليس فقط خطى مصطفى بل تحولات القرية، لنعرف ماذا حلّ بالدومة.
في "موسم الهجرة"، نلاحظ أنّ المشاريع السابقة نُفّذَت. "راحت السواقي وقامت مكانها الطلمبات، كل مكنة تؤدي عمل مئة ساقية". ونعرف في بندرشاه أن الراوي امتثل لقرار جدّه وترك البلدة والزراعة ومشى في درب العلم. وأن الأواصر بين الجد والحفيد، هنا وهناك انفكت انفكاك الماضي عن المستقبل. ليؤذن بالتغيير. فنخلة القرية /الدومة، التي كانت تنعم بانسجام الأزمنة والامتثال للحياة الطبيعية لا تلبث أن تهتزّ. لتقتلع على الأرجح. أما التغيير فكان يلزمه واسطة ليحدث. والواسطة لم تأتِ من الخارج فقط بل نهضت من القرية ذاتها الساكنة على منحنى النيل. وفعل التغيير قامت به المرأة. فالمرأة، على الدوام، هي من يفك الأواصر بين ما هو مستتب وما هو مستجد في ودّ حامد. فاطمة في "عرس الزين" ومريم في "بندرشاه" وحسنة بنت محمود في "موسم الهجرة". وإذا كان التغيير يقاس بالوقائع أو بالقانون، أو بالاثنين متلازمين معاً، فيمكن القول إنّ التغيير الفعلي الذي حدث في القرية قامت به حسنة بنت محمود في قتلها ودّ الرّيس. لم يقم به مصطفى سعيد الوافد من إنكلترا ولا كانت أمثولته قتل جين موريس في الفراش، كما لم يقم به الراوي الذي غادر القرية تاركاً الصراع يحتدم لإكراه حسنة على الزواج من العجوز ود الريس، هذا الذي قرّر أنها "ستتزوّجه وأنفها صاغرة". وما كان لسان التغيير صديق الراوي محجوب الذي قبل حادثة حسنة بدا موقناً أنّ الدنيا لم تتغيّر بالقدر الذي تظنه، تغيّرت أشياء "طلمبات بدل السواقي، محاريث حديد، راديوات، أوتومبيلات. أصبحنا نرسل بناتنا إلى المدارس. لكن كلّ شيء كما كان في السابق ... أنت تعرف الحياة هنا. المرأة للرّجل حتى وإن كان في أرذل العمر. إذا كان أبو المرأة وأخوانها راضين فلا حيلة لأحد". حسنة بنت محمود هي التي فعلت. قبل زواجها من مصطفى سعيد كانت تعد بالتغيير. فهي منذ صغرها بدت مختلفة عن أترابها وقبيلتها مختلفة عن سائر القبائل اختلافاً يجعلها تزوّج بناتها للغرباء ويزجون القرية في تجربة الحداثة، الحداثة التي في الأعمال الثلاثة سارت الهوينى، وتحولاتها حصلت بلا صخب ولا دماء وهي ما لبثت في "موسم الهجرة" أن تحوّلت إلى مأساة.
وحسنة التي كانت تجاري الصبيان في السباحة والجري وتسلّق الشجر، اكتسبت التوق إلى الاستقلال الذي كانت تطمح إليه. وتكرّس توقها بزواجها من مصطفى سعيد الوافد إلى القرية من جامعات انكلترا، هذا الذي اعترف بحرّيتها وترك لها وصية تجعلها مسؤولة عن شؤون أولادها وإدارة أموالها. فعل حسنة هو الذي فكّ الأواصر بين الجدّ والحفيد هذا الذي نراه في نهاية "موسم الهجرة" قد صار وحيداً ومتسائلاً وشكاكاً ومندفعاً للرحيل. بعد المأساة التي وقعت في القرية يقول: "لا مكان لي هنا... هؤلاء القوم حسبوا لكل شيء حسابه. لا يفرحون لمولد ولا يحزنون لموت. حين يضحكون يقولون أستغفر الله وحين يبكون يقولون استغفر الله. لا يقولون ماذا تعلّمت. تعلّموا الصمت والصبر من النهر الشجر". بل هم لا يتعلّمون والعلم /الوعي هو خلاصة التجارب ومحرّك التغيير. وهو قد تعلّم وتغيّر، على صورتنا وصورة ما يجري لنا. ولا ريب في أنّ المآسي تلازم التغيير. كلّما احتدم هذا احتدمت تلك. والتغيير الفجّ الصلف الذي لا يقبل الدومة لا بدّ من أن يفتح الطريق إلى الهلاك.
هكذا نرى الجدّ في نهاية "موسم الهجرة"، وبعد المأساة التي حلّت بالقرية، منهكاً متهالكاً، يبكي! انفرطت أواصر السلطة وخسر دعائم القرار. والحفيد، بدوره لم يكسب، أو هكذا يشعر على الأقلّ. صورة درامية لمسارات الحداثة - أو ما بعد الحداثة- المسارات المأسوية كما عشناها ونعيشها الآن، تلك التي تشكّل، درامياً، رؤية الكاتب الى التاريخ. هذا الكاتب الفذّ الذي كان سبّاقاً في بلورة مأساة الحداثة. وبلورة ملامح خسارتها. الخسارة، التي في مناخات التطرّف واستحالة المصالحة واللحمة وضرورات الخيار الأبله بين الدومة والماكينة، قادت، وما زالت تقود العالم القديم إلى الهلاك في أحضان الصلف الجديد. وفي مريود يعلن الراوي هزيمته على لسان محبوبته مريم: "مريود أنت لا شيء. أنت لا أحد يا مريود. إنّك اخترت جدك وجدّك اختارك. واحسرتا عليك يا محبوبي. خير الزاد أنا. وإنني مفارقتك من هنا. لا شبع لك من بعدي ولا ريّ. ولا شفيع ولا نجيّ. فاضرب حيث شئت وتزوّد إن استطعت".
لا بدّ لقارئ الطّيب الصالح، إذا دخل عالمه من أن يخرج منه غنياً متسائلاً بحسرة الفاقد: ماذا لو حافظنا على "الدومة" وأقمنا المكن وكسبنا أنفسنا وتجربة العالم؟
* روائية وباحثة أكاديمية لبنانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.