الأمهات والجدات في دمشق يتحدثن بكثير من الحنين عن أيام كن يحلمن فيها بأن يتزوجن من طالب جامعي، يوم كان لهؤلاء تلك المكانة المرموقة في المجتمع. يومها كان الطالب الوجه المشرق والمشرّف للعائلة، فهو الذي يقود مسيرات المؤازرة لحركات التحرر الثورية في الجزائر وأرتيريا وشتى دول العالم، وهو الذي يعبئ الصفوف ويحشد الجماهير لنصرة القضايا العربية. والآن مع انقلاب المفاهيم وانهيار النظم الكبرى يبدو أن الصورة صارت مغايرة تماماً. إذ لا يكفي ان الطلاب عزفوا عن التفاعل مع الشأن السياسي والوطني، بل بات طلاب اليوم عاجزين حتى عن تبرير أهمية العلم الذي يسعون اليه، إذ ان كثيرين من أفراد المجتمع يتبنون مقولة "العلم لا يطعم خبزاً" وهؤلاء يجدون الأمثلة على صدقية ما يقولون ظاهرة للعيان وليست بحاجة الى كثير من البراهين. ومع ان تبنيهم مثل هذه الأفكار حالة طارئة مرتبطة بوضع اقتصادي معين إلا أن ثمة ما يساعدهم كثيراً في تكريس قناعاتهم كحقائق ثابتة، ولعل هذا ما صار يدعو الأهل للتفكّر ملياً قبل التورط في متابعة التعليم لأولادهم كما يقول والد الطالب أمجد علاوي، والذي يضيف: "ان كنت بالفعل أريد مستقبلاً جيداً لابني يغنيه عن سؤال الآخرين فإن ضميري يدعوني لإقناعه بأهمية الاستمرار في عمله في صيانة الالكترونيات على حساب دراسته في كلية الاقتصاد". الطلاب بدورهم وإن كانوا أقل تبنياً لمثل هذه الأفكار فإنهم كثيراً ما يجدون أنفسهم مضطرين للبحث عن عمل يمكنهم من سداد نفقات دراستهم. صحيح ان التعليم مجاني في سورية مقارنة مع ما هو عليه في الدول المجاورة إلا أن هناك مصاريف اضافية على الطالب تحملها، وخصوصاً في بعض الكليات التطبيقية طب الأسنان، الهندسة المعمارية، الفنون، أما السكن الجامعي والذي يسد تأمينه جزءاً مهماً من المصاريف فهو يستوعب أضعاف طاقته، وعلى رغم ذلك يبقى عاجزاً عن تأمين السكن لجميع المحتاجين الأمر الذي يضطر كثيرين من الطلاب لتحمل مصاريف السكن الخاص المرتفعة جداً. وإذا ما نفينا حاجة الطلاب لشيء من "البسط والفشخرة" التي تستهوي كل شاب فإن علينا الاعتراف بحاجته للعمل خصوصاً أن المصروف الضئيل الذي يتلقاه والذي يشكل جزءاً مهماً من مدخول العائلة لن يكون كافياً لتلبية الضروريات. ولكن عندما يقرر الطالب العمل فإن عليه تحمل ضريبة ذلك، يقول الطالب أحمد بدرة، وهو يعمد محاسباً في مطعم للوجبات السريعة بدمشق: "أعود من الجامعة في الثانية ظهراً، أضع كتبي وأغيّر ملابسي على جناح السرعة ثم أذهب الى عملي وأبقى فيه حتى الواحدة أو الثانية ليلاً، ثم أرجع الى البيت وقد خارت قواي، فأرمي بجسدي على السرير وأغرق في نوم عميق قد يحرمني من محاضرات الصباح". وعلى رغم صعوبة الأمر فإنه يعزُّ على من يفوز بفرصة عمل أن يفرط بها كما تقول الطالبة سهام عودة، وتضيف: "رسبت السنة الماضية ولم أرقع أياً من مواد الفصل الثاني، فطبيعة عملي سكرتيرة لا تسمح لي بأخذ اجازة الامتحانات، وعندما صارحت صاحب العمل بالأمر ذات مرة ردّ عليّ وبكل صراحة بأنه سيستغني عن خدماتي نهائياً ويستعين بغيري". على أن قدرة الطالب واستعداده لتحمل ضريبة العمل لا يعني بالضرورة أنه سيجد عملاً بسهولة، فالفرص ما تزال قليلة، وأصحاب العمل ينظرون بالدرجة الأولى الى مصالحهم التي غالباً ما تتعارض مع مصالح الطالب. ويقول الطالب محمد. ب وهو يدرس الصحافة: "أعتقد بأن غالبية الطلاب تبحث عن عمل الى جانب الدراسة. لكنها غالباً لا تنجح في ذلك، كما حصل معي شخصياً". ماذا يقول الأكاديميون؟ الدكتور غسان أبو فخر عميد كلية التربية في جامعة دمشق يقول عن الموضوع: "بعض الطلاب ينجح في التوفيق بين العمل والدراسة، وخصوصاً طلاب كليات العلوم الإنسانية، أما طلاب كليات العلوم التطبيقية فإنهم يفشلون غالباً في ذلك، ولعل من الآثار السلبية لهذه الظاهرة هو تسرب الطلاب من الجامعة بسبب اقتناع بعضهم بجدوى العمل أكثر من جدوى الدراسة، وحل هذه امشكلة يبدأ من قيام جهات مسؤولة بدراسة أوضاع هؤلاء الطلاب، ومساعدتهم". أما الدكتور ياسر جاموس رئيس قسم الصحة النفسية في الكلية فإنه لا يجد ضيراً من لجوء الطالب للعمل: "العمل أثناء الدراسة قد يكون حافزاً للطالب نحو التفوق كون ذلك سيساعده في تحسين فرصة عمله بعد التخرج، ولكن يجب ان يكون هذا العمل مناسباً له، فلا مانع من أن يعمل الطالب في المؤسسات التابعة للجامعة أو اتحاد الطلبة". وعن الآثار النفسية لعمل الطالب أثناء الدراسة يقول الدكتور عباس محمد الاختصاصي بالأمراض النفسية: "قابلت بعض الطلاب ممن بات هاجس العمل ما بعد التخرج يؤرقهم الى درجة صارت معها حالاتهم شبه مرضية، وقد لاحظت ذت مرة ان أحد الطلاب صار يعاني بشكل فعلي من أزمة نفسية أفقدته حيويته وتركيزه الذهني، وأنا أعتقد أن سبب ذلك يعود لمشكلة نفسيه ناشئة أساساً عن عدم ثقة الطالب بنفسه وبمستقبله، ولعل هذا ما يفسر ازدياد نسبة التسرب من الجامعات في السنوات الأخيرة".