يكاد الشاعر الفلسطيني محمد القيسي في مجموعته الشعرية الجديدة "منمنمات أليسا"، يفاجئ قارئه بهذه القصائد - الأناشيد، التي تشبه إنحيازاً واثقاً الى دفقة الشعر السريعة، كأنه إذ يكتب قصائده هذه، إنما يطلق رصاصات شعرية في هواء مثقل بالغبار، آملاً ان تقدّر هذه الطلقات الملوّنة بالأسى والفجيعة على تبديده من الهواء ومن الروح. محمد القيسي - وهو أغزر شعراء فلسطين وأكثرهم نتاجاً - يؤثر في هذه المجموعة الشعرية أن يطلق بطاقات، تحمل كل واحدة منها لقطة، حميمة ومشتعلة بالكلام القليل، ولكن المنسوج من خيوط تجربة شعر وتجربة عيش اتصفت خلال عقود ثلاثة بالتقاط رنة الأسى من ضوضاء الكلام، والتماعة الحزن من فوضى الحياة: "أين تراني / أذهب في / هذا الضيقْ / حين أرى / فمها الريحَ / وظمأي / حسرات الابريق". ينتمي محمد القيسي إلى جيل الستينات في القصيدة الفلسطينية، وقد أصدر مجموعته الشعرية الأولى "راية الريح" عام 1968، مطلقاً من خلال قصائدها صوت حزن شفيف، مزجت نبرته بين غنائية فيها الكثير من العذوبة، وإحساساً عميقاً بالفقدان والخسارة، فتميز صوته منذ تلك البدايات الأولى عن أقرانه ومجايليه، خصوصاً وان القيسي ظلّ طوال العقود الثلاثة الماضية يحدق بعينين مفتوحتين على اتساعهما، فيرقب الحدث العام من جهة ويلاحظ هموم القلب ولواعجه من جهة أخرى. ومن هذا التحديق بالذات عرفنا محمد القيسي شاعراً يفلت في رشاقة من عصف العناوين العامة، وطغيان الأحداث الكبرى، لا لأنه يضع نفسه وشعره خارج تلك العناوين والأحداث، ولكن لأنه راح يقرأ صور الواقع السود كما تنعكس في مرايا القلب، فامتلك تلك اللغة الشعرية البسيطة، والتي لا تبحث عن جمالياتها في تركيبة مقصودة، قدر ما تبحث عنها في المشهد الشعري ذاته، وهو مشهد إمتاز دوماً بما يحمله من نبض الحياة، ومن صور شعرية يلتقطها الشاعر من اليومي والعابر في حياته، ولكن في سياق علاقتها الحميمة بما هو عام وموضوعي. ربما من هذه النقطة، كانت تجربة القيسي الشعرية تختلف وتتمايز عن تجارب جيل الستينات من الشعراء الفلسطينيين، إذ هو بزئبقية حضوره في المؤسسة، وبطبيعة عيشه المراوغة للانضباط، عاش سنوات تجربته الشعرية كلها جوّالاً، متنقلاً بين العواصم والمدن، شغوفاً بقراءة كتاب المنافي الفلسطينية الكثيرة والمختلفة، قراءة خاصة، لعل أهم ما فيها تلك النبرة الخافتة، الطالعة من تلقائية التأثر بالأحداث، لا من موقف مسبق يتكئ على أية ايديولوجيا، أو يأخذ أية افكار مسبقة بوصلته التي تقوده: "لا أعرف أين ستأخذني / قدمايْ / هل أذهب أبعد مني / وأتيح لحنجرة النايْ / أن تبكي / عني!". تمكن ملاحظة رؤى محمد القيسي الشعرية في وضوح وجمالية، في هذه المجموعة الجديدة، التي ضمّت قصائد اعتمدت كثافة المشهد الشعري وانفتاحه على عناوين تجولت بين هموم النفس والروح وبين صورة الأماكن والمدن، هي قصائد الترحال في المكان وفي الروح أيضاً، والشاعر خلالها طليق الرؤية والنظر، إذ هو أقرب ما يكون الى شاعر جوّال يلمح همومه الخاصة في مختلف الأماكن وفي شتى المشاهدات. محمد القيسي شاعر يومي، ولكن من لون خاص، شديد الاختلاف عن كل الشعراء الذين اهتموا بتفاصيل الحياة اليومية، ومفرداتها وجزئياتها العابرة، لأنه يرى هذه التفاصيل في علاقتها الأثيرة بروحه، ومن خلال صداها الخافت - غالباً - في داخله. هو يتناول مواضيع على صلة وثيقة بتفاصيل الواقع ولكنه - بحدقة الشاعر ومخيلته معاً - يرسم مقاربات مختلفة تأخذ من الواقع بعض ملامحه، وتذهب بعد ذلك في تأويل صورته وفي إعادة رسم تلك الملامح كما تتبدى من مخيلة الشاعر: "من أي رواق / تنساب هنا موسيقى البيتِ / ومن أيّ الأبراجْ / يغشاني وجه أليسا / ملكة قرطاج / ألمحها تختال هلالاً منحوتاً / في صحن الزرقةِ / في صفحة كوب الشاي / ألمحها في الصمت / وألمحها في صوت الناي". وعلى رغم إنتماء محمد القيسي الى جيل الستينات في الشعر الفلسطيني، إلا ان تجواله الذي لم يتوقف في الأمكنة والأزمنة، كما في الأفكار والمواضيع، وصنعه - باستمرار - خارج الاشتراطات النقدية لابداعات ذلك الجيل، فهو مع الشاعر الراحل فواز عيد، الصوت الخافت في شعر الستينات الفلسطيني، والذي انفرد عن جوقة عامرة بشعر أقرب إلى صخب المواضيع العامة. محمد القيسي يعاود هنا في "منمنمات أليسا" إكمال شوط شعري لاهث، حزين وهامس بدأه منذ مجموعته الأولى "راية في الريح"، وهو اختار عنواناً معبراً ودقيقاً لهذه المجموعة الجديدة، أي "المنمنمات"، ذلك ان ما احتوته من قصائد تقارب دقة فن المنمنمات وتكثيفها، وهو خلال هذه القصائد يحرص مثل عادته الشعرية، على حضور ذاته الفردية بقوة، وإن يكن ينجح في زج هذه الذات الفردية في أتون الهم الفلسطيني العام وما فيه من أحزان وعذابات. محمد القيسي في "منمنمات أليسا"، شاعر يكتب من موهبة ومن خبرة على حدٍ سواء، وهو لهذا السبب بالذات يقدم واحدة من أجمل وأنضج تجاربه الشعرية.