نحن الآن أمام حصيلة البعثة السادسة من البعثات المدنية الأوروبية المطالبة بالحماية الدولية للفلسطينيين. هذه عادت منذ أيام من فلسطين، وهي تختص عن سابقاتها ببعض المميزات. فقد جرى الاتفاق على تحويل الميلاد ورأس السنة إلى مناسبة لاجتماع وفود أوروبية من بلدان عدة في فلسطين. وهكذا كان. فسافر حوالى مئة فرنسي وأقل قليلاً من مئتي ايطالي وخمسون بلجيكياً ومثلهم في وفد بريطاني - أميركي مشترك، ومجموعات صغيرة عدة من هولندا والبلدان الاسكندنافية، حيث بلغ مجموع "العالميين"، كما باتوا يعرفون في وسائل الإعلام هناك وفي تقارير الهيئات المختلفة، ما يناهز الخمسمئة، تحركوا معاً على امتداد أكثر من عشرة أيام، في تظاهرات ولقاءات غطت كل فلسطين. ابتدأ البرنامج المشترك للوفود أمام "بيت الشرق" في القدسالمحتلة، حيث تم نصب شجرة الميلاد في الساحة المقابلة للمركز، ثم انتقل الجميع إلى رام الله عصر 24 كانون الأول ديسمبر. وقامت التظاهرة باختراق منع التجول الذي فرضته قوات الاحتلال على أحد أحياء المدينة، شارع الارسال، ثم توجهت إلى مقر الرئيس الفلسطيني المحاصر بالدبابات الإسرائيلية، حيث اطلق الجنود القنابل المسيلة للدموع والعيارات النارية لتفريق الحشد الذي كان يتظاهر بطريقة سلمية تماماً، وهو الخيار المعتمد في التحركات كافة التي يتبناها "العالميون". وقد انتهى ذلك اليوم بالتوجه إلى بيت لحم من أجل إقامة قداس منتصف الليل، احتفالاً بميلاد السيد المسيح، الذي تحول إلى مناسبة سياسية بسبب الاغلاق والمنع والمضايقات على المعابر، بهدف الحيلولة دون وصول الفلسطينيين من المناطق المختلفة إلى كنيسة المهد، وانتهى بمنع الرئيس الفلسطيني من المشاركة في القداس، فكان وجود "العالميين" هناك يحمل من الدلالة ما عبرت عنه من ناحية أخرى تلك الكوفية التي احتلت المقعد الخالي، أي إدانة السلوك الاعتباطي للاحتلال. انقضى اليوم التالي بزيارة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين على أرضهم، أولئك المطرودين أو النازحين من قرى ومدن الجليل والمثلث والساحل، ومن بعض مناطق الضفة الغربية نفسها بفعل مصادرة الأرض وبناء أو توسيع المستوطنات، والذين يتكدسون في مخيمات الدهيشة، وغزة وعايدة في منطقة بيت لحم أو في مخيم شعفاط قرب القدس، كما يتكدس غيرهم في مخيمات جباليا وخان يونس ورفح في قطاع غزة. أما موعد اللقاء الثاني، الجماعي، فكان للمشاركة في مسيرة بالمشاعل دعت إليها منظمة "النساء المتشحات بالسواد"، وهي هيئة نشأت بمبادرة من نساء إسرائيليات، ثم انتشرت في أوساط نساء يهوديات من بلدان مختلفة في العالم، يكرسن جهدهن للتنديد بالسياسة الإسرائيلية التوسعية، ويطالبن بإنكفاء الاحتلال وتفكيك المستوطنات والاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وكانت مختلف فروع "النساء المتشحات بالسواد" قد دعت إلى تجمعات مماثلة في مدن أوروبية وأميركية مختلفة، في اليوم ذاته لمسيرة القدس. بعد ذلك توزعت الوفود للإقامة والعمل في مناطق مختلفة، أربع منها تقع ضمن الأراضي التي احتلت عام 1967، فكان اختيار القدسورام الله ومخيم الدهيشة وغزة، فيما توجهت المجموعة الخامسة للإقامة في الناصرة بهدف التعرف على أحوال المليون ومئة ألف فلسطيني الذين يتعرضون لتوطد متسارع لملامح نظام من التمييز العنصري، لم تعد حيازتهم على بطاقة التعريف الإسرائيلية قادرة على اخفائه. وباختصار، فما بثته في الأيام الماضية شاشات التلفزيون العربية من مشاهد اعتراض لتقدم الدبابات الإسرائيلية بواسطة احتلال الطرق بالأجساد المتمددة على الأرض، أو ارباك واختراق حواجز التفتيش أمام جامعة بيرزيت، أو الاصرار على الوصول إلى غزة حيث انتهت ساعات من المضايقات المتنوعة باشتباك بالأيدي مع جيش الاحتلال عند معبر اريتز، والعبور إلى غزة على رغم كل شي، أو أخيراً المشادة التي رافقت توقيف الدكتور مصطفى برغوتي عند حاجز الرام، حين فقد الجنود الإسرائيليون أعصابهم تماماً، ومن دون مبرر سوى وجود "العالميين" برفقة الرجل، فانهالوا بالضرب على الجميع، وكان بينهم نواب في البرلمان الأوروبي وأعضاء مجالس بلديات، ما شاهده الملايين في المنطقة العربية وتناقلته أيضاً الشاشات العالمية، فأعادت بثه قنوات التلفزة الفرنسية والايطالية وقناة البي. بي. سي. ورلد البريطانية وحتى "سي. ان. ان"، ذلك كله كان النقاط الساخنة من هذا الجهد المتواصل لإبطال محاولة إسرائيل الاستفراد بالشعب الفلسطيني عبر تكريس تحكمها بالاجراءات والقرارات التي تطاله، وهو ما يسعى إليه الوجود المستمر لمئات "المراقبين" المدنيين من أنحاء مختلفة من العالم، منتدبين عن جمعياتهم ونقاباتهم وأحزابهم وفي بعض الأحيان عن بلدياتهم أو مجالس تمثيلية أخرى، وفي أحيان ثانية أناس يكرسون أقلامهم أو عدسات كاميراتهم أو حتى مجرد أصواتهم وبعض وقتهم وجهدهم وما يجيدون، للشهادة على ما رأوا. هكذا احتلت منذ أيام قلائل مقالة لفرنسوا ماسبيرو العائد من فلسطين، صفحة كاملة من جريدة "لوموند". وماسبيرو هذا كان صاحب واحدة من أهم دور النشر الفرنسية وهو كاتب مرموق. وهكذا أيضاً تولد كل يوم لجان للتضامن مع نضال الشعب الفلسطيني، على امتداد فرنسا وفي بلاد أوروبية أخرى، تبادر إلى مشاريع متنوعة، كالمشروع الذي حملته مجموعة مارسيليا أخيراً لتنظيم تعاون دائم بين كبرى مكتبات المدينة ومكتبة عامة في إحدى مدن فلسطين. قد يبدو ذلك نقطة في بحر. فالوفود المدنية لا يمكنها بأي حال من الأحوال الحلول مكان قوة الحماية الدولية التي يحتاج إليها الشعب الفلسطيني المستباحة سلامته وكل حقوقه. ولا تدعي الوفود المدنية ذلك، بل هي تشكل اطراً تعمل من أجل الضغط لإقرار القوة الدولية لحماية الفلسطينيين، أو من أجل منح هذا المطلب الشرعية الاخلاقية التي تمتلكها عادة القناعات المشتركة. ولهذه الغاية، فإن الشق الآخر من عمل هذه الوفود، التي يعود أفرادها جميعاً دوماً في حال من الانفعال العميق ومن الرغبة في القيام بما يمكن لتغيير ما رأوا ولامسوا، يتعلق بما يلي الزيارة. فهكذا ولدت، من بين مبادرات أخرى متنوعة، فكرة الباص أو الحافلة الشهرية التي تحمل بعض أفراد هذه الوفود إضافة لشخصيات تمتلك سلطة معنوية أو فكرية في مجتمعاتها. يتوجه الباص في كل مرة لمقابلة سياسيين، رسميين ومدنيين، ومسؤولي الأحزاب والهيئات النقابية والمؤسسات الإعلامية ومراكز النشاط الثقافي، داعين في زياراتهم تلك إلى تبني مطلب قوة الحماية الدولية، وداعين أيضاً إلى الضغط على إسرائيل ومعاقبتها عبر تعطيل اتفاق الشراكة الأوروبية - الإسرائيلية، وهو الاتفاق الذي يرتيد بالنسبة لإسرائيل أهمية حاسمة. جال الباص الأول على قصر الاليزيه ومقر مجلس الوزراء الفرنسي ووزارة الخارجية، بينما يتهيأ الباص الثاني، بعد أيام، لزيارة مجلسي النواب والشيوخ الفرنسيين ومقر النواب الأوروبيين في باريس، حيث سيعقد ركابه هذه المرة مؤتمرهم الصحافي. وقد استقل الباص الأول في إحدى محطاته عالم الأحياء الشهير ألبير جاكار، الذي قرر بعد ذلك الانضمام إلى البعثة المدنية المقبلة المسافرة إلى فلسطين، كما استقله في محطة أخرى من ذلك اليوم روني برومان أحد مؤسسي "أطباء بلا حدود" الذي هجر بعد ذلك الطب من أجل الصحافة. وإن جاءت المبادرة من باريس، فإن الفكرة تنتشر إلى مدن أخرى كمارسيليا وتولوز وبوردو وليل، وكذلك إلى عواصم ومدن أوروبية، تنتهيأ فيها حافلات دورية للانطلاق. وبالتوازي مع هذا الشكل من التحرك، يجري تحضير "يوم أوروبي من أجل فلسطين" يكرسه انطلاق قطارات من أنحاء مختلفة من أوروبا، تنتقل إلى بروكسيل، مقر الاتحاد الأوروبي، في يوم واحد، آلاف المواطنين المطالبين بدور أكثر فاعلية وتأثيراً لأوروبا في مجرى العملية الصراعية الدائرة فوق أرض فلسطين. وفي الأثناء، تتجه "الطريق الريفي"، وهي منظمة فلاحية عالمية تضم أكثر من سبعين اتحاداً موزعاً على أرجاء الكون، إلى تبني يوم الأرض الفلسطيني وإدراجه ضمن برامج تضامنها الفعال مع نضالات الفلاحين التي تشمل، في ما تشمل، "الفلاحين بلا أرض" في أميركا الجنوبية، وكذلك علاقات لا حصر لها في افريقيا وشبه القارة الهندية. وكان جوزيه بوفيه، مسؤول العلاقات الدولية في الكونفيديرالية الفلاحية الفرنسية، العضو في تلك المنظمة، زار فلسطين في إطار الحملة العالمية المدنية، ثم، وبانتظام، وعلى امتداد الوفود الستة التالية، انضم إلى الرحلات مسؤولو مناطق وفروع أو فلاحون عاديون، مما جعل موضوع فلسطين يأخذ مكانه في جدول أعمال واهتمامات هذه النقابة التي تشكل أحد مرتكزات حركة مناهضة العولمة. كذلك التحق بالرحلات أعضاء في منظمة "أتاك"، الركيزة الأخرى لحركة مناهضة العولمة، كما التحق بها آخرون من جماعة ولدت في تولوز ثم تحولت إلى حركة شاملة ذات طابع نقدي حيال التحاق اليسار الفرنسي بأطروحات اليمين. وقد خاضت الانتخابات البلدية الفرنسية الماضية وحصدت في أماكن عدة نسبة من الأصوات تجاوزت أحياناً ما نالته أحزاب عريقة، وأوصلت مرشحين إلى المجالس. هكذا، وحول فلسطين، تتشابك في ما بينها وتتفاعل مبادرات وأوساط ذات طابع عالمي، وينتج عن هذه الدينامية ولادة مبادرات جديدة ونشوء اطر وتعديل اهتمامات أخرى قائمة، فلا يتم لإسرائيل الاطباق، ويصان، على هذا المستوى، الصراع.