ودّع رياضيو البحر الأبيض المتوسط دورتهم الرابعة عشرة وتونس على أمل اللقاء في ألمريا عام 2005 في اسبانيا، وقد استمتعنا نحن العرب على غرار ما فعل غيرنا، بالدورة وأحداثها، من ألفها الى يائها، بعض النظر عن عوامل الجنسية والديانة والتطلعات الايديولوجية. ومرة جديدة نقول ان عشاق الرياضة العرب انفتحوا على العالم، وباتوا يؤمنون بأن المهارة الرفيعة هي وحدها الجنسية المعترف بها في التظاهرات الرياضية الكبرى ومن بينها الألعاب المتوسطية. ولن ينسى العرب عموماً والتوانسة خصوصاً اسماء ليوني مرزوق وسعيدة الربابي وسلمة فرشيشي وفضيلة اللواتي وفاطمة الأنوار وهالة بودي ويوسف السباعي وعاطف جراي وأنيس لونيفي وحاتم غولة وزياد ساسي وسامي الجندوبي ومحمد حمودة ومحمد الصحراوي ووسام العرفاوي، وطبعاً عناصر المنتخب التونسي لكرة القدم الذين فجّروا مفاجأة من العيار الثقيل بنيلهم ذهبية المسابقة بعدما كانوا قاب قوسين أو أدنى من الخروج من الدور الأول، لولا فوز اليونان على ليبيا الذي أهّل التوانسة كأفضل منتخب حاصل على المركز الثاني. وتعلقت الجماهير أيضاً بنجوم أوروبية كثيرة لا بفعل جنسياتهم أو حباً بقمصانهم وإنما بفضل المهارات الحلوة التي قدموها والعروض المثيرة التي وفروها. وضربت المفاجآت في النسخة الرابعة عشرة من الألعاب المتوسطية بقوة، كمّاً ونوعاً، فطارت رؤوس كان يتوقع أن يكون الذهب من نصيبها وفي مقدمها منتخبي فرنسا لكرة القدم وكرة اليد، ولاعب الجودو التونسي أسعد حشيشة ومواطنته نجمة كرة المضرب سليمة صفر وغيرهم كُثر. وسيبقى الخامس عشر من أيلول سبتمبر عام 2001، علامة فارقة على طريق كرة القدم التونسية لأنها حققت انجازاً تاريخياً، سيمثل حتماً دفعاً قوياً لمنتخبها المتأهل لنهائيات كأس العالم المقررة العام المقبل في كوريا الجنوبية واليابان. لكن لا بد من الاشارة هنا الى ان التونسيين عانوا طويلاً قبل التأهل للمباراة النهائية بعدما خسروا أمام فرنسا، التي لعبت غالبية الوقت بعشرة لاعبين، صفر - 1، ولولا الهدية اليونانية التي أطاحت بالليبيين في الجولة الأخيرة من الدور الأول لخرج المنتخب التونسي من المنافسة. ولذا يجب استثمار هذا التتويج في المضي قدماً نحو الأفضل، وذلك من طريق تصحيح الأخطاء خصوصاً الفنية والقضاء على النواقص والسلبيات التي ظهرت خلال المباريات... وحذار من الغرور والانعكاسات السلبية التي تلي كل انتصار. وبعيداً من النتائج والانجازات التونسية المبهرة التي تحققت أولاً بفضل استضافة الدورة على أرضها... نتساءل: لماذا كانت النتائج العربية متواضعة؟ الاسباب في الواقع كثيرة ومتشعبة. لكن المهم ان ندرك انها لم تكن مسؤولية الرياضيين وحدهم. فمن المستحيل أن نطلب من الرياضي العربي أن يكون بطلاً وهو يعيش واقعاً مؤلماً ومأسوياً في وطنه العربي الكبير، فهو يعاني المتناقضات السياسية والفكرية والايديولوجية المتنوعة والأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ويكد ليل نهار من أجل توفير لقمة العيش له ولذويه. فمن أين له الوقت وراحة البال ليصل بمستواه الرياضي الى القمة كباقي خلق الله من الدول التي تحصد الميداليات حصداً؟ على أي حال، دعوننا ننسى هذه النتائج المتواضعة، ولنبدأ العمل بأمل جديد يرتقي بنا الى مستوى الطموحات وتحقيق الميداليات. وهذا بطبيعة الحال لا يتطلب، فقط، الكلام كالعادة، وانما العمل الجاد الدؤوب منذ الآن. ولأن امامنا اربع سنوات كاملة تفصلنا عن الألعاب المتوسطية المقبلة في مدينة ألمريا الاسبانية، على المسؤولين عن الرياضة في دول جنوب الحوض المتوسطي أن يتنبهوا لأهمية هذا الأمر من جوانبه كافة اجتماعياً واقتصادياً وتقنياً. وبذلك فقط يحق لنا أن نحلم بتفوق عربي عن جدارة في ألمريا! انشراح من النجاح أطفأت أضواء المدينة الرياضية "7 نوفمبر" في رادس وغادرت غالبية الوفود المشاركة القرية المتوسطية وغابت الروح عن مركز الصحافة والتلفزيون الدولي بعد نشاط أنعشه على مدى 15 يوماً، وحده شارع الحبيب بورقيبة سهر حتى الساعات الأولى من الفجر حيث شهد احتفالات جماهيرية صاخبة بفوز منتخب كرة القدم بالذهبية الأولى في تاريخ مشاركاته المتوسطية منذ 1959. لقد استفاق التوانسة يوم الأحد متأخرين عن عادتهم، ولكن الحلم الجميل الذي عاشوه طوال الألعاب لم يغادر روحهم ومخيلتهم بعد. لقد ملأت هذه الألعاب لحظة فرح لا تنسى من ذاكرتهم وعاشوا على ايقاعاتها صباحاً ومساء ويوم الأحد، في مواقع المسابقات والملاعب وأمام شاشات التلفزيون، وفي نقاشاتهم وأحاديثهم في المكاتب والمقاهي. لقد مثلت ليلة الاختتام نقطة تحول مهمة في تفكير التوانسة ومشاعرهم، فمن أحاسيس التخوف والتوجس والشد التي رافقت الاستعدادات والبدايات الى مشاعر الغبطة والسعادة بالنجاح وبامتياز في استضافة أكثر من سبعة آلاف بين رياضي واداري ومرافق من 23 بلداً واعلاميين من شتى أنحاء العالم، والنجاحات التي حصدوها على أصعدة التنظيم والتتويج حيث استقرت غلتهم على 57 ميدالية منها 17 ذهبية دفعتهم نحو تصدر قائمة الدول العربية المشاركة، ووضعتهم في الموقع السادس في الترتيب العام الذي تصدرته فرنسا ب143 ميدالية، وخلفها ايطاليا ثم اسبانيا. وإذ أبرزت دورة "تونس 2001" بقاء جذوة الروح المتوسطية حية بعد 50 عاماً من انطلاقتها، وعلى رغم الفوارق والاختلالات بين ضفتي الحوض الشمالية والجنوبية والحرائق والحروب التي عصفت به ولا تزال، فإن الدورة ال14 ارتفعت بهذا الفضاء الجغرافي من دائرته الاقليمية الى الاهتمام الدولي. وأيقظ هذا النجاح أحلام وطموحات كبيرة في الروح التونسية، فمع انطلاق الاستعدادات من الآن لتنظيم كأس الأمم الافريقية 2004 يبدو ان التوانسة رفعوا سقف طموحاتهم الى الأعلى: وباتوا يصوّبون نحو تنظيم كأس العالم 2010، ولو بصفة مشتركة مع المغرب، وغدا تنظيم دورة اولمبية في بلد جنوبي صغير وبامكاناته وعظيم بارادة ابنائه وعزم رجالاته. وبات السؤال الذي يطرح الآن بعد ساعات من انتهاء الدورة يتمحور عن سر النجاح التونسي على الأصعدة كافة. لقد أبرزت الدورة أهمية وحيوية وجود ارادة سياسية عليا لضمان أقصى درجات النجاح. ويبدو ان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي الذي راهن على تألق تونس في التنظيم والنتائج نجح في كسب الرهان الذي لم يأت من فراغ بل عبر توفير الامكانات المالية والبشرية الممكنة، ووقوفه الشخصي على أدق التفاصيل. والى الارادة الرئاسية، تضاف موازنة تنظيمية قاربت نصف بليون دولار، وكوادر بشرية في المجالات كافة. ومن ضمن البرنامج الاعدادي للدورة، ومن منطلق روح العمل الجماعي، أوفدت اللجنة المنظمة فرقاً تابعت عن كثب الشؤون التنظيمية وتفاصيلها في دورة سيدني الأولمبية 2000 وبطولات عالمية أخرى، ونقلت مشاهداتها وخبراتها لتقترن بالتجربة المحلية الممهدة لأفضل تنظيم واستضافة ممكنين، وأسهم في تفعيل كل ذلك حيوية واندفاع 7 آلاف متطوع سهروا على راحة الضيوف، وحضور جماهيري أضفى أجواء منعشة على "تونس 2001" فرحة المتوسط.