كم راقبت أعين أهل الخليج طيران الصقور وأعجبت به، فهو يطير في سرعة عالية، ثم يفرد جناحيه ويروح يتأرجح في الهواء وهو مستقر في موقعه تماماً، ثم فجأة يعاود الإنقضاض على فريسة رأتها عينه الثاقبة، ويكاد يلامس منقشارة الأرض، ثم يحلق ثانية إلى علوٍ شاهق. ولعل الإعجاب في موقعه وأكثر، إذ طالما حلم علماء الطيران بطائرة لها ما للصقر من مقدرة على التحكّم في التحليق، وخصوصاً الثبات في موقع في الفضاء والإنقضاض منه إلى حد ملامسة الأرض ثم العودة إلى الهواء مجدداً من غير هبوط على أي شبر من اليابسة! من ينسى ازعاج البعوض؟ لكنها حلم العلماء ومع ميل الآلات إلى الصغر، ومع تفكير المخترعين بطائرات أصغر فأصغر، مالت الأعين إلى ملاحظة طيران البعوض ودراسته، تمهيداً لمحاولة تقليده. وبجناحين خفيفين، تقدر البعوضة على الطيران إلى الأمام والكر إلى الخلف، وزيادة السرعة فجأة إلى أضعاف السرعة الأصلية، والتدويم في المكان نفسه والثبات في الفضاء، إضافة إلى مئات الحركات البهلوانية. وكل من عانى محاولة "النجاة" من إزعاج بعوض يعرف جيداً تلك الرشاقة المزعجة، التي يرافقها طنين داوي الشهرة، والأنكى أنه لا يصدر من محرك! وليس فقط أن العلماء لم يستطيعوا تخطيط طائره في مثل خفة البعوض ورشاقته، بل أنهم وقفوا دون فهم طريقة تحليقه. وفي الغرب، ذهب طيران البعوض مثلاً عن عجز العلم على فهم الأمور البسيطة. وعلى مدار ثلاثة عقود، بذل العلماء جهوداً سخية في محاولة إلتقاط أول الخيط في فهم تحليق هذه الحشرة المزعجة. وعلى طريقة الأفلام التي تجيد سينما هوليوود حبكها، جاءت بداية الحل من مكان غير متوقع. وأخيراً، أعلن أطباء متخصصون في الجهاز العصبي وأعماله، أنهم ربما بدأوا في تقليص دائرة الغموض حول هذا اللغز المحيّر. وبعد، فالبعوضة هي كائن بيولوجي وله جهاز عصب يدير طيرانه ويتحكم فيه، والأجدر بإختصاصيي الأعصاب من الأطباء دخول هذا الغمار الشائك. ويعتقد البروفسور مايكل ديكنسون، من جامعة كاليفورنيا، أنه توصّل مع زملائه إلى بداية فهم أسرار رشاقة طيران تلك الحشرة. في برميل زيت مع اضاءة بالليزر وفي مقال طويل نشرته أحدى مجلات العلم المتخصصة، أفاد ديكنسون أنه تابع الأعمال الرائدة التي أنجزها البروفسور البريطاني تشارلز ايلنغتون في جامعة كامبردج 1999، والتي أشارت إلى أن البعوضة تكوّن تيار هواء دائري وتثبته حول جناحيها، فلا ينفصل عنها أبداً. وفي قول مبسط، يمكن تقسيم طيران البعوضة إلى قسمين، أولهما رفرفة الجناحين التي تؤدي إلى التحليق إرتفاعاً وانخفاضاً، والثاني هو التيار الدائري الذي "يلتصق" بالجناحين دوماً، ويعطي للبعوض المهارات الأكروباتية في الطيران. وعمل فريق ديكنسون على بناء طائرة زجاج طولها 8 سنتيمترات لها مواصفات البعوضة من حيث شكل الجسم، ونسبة طول الجناح إلى الجسم، وطريقة تثبيت الأجنحة ووزنها، وما إلى ذلك. وضعت هذه الطائرة في برميل كبير من الزيت الذي ملئ بفقاقيع الهواء التي تضاء بالليزر. وبالطبع، تولت كاميرات قوية تصوير الطائرة من زوايا متعددة. وإستطاع هؤلاء العلماء تقليد طريقة تكوّن التيار الدائري حول جناحيّ الطائرة، تماماً كما هو الحال عند البعوضة، عبر تقليد طريقة تلك الحشرة في رفّ جناحيها قبل الإقلاع. وما أدهش ديكنسون وفريقه أنهم إستطاعوا الاحتفاظ بهذا التيار الدائري، في مختلف الأوضاع التي اتخذتها الطائرة في البرميل! أي أنهم قلدوا طريقة البعوض في التحليق، إلى حدٍ كبير جداً. ولا يملك ديكنسون تفسيراً كافياً لهذه الظاهرة التي استطاعوا تقليدها، لكنهم يعتقدون أنهم أنجزوا خطوة حاسمة على طريق فك لغز طيران البعوض. وفي حال توصل العلماء إلى فهم كافٍ لهذا الأمر، فان الخطوة الثانية ستكون صناعة طائرات "عادية" تطير كما البعوض. وتبدي شركات الطيران اهتماماً خاصاً في صنع طائرات صغيرة الحجم، تزود بمجسات وكاميرات فائقة الدقة، لها ما للبعوض من مهارة في الطيران. لماذا؟ لأن الشركات العملاقة في صناعة الأسلحة لا تكاد تطيق صبراً في انتظار تحقيق هذا "الحلم".