Houchang Hassan-Yari ed.. Le Processus de Paix au Moyen-Orient. العملية السلمية في الشرق الأوسط. L'Harmattan, Paris. 2001. 176 Pages. لا تعود أهمية هذا الكتاب، كما قد يوحي عنوانه، إلى استعراضه مسار العملية السلمية في الشرق الأوسط، بل إلى كونه يقدم رؤية كندية لمسار هذه العملية. فكندا تبدو للوهلة الأولى بعيدة غاية البعد عن منطقة الشرق الأوسط وعن القضية المركزية التي يمثلها فيه الصراع العربي - الإسرائيلي. ففي القضية الفلسطينية، كما في القضايا الدولية الأخرى، نادراً ما يسمع لكندا صوت، ونادراً ما يعار أهمية. وربما لأن كندا تعيش، ديبلوماسياً على الأقل، في ظل الجار الأميركي العملاق. وهذا فضلاً عن أن كندا ترادف في القارة الأميركية ما تمثله سويسرا في القارة الأوروبية: فهي نموذج لدولة "أنانية"، دائمة الانشغال بنفسها وبرفاهها الذاتي، ولا آبالية تجاه قضايا الشعوب والدول الأخرى، أو بتعبير أكثر تهذيباً: "حيادية". ومع ذلك - وربما كان هذا مؤشراً على العولمة المتعاظمة للقضية الفلسطينية - فإن معهداً كندياً مرموقاً للدراسات الاستراتيجية، وهو معهد راؤول داندوران التابع لجامعة كيبك، قد أخذ مبادرة الدعوة إلى عقد ندوة عالمية في مونتريال حول "العملية السلمية في الشرق الأوسط". وقد شارك في هذه الندوة عدد مرموق أيضاً من الباحثين والجامعيين الكنديين والأميركيين والفرنسيين والعرب والإسرائيليين، وكانت حصيلتها هذا الكتاب الجماعي الذي أشرف على تحريره هوشانغ حسن ياري، استاذ الدراسات العسكرية والاستراتيجية في قسم العلم السياسي والاقتصادي في المعهد العسكري الملكي الكندي في كنغستون. وتوزعت مداخلات الباحثين الكنديين - ونحصر اهتمامنا بهم ههنا - في ثلاثة اتجاهات: فتييري هنتش، استاذ العلوم السياسية في جامعة كيبك، قدم قراءة تأويلية جديدة لوعد بلفور الذي كان بمثابة النص التأسيسي لدولة إسرائيل. ففي نظر هذا الباحث أن وعد بلفور هو ترجمة سياسية للرؤيا البروتستانتية - لا اليهودية فحسب - للمصائر التاريخية لفلسطين. فاللورد بلفور، الذي كان يصدر عن تصور توراتي للعالم، فهم العودة إلى الكتاب المقدس على أنها عودة إلى أرض الكتاب المقدس: فلسطين. وانطلاقاً من عقيدته البروتستانتية، المتضافرة مع رؤية هيغلية لتحقق "الروح" في التاريخ، اعتبر أن من واجبه الديني كوزير خارجية لأقوى دولة في العالم في حينه، أن يعيد "الأرض المقدسة" إلى الشعب الذي أورث البشرية أول نص مقدس في التاريخ: العهد القديم. وتماماً كما أن العهد القديم التوراة كان بمثابة مقدمة للعهد الجديد الانجيل، فقد كان بلفور يتصور أن عودة اليهود إلى أرض الميعاد هو بمثابة مقدمة لعودة مهد المسيحية إلى المسيحيين. وبهذا المعنى لم يكن بلفور صهيونياً بقدر ما كان متابعاً، من خلال الوساطة الصهيونية، لحرب الاسترداد الصليبية للأرض المقدسة. ما أسقطه بلفور من حسابه، في رؤيته اللاهوتية - السياسية، هو الوجود السكاني الفلسطيني في أرض الميعاد. وهذا الوجود وكثافته هما المنطلق لورقة العمل التي قدمها اندرو روبنسن، "المنسق الخاص للعملية السلمية في الشرق الأوسط لدى وزارة الخارجية والتجارة الدولية الكندية" والمسؤول عن "مجموعة العمل المتعددة الأطراف حول اللاجئين". واطروحة روبنسن في منتهى البساطة: فعنده أن العنصر المركزي في الصراع العربي - الإسرائيلي هو وجود 5.3 مليون لاجئ فلسطيني متشتتين ما بين سورية والأردن ولبنان والضفة الغربية وغزة. وفي نظره أنه لا أمل في سلم دائم في المنطقة ما لم تتم تسوية مصير هؤلاء الفلسطينيين الذين يقر لهم - بلسان الحكومة الكندية نفسها - بالحق في تقرير المصير. وباعتباره مسؤولاً رسمياً، فإنه لم يهمل الاشادة بالدور الذي لعبته كندا - ولا تزال - في مجال المساعدات الإنسانية للتخفيف من آلام اللاجئين، بما في ذلك التبرع بملايين عدة من الدولارات لتحسين الخدمات البلدية في غزة، وانشاء مخيم خاص للاجئين باسم "مخيم كندا" تقطنه خمسمئة أسرة فلسطينية في سيناء قبل أن يتم تحويله لاحقاً إلى تل السلطان في رفح. يضاف إلى ذلك مبلغ 92 مليون دولار تعهدت الحكومة الكندية بتقديمه مقسطاً على أربع سنوات ابتداء من نهاية العام 1998 لتطوير البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية في المناطق التي تشرف عليها السلطة الفلسطينية. ولكن مقابل هذه الاشادة فإن الورقة الجماعية التي قدمها ثلاثة من الباحثين الشباب في كلية العلوم السياسية بجامعة كيبك حول حقوق الإنسان في إسرائيل وفي الأراضي المحتلة، أخذت على العكس موقفاً نقدياً من السياسة الرسمية للحكومة الكندية، المدموغة من قبلهم بأنها "ازدواجية". فالورقة تلاحظ أن حقوق الإنسان هي موضوع انتهاك مزمن في الأراضي التي تحتلها إسرائيل، وان الحكومة الإسرائيلية تطبق في هذه الأراضي سياسة تفرقة عنصرية حقيقية على طريقة "الابارتيد" في افريقيا الجنوبية. وتعدّد الورقة، بالإحالة إلى عام 1997 على سبيل التمثيل، الضروب التالية من الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان: - 18 فلسطينياً لقوا مصرعهم غيلة أو على الأقل في "ظروف لا قانونية". - 354 فلسطينياً اعتقلوا بصفة "إدارية" ولم يقدموا إلى المحاكمة ولم توجه إليهم أصلاً تهمة رسمية، علماً بأن الأمر الإداري باعتقالهم يتجدد بصورة آلية دونما تدخل سلطة قضائية، وبعضهم يقبع في السجون بلا محاكمة منذ سنوات عدة. - 1500 فلسطيني حكمت عليهم المحاكم العسكرية الإسرائيلية بعقوبات بالحبس لمدد طويلة، وأحياناً لمدى الحياة، بتهم لا تتعدى "قذف الحجارة" أو "القابلية للمشاركة في أعمال إرهابية". - انتزاع اعترافات السجناء الفلسطينيين بأساليب يصدق عليها التوصيف بأنها "تعذيبية"، وهذا طبقاً للمعايير المعتمدة من قبل "لجنة الأممالمتحدة ضد التعذيب". ومن هذه الأساليب ابقاء السجناء في وضعية مؤلمة ومنعهم من النوم وهزهم بعنف. وتسببت هذه الطريقة في موت أحد السجناء. وأباحت السلطة القضائية في إسرائيل، ممثلة ب"محكمة العدل العليا"، للأجهزة الأمنية استخدام "ضغوط جسدية معتدلة"، الأمر الذي جعل من إسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي أقرت، حسب تقرير منظمة العفو الدولية لعام 1998، مشروعية سوء المعاملة والتعذيب للمساجين. - اخضاع السكان الفلسطينيين في الضفة والقطاع لرقابة دائمة تأخذ، بين الحين والآخر، شكل منع تجول واغلاق للمعابر وحظر انتقال الأشخاص والبضائع وقطع التيار الكهربائي ووقف الإمداد بالنفط، مما يوقع خسائر فادحة بالاقتصاد الفلسطيني قدرت في عام 1997 بأكثر من 230 مليون دولار أميركي، ومما يجعل الأراضي المحتلة ومناطق الحكم الذاتي قابلة للوصف بأنها "بانتوستانات" على الطريقة الافريقية الجنوبية في عهد الابارتيد. - هدم منازل الفلسطينيين 671 منزلاً حتى نهاية حزيران/ يونيو 1998 تطبيقاً لمبدأ العقوبة الجماعية الذي يشجبه القانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان. - الاستيطان المكثف للأراضي الفلسطينيةالمحتلة في الضفة والقطاع والقدس الشرقية 350 ألف مستوطن إسرائيلي بحماية مباشرة من الجيش، وهذا خلافاً لنص المادة 49 من ميثاق جنيف الرابع المتعلق بحماية الأشخاص المدنيين وممتلكاتهم في زمن الحرب. وهو الميثاق الموقع عليه من قبل كندا بصورة رسمية. إن جميع هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة لم تمنع الدولة الكندية من تطوير علاقاتها الاقتصادية مع الدولة العبرية، وهذا في تناقض صارخ - كما تلاحظ ورقة الباحثين الكنديين الثلاثة - مع التزام كندا الرسمي بالدفاع عن حقوق الإنسان وبقطع أو تقليص علاقاتها الديبلوماسية والاقتصادية مع كل بلد ينتهك هذه الحقوق. ولكن في الوقت الذي تندد فيه الورقة الكندية الجماعية ب"ازدواجية" سياسة الحكومة الكندية التي لم تطبق حيال إسرائيل سياسة قطع أو تقليص العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية التي طبقتها مع جنوبي افريقيا في زمن الأبارتيد، ومع العراق على إثر احتلاله للكويت، فإن الورقة عينها تلاحظ أن حقوق الإنسان تنتهك لا من قبل السلطة الإسرائيلية وحدها في الأراضي المحتلة، بل كذلك من قبل السلطة الفلسطينية في مناطق الحكم الذاتي. وبقدر ما يتعين أن تقال الحقيقة بلا تجزئة ولا ابتسار، فلنقل ان ورقة الباحثين الكنديين الثلاثة ترصد، بالاعتماد على تقارير منظمة العفو الدولية، أربعة مظاهر لانتهاكات حقوق الإنسان في مناطق الحكم الذاتي: - الاعتقال التعسفي لمئات من المدنيين من دون اتهام ومن دون محاكمة ومن دون توسط السلطة القضائية. - اللجوء إلى التعذيب النفسي والجسدي للمعتقلين، سواء كانوا من "السياسيين" أم من المتهمين بالرشوة والفساد. - الاستخدام المفرط للعنف في أثناء قمع الشرطة الفلسطينية للتظاهرات العامة المدنية وغير المسلحة. - مصادرة حرية التعبير مثل الاغلاق العسفي لبعض الصحف ومحطات التلفزة، ومصادرة الكتب أو منع دخولها. وترد الورقة هذه الانتهاكات إلى عوامل أربعة: - الطابع السلطوي للسلطة الفلسطينية التي هي، ككل السلطات السياسية في المنطقة، طالبة للبقاء ولإدامة نفسها في المقام الأول. - ضعف ثقافة حقوق الإنسان في المنطقة وغيابها شبه التام عن فلسطين في الحقب الثلاث من تاريخها الحديث: الحكم العثماني والانتداب البريطاني والاحتلال الإسرائيلي. - قيود اتفاقيات أوسلو التي تلزم السلطة الفلسطينية بمقاومةالارهاب، مع عدم وضع حدود تمييزية بين الارهابيين وبين الإسلاميين بصورة عامة. - ضغط الحكومة الإسرائيلية وقدرتها على الابتزاز لإرغام السلطة الفلسطينية على إبعاد مصادر الإرهاب، وبالتالي المساهمة في ضمان الأمن للدولة العبرية، مما يجعل السلطة الفلسطينية أسيرة مصداقيتين متناقضتين: مصداقيتها الوطنية تجاه شعبها الرازح تحت الاحتلال، ومصداقيتها كمفاوض شرعي وشريك في صنع السلام مع الدولة العبرية المحتلة. والمفارقة ان هذه الازدواجية العضال التي تتخبط السلطة الفلسطينية بين فكي كماشتها تجد بعض ما يبررها ويغذِّيها في ازدواجية الدول الغربية نفسها. فهي إذ تعتبر نفسها مؤتمنة على حقوق الإنسان في كل مكان آخر من العالم، فإنها تميل إلى التزام الصمت عن انتهاك السلطة الفلسطينية لحقوق الإنسان ما دامت هذه الانتهاكات تصبّ في خانة "مقاومة الارهاب"، أي في محصلة الحساب ضمان أمن إسرائيل.