في كتابه الذي كان واحداً من أوائل المؤلفات الجدية والشاملة التي أرخت لفن السينما يقول الباحث لويس جاكوب، في معرض الحديث عن المخرج الأميركي ادوين إس. بورتر: "إذا كان جورج ميلياس، أول من وجه الفن السينمائي على درب المسرح، فإن ادوين إس. بورتر كان أول من وجه هذا الفن على درب السينما نفسها. فادوين إس. بورتر هذا كان أول من اكتشف ان الفن السينمائي ينتمي أولاً الى فن التقطيع التوليف الذي يمكن اعتباره اليوم القاعدة الأساسية لهذا الفن". صحيح ان معظم افلام ادوين إس. بورتر قد يبدو لنا مضحكاً ومثيراً للسخرية اليوم، بمواضيعه البسيطة، وتقنياته الساذجة وينطبق ذلك، بخاصة، على فيلمه الذي نحن في صدده هنا "سرقة القطار الكبير"، غير ان أهمية هذه الأفلام لا يمكن انكارها من حيث ريادتها، ومن حيث انها أسست لأنواع سينمائية كثيرة خاطبت عقول الناس وغرائزهم، ولا تزال، وكانت من أولى الأعمال التخييلية التي اكتشفت ان الكاميرا يمكنها ان تصور شيئاً آخر غير ما يجري حقيقة في الحياة، وان ما تصوره الكاميرا يمكنه بعد اشتغال فني عليه ان يتحول الى رؤى ومشاهد لا تقلد الحياة، بل تصبح حياة أخرى توازيها. ومن هنا ما يقال عادة من ان السينما، من أميركية وغير أميركية، اشتغلت طوال قرن من الزمن على "خلق طبيعة ثانية للمتفرج". وهذا الدور الأساس الذي لعبته السينما في حياة هذا المتفرج، انطلق أصلاً من التقنيات التي صاغت اللغة السينمائية، وكذلك من ذلك الاشتغال على ابتكار الأنواع السينمائية، مثل نوع رعاة البقر، ونوع الدراما، والنوع التشويقي والنوع التاريخي... وما الى ذلك. ولئن كان ميلياس الفرنسي اعتبر مؤسس نوع الخيال العلمي، ولئن كانت السينما الايطالية بخاصة مع "كابيريا" لجيوفاني باستروني، اعتبرت قبل الأميركي غريفيث، مبتكرة نوع السينما التاريخية، فإن ادوين إس. بورتر، كان من دون جدال خالق نوع سينمائي ارتبط من ناحية بتشويق المطاردات، ومن ناحية ثانية بعالم رعاة البقر. صحيح ان فيلم ادوين إس. بورتر "سرقة القطار الكبير" لم يكن أول فيلم تحدث عن رعاة البقر هؤلاء، محولاً اياهم الى تلك الاسطورة المتواصلة التي نعرف، كما انه لم يكن أول فيلم تخييلي أميركي، لكنه كان أول فيلم كبير ومهم يحقق في هذا المجال، حيث انه عرف كيف يلخص الأعمال القليلة التي سبقته ويخلق لها قوانينها التي ولدت على يديه ولا تزال سارية حتى يومنا هذا. حقق بورتر فيلم "سرقة القطار الكبير" في العام 1903، أي بعد ثمانية أعوام من الولادة الصاخبة لفن الصورة المتحركة، وفي العام التالي لولادة السينما الروائية على يد الفرنسي جورج ميلياس. وبورتر استقى موضوع فيلمه من مناخ مسرحي اميركي منتشر في ذلك الحين: مناخ ينقل الى خشبة المسرح مغامرات رعاة البقر، وعصابات قطاع الطرق، والصراع بين المجتمع والخارجين على القانون، في زمن كان العالم الأميركي يتأسس. في ذلك الحين كان أولئك الأفاقون هم الأشرار في زمن لاحق سوف يلصق الشر بالهنود الحمر ثم بالسود، ثم بالجنوبيين وما الى ذلك، وكذلك فإن بورتر افاد من اخبار الجرائم الكثيرة التي كانت الصحف تمعن في نشرها وتتفنن في وصف مرتكبيها. وهكذا، حين نقل ذلك المناخ الى "الشاشة الفضية" او "نايكل أوديون" كما كانت تسمى عند ذاك لم يكن يقدم جديداً طارئاً على الحياة الأميركية. كان فقط يجدد في فن السينما. ولقد كانت تجديداته في ذلك المجال متنوعة: فهو كان من أوائل الذين استخدموا اللقطة البانورامية لخلق تأثير درامي، ومن أوائل الذين وصلوا الى رسم البعد التشويقي من طريق التقطيع. لكن الأهم من هذا، ان بورتر، في اللقطة المكبرة التي صور فيها الشرير في فيلمه وهو ينظر ناحية الجمهور مهدداً، انما مهد لاستخدام الروسي ايزنشتاين لاحقاً، اللقطة المكبرة كمؤثر درامي اساس في فيلمه "الدارعة بوتمكين". ونحن اليوم اذ نشاهد صورة الشرير على تلك الشاكلة وهو يخاطب الجمهور مباشرة، لا ريب سوف يقفز واحد من قوانين البريختية الى ذهننا. فالحال ان بورتر، اذ شاء أن يرعب متفرجيه، عبر لغة تشويقية حقيقية، بفعل تلك اللقطة، تمكن من أن يفعل العكس: نبههم، عبر "تغريب" بدائي الى انهم يشاهدون حكاية مصورة لا أكثر. ومع هذا، لطالما أرعبت تلك اللقطة المتفرجين ودفعتهم بالملايين الى الصالات المظلمة، ما أدى بالتالي، وبفضل ذلك الفيلم ولغته تحديداً، الى انشاء صالات جديدة بسرعة، لتستوعب تدفقهم المدهش. في عرف تلك الأيام المبكرة، كان "سرقة القطار الكبير" يعتبر فيلماً طويلاً 240 متراً. وهو في امتاره تلك، التي تجعله في أيامنا هذه فيلماً قصيراً، قدم حكاية سريعة ومتلاحقة حول عصابة من قطّاع الطرق تتآمر لسرقة قطار، فتوزع المهام بين اعضائها: مجموعة تتولى ارغام عامل اللاسلكي في المحطة على مطالبة سائق القطار بتوقيفه وسط البراري القاحلة والخالية من الناس، ومجموعة أخرى تتولى مهاجمة القطار ما إن يقف فتقتل حارس عربة البريد، ثم تهاجم الركاب ناهبة كل ما يحملونه. وحين يحاول واحد من هؤلاء الركاب الهرب، يطلق اللصوص النار عليه ويردونه قتيلاً. إثر ذلك، وبعد ان ينتهوا من مهمتهم، يسرع رجال العصابة الى خيولهم التي كانوا خبأوها وسط الجبال القريبة، محاولين الهرب. ولكن لسوء حظهم يكون عامل المحطة قد أوصل الانذار الى الجميع، فيستنفر القرويون أنفسهم وأسلحتهم وجيادهم ويطاردون اللصوص القتلة، لينتهي الأمر بمعركة عنيفة وصاخبة، يقض فيها على اللصوص، وينتصر الخير على الشر. على رغم أن بورتر جعل مسرح حكايته، مناطق البراري والجبال التي يفترض ان تكون بعيدة الى الغرب، نعرف انه صور الفيلم كله في ضواحي نيويورك بين نيوجرزي وبترسون متنقلاً بين ديكورات طبيعية محدودة الحجم وديكورات بناها في الاستوديو. لم يكن الفضاء ما يهمه بل الحركة والتقطيع، ومن هنا جاء فيلمه "الواقعي" هذا حافلاً، بضروب الخداع التي ستطغى على السينما لاحقاً. كما انه حرص على ان يصبغ بعض مشاهد الفيلم بصبغة واقعية مشهد العبد القروي، الذي يقطعه انتشار نبأ السرقة، ووجوم القرويين... الخ. ادوين إس. بورتر، الذي يعتبر بفضل فيلمه هذا، من مؤسسي اللغة السينمائية، وسينما الحلم الأميركي، ولد العام 1870 في بيتسبرغ. وهو بدأ العمل السينمائي في صباه مشتغلاً في فريق توماس اديسون الذي يمكن اعتباره المؤسس الحقيقي للفن السينمائي. ثم أخرج الكثير من المشاهد التسجيلية، قبل ان يحقق واحداً من أشهر أفلامه الأولى: "حياة اطفائي أميركي"، الذي اتبعه ب"سرقة القطار الكبير"... وهو واصل عمله بعد ذلك، لكنه لم يحقق لاحقاً اي نجاح يمكن التوقف عنده. وحين رحل عن عالمنا في العام 1941، كان مجرد جزء من التاريخ المتحفي لفن السينما.