Eric Jozsef. Main Basse sur L'Italie: La Resistible Ascension de Silvio Berlusconi. السطو على ايطاليا: الصعود القابل للمقاومة لسيلفيو بيرلوسكوني. Grasset, Paris. 2001. 294 Pages. هذا الكتاب، الذي صدر قبل شهر واحد من المعركة الانتخابية الكبرى التي شهدتها ايطاليا في منتصف أيار مايو الماضي، تقصّد ان يصف صعود سيلفيو بيرلوسكوني بأنه "قابل للمقاومة" على منوال العنوان المشهور لمسرحية برتولت بريخت: "الصعود القابل للمقاومة لأرتورو وي". وبديهي ان هذه الاستعارة العنوانية لم تكن من قبيل الصدفة. فبريخت، اللاجئ في حينه الى الولاياتالمتحدة الاميركية، كان رمز من خلال شخصية ارتورو وي، التي اقتبسها من أوساط زعماء عصابات الاجرام في شيكاغو، الى صعود هتلر، زعيم العصابة النازية، واستيلائه على الحكم في الوطن الأم المانيا بآلية انتخابية لا غبار عليها أوصلته، في 1933، الى رئاسة الحكومة بصورة شرعية. هل معنى ذلك ان بيرلوسكوني هو "هتلر ايطالي"؟ بديهي ان لا. فالنازية لم تعد قابلة لإعادة الانتاج لا في ايطاليا، ولا في أي بلد أوروبي غربي. وأقصى ما يمكن ان يتقمصه من الأدوار اليوم هتلر جديد في الديموقراطيات الأوروبية الغربية هو دور "هايدر نمسوي" أو "لوبن فرنسي". ولكن لا هذا الوصف ولا ذاك ينطبق على بيرلوسكوني. وهو ترك اصلاً هذين الدورين ليلعبهما حليفاه في المعركة الانتخابية: امبرتو بوسي، زعيم رابطة الشمال، وجيان فرانكو فيني، زعيم "التحالف القومي" الجنوبي. لكن دور هذين الحليفين في صعود بيرلوسكوني يبقى ثانوياً، وهو لم يتحالف معهما اصلاً الا بعد ان ألزمهما بعض حدودهما: فقد أُجبر بوسي، زعيم الانفصاليين الشماليين على التخلي عن برنامجه في الانفصال القومي ليستبدله بمحض برنامج اتحادي. كما أجبر فيني، زعيم الموسوليين الجدد، على التخلي عن برنامجه الفاشي واستبداله ببرنامج قومي محض. والواقع ان حكاية بيرلوسكوني، قبل ان تكون حكاية صعود، هي حكاية سقوط: سقوط حملة الطبقة السياسية الايطالية التي تحكمت بمقاليد ايطاليا الحديثة على مدى حقبة نصف القرن التالية لنهاية الحرب العالمية الثانية. وقد بدأت حكاية السقوط هذه، التي انتهت، تماماً كما في القصة التوراتية، بإخراج الطبقة السياسية الايطالية من "جنة الحكم"، في 1992، وتحديداً في السابع عشر من شباط فبراير مع بداية عملية "الأيدي النظيفة". ففي ذلك اليوم ألقي القبض على ماريو كييزا، احد كبار بارونات الحزب الاشتراكي الايطالي، وهو متلبس بجريمة الرشوة. وعلى الأثر انفجرت في ساحة القضاء سلسلة من فضائح الفساد المالي والاداري طالت المئات من رؤوس الحياة السياسية ورموزها، وفي مقدمها رئيس الوزراء الاشتراكي بتينو كراكسي، الذي لاذ بالفرار الى دارته في الحمامات بتونس، وجيوليو اندريوتي زعيم الديموقراطيين المسيحيين الذي كان شغل منصب وزير لثلاث وثلاثين مرة ومنصب رئيس الوزراء لسبع مرات. وفي الفترة ما بين 1992 و1994 تمكن القضاة المولجون بعملية "الأيدي النظيفة" من ان يسوقوا الى المحاكمة، بتهمة الرشوة والارتشاء، نحواً من ستة آلاف شخصية سياسية وادارية، بمن فيهم وزراء ونواب ورؤساء مجالس بلدية وضباط ومدراء، و25 في المئة من جملة اعضاء مجلس الشيوخ. وقد قدرت وزارة المالية الايطالية في حينه ان الخسائر السنوية للخزينة الايطالية من جراء الفساد والاحتيال الضريبي لا تقل عن 100 ألف مليار ليرة ايطالية، أي نحواً من 90 مليار دولار، ولم تبق ظاهرة الرشوة والإرتشاء قاصرة على الدرجات العليا من سلم الإدارة في الدولة والقطاع العام، بل شملت ايضاً الدرجات الدنيا بدءاً برجال الشرطة وانتهاء بمعلمي المدارس. فقد أشار تقرير تربوي أذيع في حينه ان الغش قد عمّ حتى الامتحانات في المدارس، وان "بيع" أسئلة الامتحانات غدا ظاهرة معممة، بما في ذلك امتحانات مسابقات الدخول الى الجامعات والوظيفة العامة. وهذا كله ما جعل "مرصد الشفافية الدولي" يبوّئ ايطاليا المرتبة الأولى في أوروبا، والمرتبة الثامنة والثلاثين على المستوى العالمي بعد بوتسوانا وناميبيا على سبيل المثال، في قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم. زلزال "الايدي النظيفة" الذي ضرب بعنف الطبقة السياسية الايطالية في 1992 - 1993 واحدث خلخلة وفراغات واسعة في صفوفها، هو الذي قدم لبيرلوسكوني الفرصة الذهبية للتحول المفاجئ من رجل مال الى رجل سياسة، وللصعود الصاعق الى هرم السلطة السياسية وصولاً الى سدة رئاسة الحكومة في 1994. فبين عشية وضحاها، وقبل شهرين من موعد الانتخابات التشريعية، وزع سيلفيو بيرلوسكوني في 26 كانون الثاني يناير 1994 - ولم يكن في حينه الا مقاولاً للبناء ومالك عدة شبكات تلفزيونية واعلانية - كاسيت فيديو مسجلة من تسع دقائع يعلن فيها عن ترشيح نفسه للانتخابات بوصفه "الرجل المخلص" في ساعة "الإنهيار الكبير". وبعد ذلك ببضعة ايام اطلق رسمياً حركته السياسية الخاصة تحت اسم "فورتزا ايطاليا" تقدمي يا ايطاليا في مهرجان تلفزيوني كبير وعد من خلاله بمكافحة الفساد والجريمة المنظمة والهجرة اللامشروعة ومساعدة الفقراء وخلق مليون فرصة عمل جديدة. وفي الوقت الذي وعد ب"معجزة اقتصادية على الطريقة الايطالية"، أنفق على حملته الانتخابية الأولى، التي نظمها على الطريقة الاميركية، مبلغاً ضرب به رقماً قياسياً: 22 مليار ليرة، أي ما يعادل 13 مليون دولار اميركي. وقد وصفت حملته الانتخابية في حينه بأنها عملية ناجحة للتنويم المغناطيسي الجماعي بواسطة التلفزيون. فقد جاء فرز صناديق الاقتراع في 28 آذار مارس 1994 ليؤكد انهيار الاحزاب الايطالية، وفي مقدمتها الحزب الاشتراكي الذي لم يحصل الا على 2.2 في المئة من اصوات الناخبين، والصعود الصاعق والساحق للتحالف الانتخابي الذي قاده بيرلوسكوني، مع بوسي زعيم رابطة الشمال وفيني زعيم التحالف القومي، الذي حصل على 40 في المئة من أصوات الناخبين وأعطى للغالبية اليمينية الجديدة 366 مقعداً من أصل 630 في البرلمان الايطالي. وازاء هذه النتائج لم يكن أمام رئيس الجمهورية الايطالية مناص من ان يكلف بيرلوسكوني، الذي بات يلقب من قبل اجهزة الاعلام ب"الفارس"، بتشكيل حكومة "الخلاص الوطني" الموعودة. ولكن هنا كانت المفاجأة. فحكومة بيرلوسكوني لم تعمر سوى سبعة اشهر لم تستطع خلالها ان تفي بوعدها في الانقاذ العام الا بالنسبة الى الموقوفين على ذمة التحقيق في عملية "الأيدي النظيفة". ففي 13 تموز يوليو أقر مجلس وزرائه، بإجماع أصواتهم، مرسوماً باعتبار وقائع الرشوة والارتشاء - ما لم ترتبط بالجريمة المنظمة - "جنى" لا تستوجب عقوبة الحبس. وعلى اثر هذا المرسوم أطلق من السجون سراح ثلاثة آلاف موقوف بتهمة الفساد، واضطر القاضي انطونيو ديل بييترو الذي كان قاد عملية "الأيدي النظيفة" الى تقديم استقالته. وبعد هذا المرسوم "الإنقاذي" بادرت حكومة بيرلوسكوني في خريف 1994 الى اعداد مرسوم ثان كان بمثابة استفزاز حقيقي لمشاعر ومصالح شرائح عريضة من الشعب الايطالي. فبحجة ضغط الميزانية وتقليص الضرائب قررت حكومة "الخلاص الوطني" تمديد سن التقاعد من ستين سنة الى خمس وستين بالنسبة الى الرجال، ومن خمس وخمسين الى ستين بالنسبة الى النساء. وعلى الأثر استحوذ الغضب على الايطاليين، واحتشد مليون ونصف المليون من جالهم ونسائهم في تظاهرة احتجاجية عارمة في شوارع روما في 12 تشرين الثاني نوفمبر 1994، فاضطرت حكومة بيرلوسكوني الى سحب مشروع مرسومها، ثم الى تقديم استقالتها بعد ثلاثة اسابيع. ويبدو ان "الفارس" قد تعلم الدرس. فعلى امتداد السنوات الست التالية عمل من خلال شبكات التلفزيون والصحافة التي يمتلكها على "تلميع" صورته والتخفيف من حدة ملامحها اليمينية، وعلى إكسابها مسحة عميقة من الشعبوية. وفي الوقت نفسه سعى بيرلوسكوني الى تحسين سمعته الأوروبية من خلال زيارات متعددة الى العواصم الأوروبية الفاعلة ليطمئن المسؤولين فيها الى التزامه الديموقراطي، وبوجه خاص الى قدرته على لجم الجموح الانفصالي والفاشي لكل من بوسي وفيني. ولم يغب عنه ان يقوم بزيارة للقدس حيث أعلن عن تنصيب نفسه "خير صديق لاسرائيل في ايطاليا". وفي اثناء ذلك كانت صدرت على بيرلوسكوني، ضمن اطار عملية "الأيدي النظيفة"، ثلاثة احكام ابتدائية بالسجن 16 شهراً، وسنتين وأربعة اشهر، وسنتين وتسعة اشهر على التوالي بتهم الرشوة والتمويل اللامشروع للاحزاب السياسية والتهرب الضريبي. لكن جميع هذه الاحكام لم تأخذ طريقها الى التنفيذ نظراً الى ان بطء الاجراءات القضائية في ايطاليا جعل بيرلوسكوني يستفيد من بند "التقادم". وعرف "الفارس" ههنا ايضاً كيف يقلب الموقف لصالحه. فقد اعترف على الملأ بأنه يملك ثروة من 13 مليار دولار، مما يجعله بالفعل أغنى رجل في ايطاليا، ولكن ليضيف ان رجلاً غنياً مثله هو وحده من يستطيع ان يحكم بنزاهة لأنه لن يكون بحاجة الى ان يسرق الدولة، والى ان يوظفها في خدمة مصالحه الخاصة. ويبدو ان الايطاليين صدقوا هذه الحجة، فصوتوا لصالحه بكثافة في انتخابات 13 ايار مايو 2001. لكن ما غاب عنهم ان بيرلوسكوني أنفق، لإقناعهم بذلك، مبلغ 50 مليون دولار وظفها في اكبر حملة اعلامية من نوعها في تاريخ ايطاليا، لا سيما وان من تولى تنظيمها له هم خبراء الاعلام الاميركيون من مجموعة "المعلم" ستانلي غرينبرغ التي أصابت شهرة عالمية من خلال اشرافها "السيكولوجي" على الحملات الانتخابية لكل من بيل كلينتون في اميركا وتوني بلير في انكلترا وغيرهارد شرودر في المانيا.