فجرت محكمة أمن الدولة العليا في مصر أمس مفاجأة كبيرة، اذ اعفت المهندس شريف فوزي الفيلالي من العقوبة في قضية التجسس لحساب إسرائيل والتي شغلت الأوساط المصرية والدولية منذ كشفها جهاز الاستخبارات المصري في ايلول سبتمبر الماضي. ودانت المحكمة، غيابيا، المتهم الاخر في القضية الروسي الروسي غريغوري جيفنيس بالاشغال الشاقة المؤبدة. وأعلن رئيس المحكمة ان اعفاء الفيلالي من العقوبة لم يستند إلى عدم صحة التهم، وإنما لكونه أقدم من تلقاء نفسه على التوجه إلى مقر جهاز الاستخبارات ليبلغ عن وقائع القضية، فرأت المحكمة استجابة طلبه الإعفاء من العقوبة، وذلك في سابقة في تاريخ القضاء المصري. أسدلت محكمة أمن الدولة العليا في القاهرة أمس الستار على قضية التجسس لحساب إسرائيل التي اتهم فيها المواطن المصري المهندس شريف فوزي الفيلالي الذي حوكم حضورياً والروسي غريغوري جيفنيس الذي حوكم غيابياً. وجاءت النهاية سعيدة بالنسبة الى الفيلالي الذي حصل على الاعفاء من العقوبة على رغم أنها أقرت بصحة ما قدم اليها من تحريات، وأكدت سلامة إجراءات التحقيق، الأمر الذي يشير إلى عدم وقوع جهاز الاستخبارات في خطأ بتقديمه القضية إلى النيابة. وكانت المحكمة عقدت الجلسة وسط إجراءات أمنية مشددة، برئاسة المستشار محمد عاصم الجوهري وعضوية المستشارين علاء البنا ومحسن داود. ودخل المتهم المصري القاعة محاطاً بأعداد كبيرة من قوات الشرطة الذين أدخلوه القفص الحديدي مقيداً وبدت عليه الرهبة والخوف. فيما جلس أفراد عائلته في القاعة بعد ما أشاروا له بعلامة النصر أثناء دخوله. ولم تستغرق الجلسة سوى دقائق معدودة أعلن خلالها القاضي الحكم ببراءته. وتوقف القاضي عن الحديث بعدما صاحت والدة المتهم "الله أكبر.. يحيا العدل" مرات عدة. وضجت القاعة بأصوات عالية، بين الإشادة والاستغراب. ثم أكمل القاضي مضمون الحكم ليعلن إدانة المتهم الروسي والحكم عليه غيابياً بالأشغال الشاقة المؤبدة وغرامة مقدارها ألف جنيه. ثم تلا فقرات من حيثيات الحكم جاء فيها: "حيثان الجرائم المستندة للمتهمين وقعت لغرض جنائي واحد وارتبطت ببعضها ارتباطاً لا يقبل التجزئة ومن ثم وجب عقابهما بالعقوبة الأشد، وحيث أن المحكمة انتهت إلى ثبوت الاتهام في حقهما إلا أنه وفي مجال تقدير العقوبة بالنسبة للمتهم الأول الفيلالي فإنها تقف أمام طلب الإعفاء من العقاب عملاً بنص المادة 84 أ من قانون العقوبات التي أجازت للمحكمة إعفاء الجاني من العقاب إذا بادر بإبلاغ السلطات الإدارية والقضائية بعد إتمام الجريمة وقبل البدء في التحقيق". وأضاف: "لما كانت التحقيقات كشفت أن الفيلالي ومنذ وصوله إلى البلاد يوم 10 أيلول سبتمبر 2000 وحتى يوم 12 من الشهر نفسه لم تكن السلطات على علم بالجرائم التي ارتكبها إلا في يوم 13 من الشهر بعد أن توجه بنفسه إلى مقر الاستخبارات العامة مبلغاً وفي التحقيقات راضياً، وفي نهايتها نادماً، مقدماً الروح فداءً للوطن، فإنه إزاء تلك الظروف فإن المحكمة تقف طويلاً أمام طلب الإعفاء". وتابع القاضي: "من ذا الذي يصدق أن يسقط المتهم في مستنقع الخيانة حتى يوم 6 أيلول سبتمبر من العام الماضي ويعود إلى أرض الوطن بعد أربعة أيام ويسارع الخطى إلى الاستخبارات مبلغاً وحاكياً لرجالها قصة السقوط منذ أن سافر إلى ألمانيا في آيار مايو 1990 قاصاً تفاصيل أحداثها بما فيها من أفعال يخجل ويستحي المرء من ذكرها لمنافاتها لكل القيم الأخلاقية. ولكن أمام عزة الوطن وكرامته لا حياء ولا خجل وإنما هي لحظات للندم والتجرد". واعتبر القاضي أن أحداث القضية "كشفت عن عمق انتماء الشباب المصري لأرضه"، وتابع "قد يسخط الشباب أو يضيق أو يتألم أو يصرخ، نعم إلا أنه لا يسقط أبداً فإذا ما تعثرت قدماه وسقط نهض على الفور. حاول الكثيرون تفسير هذا الارتباط الوثيق بين ابناء مصر وأرضهم ووطنهم فعجزوا لأن ذلك لا يمكن تفسيره أو تصوره، فالحضارة المصرية الضاربة في القدم ليست تاريخاً يُروى، ولكنها جذور ممتدة في أعماق النفس البشرية، ولذلك قيل وبحق أن مصر وطن يعيش فينا وليست وطناً نعيش فيه. وخلص إلى أن المحكمة "استلهمت تلك القيم النبيلة واستجابت لنداء الفيلالي بطلب الإعفاء من العقاب فقضت بالبراءة". وسجل الحكم سابقة في تاريخ قضايا التجسس في مصر، إذ أنها المرة الأولى التي يقضي فيها باعفاء متهم أحيل على المحاكمة استناداً إلى إقدامه من تلقاء نفسه على الإبلاغ عن وقائع القضية، وثتبت المحكمة اقدامه على العمل لمصلحة استخبارات اجنبية. وعقد المستشار الجوهري عقب انتهاء الجلسة لقاءً مع الصحافيين في غرفة المداولة نفى خلاله أي أبعاد سياسية وراء الحكم، ونفى أن تكون أي جهة تدخلت فيه، وشدد على استقلال القضاء المصري وعدم خضوعه لضغوط، وأكد أن اعفاء الفيلالي استندت إلى مواد القانون المصري ورأى أن الحكم يمنح أي مصري أقدم على التورط في عمل ضد بلاده أن يعود إلى رشده. وكان القاضي عاصم استجاب أثناء جلسات المحاكمة لكل الطلبات التي قدمها الدفاع وأصر على أن تفصح النيابة عن المكان الذي احتجز فيه الفيلالي عقب القبض عليه، وأقرت النيابة أنه سجن في مقر الاستخبارات كما استجاب لطلب الدفاع سماع شهادة الملحق العسكري المصري في مدريد رغم اعتراض النيابة. وأوضح الجوهري أنه حرص على أن يكون المتهم مطمئناً إلى عدالة المحكمة، وأشار إلى أنه وهيئة المحكمة عمدوا إلى اصدار اسباب الحكم في الجلسة نفسها نظراً لأهمية القضية وما حظيت به من تغطية إعلامية واسعة وتحسباً لتفسيرات خاطئة قد تؤول الحكم على غير الحقيقة. وحصلت "الحياة" على نسخة من مذكرة حوت أسباب الحكم وجاء فيها "أن المحكمة "ثبت لديها، يقيناً، أن المتهم الأول الفيلالي تخابر مع من يعملون لمصلحة دولة أجنبية بقصد الإضرار بالمصالح العليا للبلاد بأن اتفق مع المتهم الثاني جيفنيس وآخرين في الخارج على التعاون معهم لصالح جهاز الاستخبارات الإسرائيلي موساد وأمده بمعلومات وسلم إليه تقارير عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والسياحية بقصد الإضرار بمصالح مصر، وأنه طلب وأخذ ممن يعملون لمصلحة دولة أجنبية أموالاً بقصد القيام بأعمال ضارة بمصالح البلاد بأن أخذ من المتهم الثاني مبلغ خمسة آلاف دولار مقابل تعاونه مع عملاء موساد ومدهم بمعلومات". واضافت المذكرة أن المتهم الروسي "شارك بطريق الاتفاق مع الفيلالي في ارتكاب جريمة التخابر واعطاء مبالغ مالية بقصد ارتكاب عمل ضار بمصالح مصر". وأكدت اسباب ان اعفاء الفيلالي استند فقط إلى طلب الدفاع، لكونه "أقدم من تلقاء نفسه على الإبلاغ عن الجرائم الواردة في ملف القضية، وليس لأي سبب آخر". وردت على الدفوع التي قدمها المحامي أحمد سعيد عبد الخالق ورفضت الدفع ببطلان التحريات التي أعدها جهاز الاستخبارات، وأوضحت أن المحكمة "تطمئن إلى التحريات وترتاح إليها لأنها تحريات صريحة وواضحة وتصدق من أجراها وتقتنع بأنها أجريت فعلاً بمعرفة رجال الاستخبارات وحوت بيانات كافية وجاءت مرددة لاعترافات المتهم التفصيلية ومؤكدة لها"، وعن الدفع ببطلان اعترافات المتهم لكونها جاءت وليدة إكراه، واستغرقت وقتاً طويلاً ما أصابه بالإرهاق اثناء التحقيق قالت المحكمة "إن مجرد طول أمد إجراءات الاستجواب لا يعد من الاكراه المبطل للاستجواب إذ أن إرادة الجاني لم تتأثر كما أن الاعترافات تضمنت أموراً دقيقة وأسراراً خاصة لا يعرفها غيره ما ينفي أن تكون انتزعت منه". ورفضت المحكمة كذلك الدفع بعدم وجود اتفاق جنائي بين المتهمين، وقال: "الثابت من ملابسات القضية وظروفها وجود اتفاق بين الفيلالي وجيفنيس بمقتضاه يمد المتهم الأول الثاني بمعلومات عن الحالة الاقتصادية والسياسية والسياحية للبلاد مقابل بملغ مالي يسدده الثاني للأول". وأشارت إلى أن "اعترافات المتهم المصري جاءت معبرة عن الحقيقة بما يؤكد أن جريمة التخابر مع عميل لدولة أجنبية سواء كانت إسرائيل أو غيرها وقعت بالفعل، وأنه أخذ لقاء قيامه ببعض الأعمال التي كلف بها مبلغاً من المال"، ولفتت المحكمة إلى أن اعتراض الدفاع على سجن الفيلالي على أن التحقيقات في مقر الاستخبارات وليس في أحد السجون العامة "لم يؤثر على وقائع القضية، إذ أنه اعترف بتورطه قبل أن يسجن". ووفقاً للقانون المصري فإن الأحكام الصادرة عن محاكم أمن الدولة العليا في ظل قانون الطوارئ غير قابلة للطعن أو الاستئناف أمام أي هيئة قضائية أخرى. ويمنح القانون النيابة العامة حق الطعن فيها خلال30 يوماً من تاريخ مصادقة رئيس الجمهورية عليها على أن يستند الطعن إلى خطأ في إجراءات المحاكمة. ويتعين على السلطات المصرية إطلاق الفيلالي وهي بدأت أمس في إجراءات الإفراج عنه.