أجمعت التحليلات التي تناولت زيارة الرئيس مبارك الأخيرة لواشنطن على أنها كانت زيارة صعبة وذات مذاق خاص ومختلف عما تعودناه في الزيارات السابقة والتي اصبحت دورية ومنتظمة مع بداية كل ربيع! وتعود صعوبة هذه الزيارة واختلافها عما سبقها من زيارات الى قائمة طويلة من الأسباب: أولها: وجود ادارة اميركية جديدة لا يقتصر جديدها على الرئيس وطاقم المعاونين ولكنه يشمل كل رموز مواقع الإدارة على اختلاف مستوياتها. وفي سياق كهذا تعين على الرئيس مبارك أن يضع الأساس لشبكة جديدة من العلاقات وأن يعيد بناء جسور قديمة على دعائم جديدة. وتلك مهمة ليست سهلة أو ميسورة بالنظر إلى الطبيعة المعقدة للمجتمع الاميركي وقدرتنا المحدودة على فهمه أو الوصول إلى مفاتيحه. وثاني هذه الأسباب: يعود الى وجود حكومة إسرائيلية جديدة يمينية متطرفة ومعادية للسلام لا تعرف غير لغة القوة. واذا كانت الادارة الاميركية الجديدة غير معروفة جيداً للعرب فالحكومة الإسرائيلية هي، على العكس، كتاب مفتوح أمامهم. فعلى رأس هذه الحكومة يقف جزار من حزب ليكود اسمه شارون لا تزال بصماته الدموية محفورة في ذاكرة العرب ومطبوعة على أماكن كثيرة في فلسطين وفي سيناء وفي لبنان. ويكفيه عاراً أنه دين رسمياً، ويتحمل بالتالي جانباً من المسؤولية الجنائية، في مجزرة صابرا وشاتيلا التي راح ضحيتها آلاف اللاجئين الفلسطينيين بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان العام 1982، وينوب عن شارون في رئاسة الحكومة ويشغل في الوقت نفسه منصب وزير الخارجية ثعلب من حزب العمل اسمه بيريز، وهو ايضا معروف للعالم العربي جيداً ولعب أخطر الأدوار في حياة اسرائيل السياسية بدءًا من دوره في وضع اللبنات الاولى للبرنامج النووي الاسرائلي، بالتعاون مع فرنسا، حين كان مديراً عاماً لوزارة الخارجية الاسرائيلية في الخمسينات، وانتهاء بدوره في ضرب لبنان وبمسؤولياته عن مذبحة قانا حين كان يشغل منصب رئيس الوزراء العام 1996. وفي سياق كهذا تعين على الرئيس مبارك أن يطلب من ادارة اميركية جديدة، تجهل الكثير عن حقائق ما يجري في الشرق الأوسط، أن يكبح جماح وزارة اسرائيلية جديدة، تتحرق شوقاً لخوض حرب اقليمية شاملة، وتلك مهمة لا تقل صعوبة بالنظر الى طبيعة العلاقات الاميركية - الاسرائيلية التي يدرك مبارك حقائقها جيداً. وثالث هذه الاسباب: أن الحزب الجمهوري الفائز بالسلطة في أعقاب هزيمة الحزب الديموقراطي هو، بحكم توجهه الايديولوجي وقاعدته الانتخابية، حزب يميني يحرص على أن تظل الولاياتالمتحدة هي القوة العظمى الأوحد في العالم. لكنه مع ذلك لا يحبذ قيام الولاياتالمتحدة بلعب دور شرطي العالم. وعلى رغم أن السياسة الخارجية لم تحتل موقعاً بارزاً في الحملة الانتخابية للرئيس الاميركي الجديد إلا أنه حرص منذ اللحظة الأولى لتوليه منصبه على إعادة تأكيد إصراره على زيادة الاعتمادات المخصصة للدفاع وعلى المضي قدماً في استكمال بناء برنامج الصواريخ المضاد للصواريخ، مما وضع العالم كله في أجواء تشبه أجواء الحرب الباردة وأثار انتقادات واسعة النطاق ليس فقط من جانب روسيا والصين ومعظم دول العالم الثالث، ولكن ايضا من جانب اوروبا الغربية واليابان. ومن المعروف أنه في اجواء الحرب، الباردة منها والساخنة، تصبح اسرائيل اكثر نشاطاً وحماساً في عرض خدماتها ويصبح خطابها السياسي اكثر اقتراباً من عقل وقلب الادارة الاميركية. أي أن مبارك ذهب الى واشنطن هذه المرة في وقت يعلو فيه قرع طبول حرب باردة جديدة ولا تسمع أنغام السلام إلا همساً. ولم يكن ذلك هو المناخ الأنسب للرسالة التي حملها مبارك الى واشنطن. ورابع هذه الاسباب: أن زيارة الرئيس مبارك للولايات المتحدة سبقتها ضربة عسكرية كبيرة للعراق وجولة لوزير الخارجية الاميركي الجديد كولن باول في المنطقة. وأصبح معروفاً الآن أن الضربة لم تكن مجرد عملية روتينية أو حتى عملية عسكرية بحتة استهدفت إجهاض تحسن طرأ على نظام الدفاع الجوي العراقي بعد تزويده بتجهيزات الكترونية متقدمة من صربيا، كما قيل، وأن جولة الوزير الاميركي لم تكن زيارة عادية بهدف التعرف المباشر على أوضاع المنطقة، لكنهما شكلا معا الضربة والجولة عملية سياسية واحدة درست بعناية شديدة واتخذ قرار بشأنها بواسطة مجموعة عمل شكلت من عدد من أقرب معاوني الرئيس الاميركي الجديد قبل أن يتولى منصبه رسمياً. أما الهدف منها فكان توصيل رسالة، على الطريقة الاميركية، الى الحكومات العربية مفادها أن تغيراً جوهرياً طرأ على السياسة الاميركية في المنطقة وبأن موقع القضية الفلسطينية على جدول أعمال الادارة الاميركية الجديدة تراجع لتحل القضية العراقية محله، ولم تتشاور الادارة الاميركية مع أحد من حلفائها في العالم العربي وفضلت، كعادتها في مثل هذه الامور، وضع الحكومات العربية أمام أمر واقع جديد. وجاء باول إلى المنطقة لا ليبحث في كيفية إعادة "عملية السلام" إلى مسارها الصحيح ولكن ليبيع للحكومات العربية صفقة "العقوبات الذكية" على العراق. ورغم أن القاهرة لم تقتنع بالمبررات التي ساقها باول وأبدت تحفظاتها على التوجهات الاميركية الجديدة وحذرت من خطورة ما يجري على الساحة الفلسطينية وأيضاً من خطورة السياسة الاميركية تجاه العراق، إلا أن مهمة الرئيس مبارك في واشنطن اصبحت اكثر صعوبة وبدت العملية السياسية الخاطفة، الضربة والجولة، وكأنها محاولة اميركية لرسم خطوط حمراء أمام مؤتمر القمة العربية، من ناحية، وتخفيض مستوى توقعات الزوار العرب للبيت الابيض، من ناحية أخرى. وخامس هذه الاسباب: ان زيارة الرئيس المصري لواشنطن سبقتها مباشرة هذه المرة زيارة أخرى قام بها رئيس الوزراء الاسرائيلي. ورغم أن ترتيب الزيارات على هذا النحو كانت له في ذاته دلالة لا تخفى على أحد، فقد كان هناك في العالم العربي من يعتقد أن زيارة شارون للولايات المتحدة ستكشف عن حجم البرود الذي طرأ على العلاقات الاميركية - الاسرائيلية. فرئيس الوزراء الاسرائيلي تسبقه سمعته السيئة أينما حلَّ، والرئيس الاميركي الجديد لا يدين بأي فضل في انتخابه للجالية اليهودية التي وقفت ضده صراحة، ولم تكتف بعدم التصويت له ولكنها راحت حتى آخر لحظة تُسخّر كل طاقاتها ونفوذها لحسم معركة إعادة فرز الاصوات لمصلحة منافسه آل غور ونائبه اليهودي ليبرمان. لكن ما حدث خلال زيارة شارون أظهر لهؤلاء المراقبين العرب الطيبين أن العلاقات الاميركية - الاسرائيلية أقوى وأمتن من أن يعكر صفوها سفاح بدرجة رئيس وزراء أو منافسات حزبية تعتبر في العرف الاميركي تنافساً مشروعاً تقره قواعد اللعبة السياسية. فقد فاق الترحيب بشارون كل وصف وتمت الزيارة في جو حميمي وبالغ الود. وراح شارون ينفث سمومه مستعيناً بجهاز إعلامي اميركي متوحش بدا وكأنه طوع بنانه: فالرئيس عرفات عاد الى طبعه الارهابي القديم وهو المسؤول الأول عن العنف وعن المواجهات التي تجري على الأرض، وسقوط أطفال الحجارة في فلسطين سببه أن أتباع عرفات يستخدمونهم كدروع بشرية يطلقون من ورائها النار، ومصر وسورية وايران وحزب الله كلهم سواء، فهم يساعدون عرفات ولا يهدفون في النهاية إلا تدمير الدولة اليهودية.. بل إن شارون راح يلقي بنصائحه، وربما بتعليماته، بما يجب على الادارة الاميركية ان تقوم به لتأديب هؤلاء المارقين بما في ذلك تخفيض أو حتى إلغاء المعونات الاميركية لمصر. فإذا أضفنا الى هذه الاسباب الخمسة ما يسبق هذه الزيارة الدورية من نشاط محموم، اصبح الآن روتينيا وجزءًا من الفولكلور السنوي في بداية الربيع، يقوم به تيار متعصب من أقباط المهجر لا يستبعد ان تكون وراءه أصابع إسرائيلية، وهو نشاط تواكب هذه المرة مع زيارة لمصر تقوم بها لجنة اميركية للتحقيق في قضايا الحريات الدينية، لأدركنا إلى أي حد تحولت زيارة الرئيس مبارك في واشنطن هذه المرة الى مهمة بدت شبه مستحيلة. وليس بوسع أحد أن ينكر أن أداء الرئيس مبارك في هذه الزيارة كان رفيع المستوى واتسم ليس فقط بالذكاء والحكمة وإنما بالشجاعة أيضاً. فقد ذهب في أحاديثه لوسائل الإعلام المختلفة الى حد التأكيد على أنه لا يمكنه لوم أي فلسطيني مهما فعل لمقاومة كل ما تلحقه به اسرائيل من صنوف العذاب والهوان. ولا يستطيع أحد أن يجادل في حقيقة أن الادارة الاميركية أنصتت باهتمام واحترام الى ما يقوله الرئيس المصري والى تحليلاته ونصائحه. بل وليس من قبيل المبالغة القول إن نغمة الخطاب الاميركي تجاه قضايا المنطقة، وبالذات تجاه القضية الفلسطينية، اختلفت بعض الشيء بعد زيارة مبارك عما كان عليه قبلها. ومع ذلك فقد كشفت هذه الزيارة في الوقت نفسه عن حقائق تظهر بجلاء طبيعة الخلل الكامن لا في العلاقات المصرية - الاميركية وحدها وإنما في العلاقات العربية الاميركية عموما. من هذه الحقائق: 1- ان علاقة الولاياتالمتحدة بإسرائيل هي أهم وأدعى الى الحرص من علاقتها بأي دولة عربية، بما فيها مصر، وأن العلاقات الاميركية - الاسرائيلية أقوى وأبقى من أن تنال منها أي تغييرات طارئة سواء في أشخاص الحكم هنا أو هناك أو في تغيير الظروف. فإسرائيل أصبحت وستظل لفترة طويلة قادمة قضية داخلية اميركية. 2- ان جميع الدول العربية تبدو في علاقاتها مع الولاياتالمتحدة حريصة على الفصل بين القضايا الثنائية وبين غيرها من القضايا، بما في ذلك القضايا الاقليمية وعلى رأسها قضية الصراع العربي - الاسرائيلي، ولا تريد الربط بين ما هو ثنائي وما هو غير ذلك على أي وجه من الوجوه. وفي علاقتها الثنائية بالدول العربية تبدو الولاياتالمتحدة وكأنها تعطي اكثر مما تأخذ وتصبح، من ثم، في موقف يمكنها من أن تطلب فتجاب، حتى لا نقول تأمر فتطاع. وفي هذا السياق تتحول القضايا "الاقليمية" بطبيعة الحال الى قضايا "يتيمة" لا تجد من يدافع عنها أو يساوم الولاياتالمتحدة عليها. 3- ان اسرائيل اصبحت فعلا هي الدولة الوحيدة القادرة، قولاً وعملا، على توظيف علاقتها الثنائية مع الولاياتالمتحدة لخدمة سياستها الخارجية ومصالحها القومية العليا ككل. فهي تستطيع، وبحكم وجودها داخل آليات صنع القرار الاميركي على المستويات كافة، حقن السياسة الخارجية الاميركية تجاه كل دولة عربية في مرحلة صياغتها بمكون إسرائيلي. لذلك كله يبدو لي أن غياب القيادة في النظام العربي هو الذي يشكل المعضلة الحقيقية أمام إمكان العثور على نقطة التوازن المطلوبة في العلاقات العربية - الاميركية. فقد ولى الزمن الذي كان بمقدور دولة عربية واحدة أو زعيم عربي واحد أن يعبئ موارد النظام العربي، رسميا وشعبيا، ويحشدها وراءه دفاعاً عن المصالح العليا لهذا النظام. ولم يعد بوسع أحد أن يدّعي الآن أنه يتحدث باسم النظام العربي ويدافع عن مصالحه في مواجهة الولاياتالمتحدة أو في مواجهة غيرها. فإذا كانت موازين القوى العربية لا تسمح بقيادة أحادية للنظام، ممثلة في دولة أو زعيم، فهل بوسع العالم العربي أن يختار لنفسه قيادة جماعية تنقذ سفينته من الغرق؟. * كاتب مصري